ومن أين في الطبيعة خلق هذا النوع الإنساني على أربعة أضرب:
أحدها: لا من ذكر، ولا من أنثى، كآدم - صلى الله عليه وسلم -.
الثاني: من ذكر بلا أنثى، كحواء صلوات الله عليها.
الثالث: من أنثى بلا ذكر كالمسيح - صلى الله عليه وسلم -.
الرابع: من ذكر وأنثى كسائر النوع؟
ومن أين في الطبيعة والقوة هذا التركيب والتقدير والتشكيل، وهذه الأعضاء والرباطات، والقوى والمنافذ، والعجائب التي ركبت في هذه النطفة المهينة؟
لولا بدائع صنع الله ما وجدت … تلك العجائب في مستقذر الماء
{ياأيها الإنسان ما غرك بربك الكريم * الذي خلقك فسواك فعدلك * في أي صورة ما شاء ركبك} [الانفطار/ 6 ـ 8].
{إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء * هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم} [آل عمران/ 5 ـ 6].
لقد دل ـ سبحانه ـ على نفسه أوضح دلالة بما أشهده كل عبد على نفسه من حاله وحدوثه، وإتقان صنعه، وعجائب خلقه، وآيات قدرته، وشواهد حكمته فيه.
ولقد دعا ـ سبحانه ـ الإنسان إلى النظر في مبدأ خلقه وتمامه، فقال تعالى: {فلينظر الإنسان مم خلق * خلق من ماء دافق * يخرج من بين الصلب والترائب} [الطارق/ 5 ـ 7].
وقال: {ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا} [الحج/5].
وقال تعالى: {وفي الأرض آيات للموقنين * وفي أنفسكم أفلا تبصرون} [الذاريات/ 20 ـ 21].
وهذا في القرآن كثير لمن تدبره وعقله، وهو شاهد منك عليك، فمن أين للطبيعة والقوة المحصورة هذا الخلق والإتقان والإبداع، وتفصيل تلك العظام، وشد بعضها ببعض على اختلاف أشكالها ومقاديرها ومنافعها وصفاتها، ومن جعل في النطفة تلك العروق واللحم والعصب؟
ومن فتح لها تلك الأبواب والمنافذ؟ ومن شق سمعها وبصرها، ومن ركب فيها لسانا تنطق به، وعينين تبصر بهما، وأذنين تسمع بهما، وشفتين؟
ومن أودع فيها الصدر وما حواه من المنافع والآلات التي لو شاهدتها لرأيت العجائب؟
ومن جعل هناك حوضا وخزانة يجتمع فيها الطعام والشراب، وساق إليه مجاري وطرقا ينفذ فيها، فيسقي جميع أجزاء البدن، كل جزء يشرب من مجراه الذي يختص به لا يتعداه {قد علم كل أناس مشربهم} [البقرة/ 60].
ومن أخذ منها تلك القوى التي بها تمت مصالحها ومنافعها؟
ومن أودع فيها العلوم الدقيقة والصنائع العجيبة، وعلمها ما لم تكن تعلم، وألهمها فجورها وتقواها، ونقلها في أطوار التخليق طورا بعد طور، وطبقا بعد طبق إلى أن صارت شخصا حيا ناطقا سميعا بصيرا، عالما متكلما آمرا ناهيا، مسلطا على طير السماء وحيتان الماء، ووحوش الفلوات، عالما بما لا يعلمه غيره من المخلوقات؟ {قتل الإنسان ما أكفره * من أي شيء خلقه * من نطفة خلقه فقدره * ثم السبيل يسره * ثم أماته فأقبره * ثم إذا شاء أنشره} [عبس/ 17 ـ 22].
تحفة المودود بأحكام المولود (ص387 – 385 ط عطاءات العلم)