فصل في أحكام ذبائحهم
قال تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 6].
ولم يختلف السلف أن المراد بذلك الذبائح. قال البخاري: قال ابن عباس: طعامهم ذبائحهم.
وكذلك قال ابن مسعودٍ ومجاهدٌ وإبراهيم وقتادة والحسن وغيرهم.
وقال أحمد بن الحسن الترمذي: سألت أبا عبد الله عن ذبائح أهل الكتاب، فقال: لا بأس بها، فقلت: إلى أي شيء تذهب فيه؟ قال: حديث عبد الله بن مغفَّلٍ يوم فتح خيبر: دُلِّي جِرابٌ من شحمٍ … الحديث.
قال إسحاق: أجاد.
وقال حنبلٌ: سمعت أبا عبد الله يقول: تؤكل ذبيحة اليهودي والنصراني.
وقال إسحاق بن منصورٍ: قال أبو عبد الله: لا بأسَ أن يذبح أهل الكتاب للمسلمين غيرَ النسيكة.
وقال حنبلٌ: سمعت أبا عبد الله قال: لا بأسَ بذبيحة أهل الكتاب إذا هلَّلوا لله وسمَّوا عليه، قال الله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اِسمُ اُللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 122]، والمسلم فيه اسم الله. وما أُهِلَّ لغير الله به مما ذبحوا لكنائسهم وأعيادهم يجتنب ذلك، وأهل الكتاب يسمُّون على ذبائحهم أحبُّ إلي.
وقال مهنا بن يحيى: سألت أبا عبد الله عن ذبائح السامرة، قال: تؤكل، هم من أهل الكتاب.
وقال عبد الله بن أحمد: قال أبي: لا بأسَ بذبائح أهل الحرب إذا كانوا أهلَ الكتاب.
وقال ابن المنذر: أجمع على هذا كلُّ من يُحفظ عنه من أهل العلم.
وتفرَّدت الشيعة دون الأمة بتحريم ذبائحهم، واحتجُّوا بأن الذكاة الشرعية لم تدركها، وبأنه إجماع أهل البيت، وبأن التسمية شرطٌ في الحلِّ، ولا يُعلم أنهم يُسَمُّون، وخبرهم لا يقبل، وبأنهم لو سمَّوا لم يسمُّوا الله في الحقيقة؛ لأنهم غير عارفين بالله. قالوا: والآية مخصوصةٌ بما سوى الذبائح لما ذكرنا من الدليل.
وهذا القول مخالفٌ للكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم، فلا يُلتفت إليه.
وأما احتجاجهم بأن الذكاة الشرعية لم تدركها، فإن أرادوا بالذكاة الشرعية ما أباح الله ورسوله الأكلَ بها فهذه ذكاةٌ شرعيةٌ، وإن أُريد بها ذكاة المسلم لم يلزم من نفيها نفْيُ الحلّ، ويصير الدليل هكذا: لأن ذكاة المسلم لم تُدرِكها، فغيَّروا العبارة وقالوا: لم تدركها الذكاة الشرعية.
وأما قولهم: إنه إجماع أهل البيت، فكذبٌ على أهل البيت. وللشيعة طريقةٌ معروفةٌ، يقولون لكل ما تفرَّدوا به عن جماعة المسلمين: هذا إجماع أهل البيت! وهذا عبد الله بن عباس عالم أهل البيت يقول: كلوا من ذبائح بني تغلب، وتزوَّجوا من نسائهم، فإن الله يقول في كتابه: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51]، فلو لم يكونوا منهم إلا بالولاية لكانوا منهم. قال سليمان بن حربٍ: ثنا حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن عكرمة عنه.
وإنما دخلت عليهم الشبهة من جهة أن عليًّا رضي الله عنه كان يكره ذبائح نصارى بني تغلب.
قال محمد بن موسى: قلت لأبي عبد الله: نصارى بني تغلب تؤكل ذبائحهم؟ فقال: فيما أحسب هذا عن علي: "لا تؤكل ذبائحهم" بإسناد صحيح.
وقال إسحاق بن منصورٍ: سألت أحمد عن ذبائح نصارى بني تغلب، فقال: ما أَثْبَتَه عن علي!
وهذه مسألة تنازع فيها السلف والخلف، وفيها عن أحمد روايتان.
وقال الأثرم: قلت لأحمد: ذبائح نصارى العرب، ما ترى فيها؟ بني تغلب وغيرهم من العرب، فقال: أما علي فكرهها وقال: إنهم لم يتمسَّكوا من دينهم إلا بشرب الخمر، وابن عباس رخَّص فيها. وقد تقدَّمت المسألة.
وأما قولهم: إن التسمية شرطٌ في الحلّ، فلعمر الله إنها لشرطٌ بكتاب الله وسنة رسوله، وأهلُ الكتاب وغيرهم فيها سواءٌ، فلا يؤكل متروك التسمية سواءٌ ذبحه مسلم أو كتابي، لبضعة عشر دليلًا مذكورةٍ في غير هذا الموضع.
وأما قولهم: إنه لا يُعلم هل سمَّى أم لا، فهذا لا يدلُّ على التحريم؛ لأن الشرط متى شقَّ العلمُ به وكان فيه أعظمُ الحرج سقطَ اعتبار العلم به كذبيحة المسلم، فإن التسمية شرطٌ فيها ولا يعتبر العلم بذلك، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل له: إن ناسًا يأتوننا باللحم لا ندري أسمَّوا الله أم لا، فقال: "سَمُّوا أنتم وكلوا".
وقولهم: إن قوله غير مقبولٍ، لو صح ذلك لم يجزْ بيعه ولا شراؤه ولا معاملته ولا أكل طعامه؛ لأنه إنما يستند إلى قوله فيه.
وقولهم: إنهم لا يسمُّون الله لأنهم غيرُ عارفين به= حجةٌ في غاية الفساد؛ فإنهم يعرفون أنه خالقهم ورازقهم ومحييهم ومميتهم وإن جهلوا بعض صفاته أو أكثرها، فالمعرفة التامّة ليست بشرطٍ لتعذُّرها، وأصل المعرفة معهم.
وأما تخصيص الآية بما عدا الذبائح فمخالفٌ لإجماع الصحابة ومن بعدهم، وللسنة الصحيحة الصريحة، ومستلزمٌ لحملها على ما لا فائدة فيه، فإن الفاكهة والحبوب ونحوها لا تسمَّى من طعامهم، بخلاف ذبائحهم، ففهمُ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجماعة المسلمين بعدهم أولى من فهم الرافضة، وبالله التوفيق.
فصل
إذا ثبت هذا فلا فرقَ بين الحربي والمعاهد، لدخولهم جميعًا في أهل الكتاب.
وأما نصارى بني تغلب ففيهم روايتان، وهما قولان للصحابة رضي الله عنهم.
فصل
وهاهنا خمس مسائل:
إحداها: ما تركوا التسمية عليه.
الثانية: ما سمَّوا عليه غير الله.
الثالثة: ما ذبحوه غير معتقدين حلَّه وهو حلالٌ عندنا.
الرابعة: ما ذبحوه معتقدين حلَّه، هل يحرم علينا منه الشحوم التي يعتقدون تحريمها؟
الخامسة: ما ذبحوه فخرج لاصِقَ الرئة، ويسمُّونه الطَّرِيفا، هل يحرم علينا أم لا؟
ونحن نذكر هذه المسائل، واختلاف الناس فيها ومأخذها، بعون الله وتوفيقه.
فأما المسألة الأولى: فمن أباح متروك التسمية إذا ذبحه المسلم، اختلفوا: هل يُباح إذا ذبحه الكتابي؟ فقالت طائفةٌ: يباح؛ لأن التسمية إذا لم تكن شرطًا في ذبيحة المسلم لم تكن شرطًا في ذبيحة الكتابي.
وقالت طائفةٌ: لا يُباح وإن أبيح من المسلم، وفرقوا بينهما بأن اسم الله في قلب المسلم وإن ترك ذكره بلسانه، وهذا مقتضى المنقول عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهو ظاهر نصِّ أحمد، فإن أحمد قال في رواية حنبلٍ: لا بأس بذبيحة أهل الكتاب إذا أهلُّوا بها لله وسمَّوا عليها، قال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اِسمُ اُللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 122]، والمسلم فيه اسم الله. فقد خرج بالفرق كما ترى.
ومن حرَّم متروك التسمية من المسلم فلهم قولان في متروكها من الكتابي:
أحدهما: أنه يباح، وهذا مروي عن عطاءٍ ومجاهدٍ ومكحولٍ.
والثاني: أنه يحرم كما يحرم من المسلم، وهذا قول إسحاق وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم.
فصل
المسألة الثانية: إذا ذكروا اسم غير الله على ذبيحتهم كالزُّهرَة والمسيح وغيرهما، فهل يُلحق بمتروك التسمية فيكون حكمُه حكمَه، أو يحرم قطعًا وإن أبيح متروك التسمية؟ فيه روايتان منصوصتان عن أحمد أصحهما تحريمه.
قال الميموني: سألت أبا عبد الله عمن يذبح من أهل الكتاب ولم يُسمِّ؟ فقال: إن كان مما يذبحون لكنائسهم يَدَعون التسمية فيه على عمدٍ، إنما يذبح للمسيح، فقد كرهه ابن عمر، إلا أن أبا الدرداء يتأوَّل أن طعامهم حلٌّ، وأكثر ما رأيت منه الكراهية لأكل ما ذبح لكنائسهم.
وقال الميموني أيضًا: سألت أبا عبد الله عن ذبيحة المرأة من أهل الكتاب ولم تسمِّ، قال: إن كانت ناسيةً فلا بأس، وإن كان مما يذبحون لكنائسهم قد يدَعون التسمية على عمدٍ.
وقال في رواية ابنه عبد الله: ما ذُبِح للزُّهرة فلا يُعجِبني أكله، قيل له: أحرامٌ أكلُه؟ قال: لا أقول حرامًا، ولكن لا يعجبني.
وقال في رواية حنبلٍ: يجتنب ما ذُبح لكنائسهم وأعيادهم.
وقال أبو البركات في "محرَّره": وإن ذكروا عليه اسم غير الله ففيه روايتان منصوصتان، أصحهما عندي تحريمه.
وقال الشافعي ومالك وأبو حنيفة وأصحابه: لا تؤكل ذبائحهم التي سمَّوا عليها اسم المسيح.
قال القاضي إسماعيل في "أحكام القرآن": وكان أهلُ الكتاب خُصّوا بإباحة ذبيحتهم، حتى كانت قد أُهِلَّ بها لله مع الكفر الذي هم عليه، فخرجت ما أُهلَّ به لغير الله إذ كانوا قد أهلُّوا بها وأشركوا مع الله تعالى.
ولهذا الوضع ــ فيما أحسب ــ اختلف الناس فيما ذبح النصارى لأعيادهم أو ذبحوا باسم المسيح، فكرهه قومٌ لأنهم أخلصوا الكفر عند تلك الذبيحة، فصارت مما أُهِلَّ به لغير الله، ورخَّص في ذلك قومٌ على الأصل الذي أبيح من ذبائحهم.
فأما من بلغنا عنه الرخصة في ذلك فحدثنا علي بن عبد الله، ثنا عبد الرحمن بن مهدي، ثنا معاوية بن صالحٍ، عن أبي الزاهرية، عن عمير بن الأسود السَّكوني قال: أتيت أهلي فإذا كتِفُ شاةٍ مطبوخةٌ، قلت: من أين هذا؟ قالوا: جيراننا من النصارى ذبحوا كبشًا لكنيسة جرجس، قلَّدوه عمامةً وتلقَّوا دمه في طَسْتٍ، ثم طبخوا وأهدوا إلينا وإلى جيراننا. قال: قلت: ارفعوا هذا، ثم هبطتُ إلى أبي الدرداء فسألته، وذكرتُ ذلك له، فقال: اللهم غفرًا، هم أهل الكتاب طعامهم لنا حلٌّ وطعامنا لهم حلٌّ.
ثنا علي عن زيد بن الحباب، أخبرني معاوية بن صالحٍ، حدثني أبو الحكم التُّجيبي، حدثني جرير بن عتبة ــ أو عتبة بن جريرٍ ــ قال: سألت عبادة بن الصامت عن ذبائح النصارى لموتاهم، قال: لا بأس به.
ثنا علي، ثنا الوليد بن مسلم قال: سمعت الأوزاعي عن مكحولٍ فيما ذبحت النصارى لأعياد كذا، قال: كُلْه، قد علم الله ما يقولون وأحلَّ ذبائحهم.
وثنا علي، ثنا الوليد بن مسلم قال: سمعت عبد الرحمن بن يزيد بن جابرٍ يقول: سمعت القاسم بن مُخَيمِرة قال: كُلْها، ولو سمعتُه يقول: "على اسم جرجس" لأكلتُها!
حدثنا علي، ثنا الوليد بن مسلم، ثنا أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفيرٍ عن أبيه قال: كُلْها.
وبه إلى أبي بكر، عن حبيب بن عبيد أن العرباض بن سارية قال: كُلْه.
ثنا سليمان بن حربٍ، ثنا عبد العزيز بن مسلم، عن عبد الملك، عن عطاءٍ في النصراني يذبح ويذكر اسم المسيح، قال: كُلْه، قد أحلَّ اللهُ ذبائحهم، وقد علم ما يقولون.
وذكر عن عطاءٍ أيضًا أنه سئل عن النصراني يذبح ويقول: باسم المسيح، فقال: كل.
وقال إبراهيم في الذمي يذبح ويقول: باسم المسيح، فقال: إذا توارى عنك فكلْ.
وقال عبد الله بن وهبٍ: حدثني حَيْوة بن شريحٍ، عن عقبة بن مسلم التُّجيبي وقيس بن رافعٍ الأشجعي أنهما قالا: حِلٌّ لنا ما يُذبح لعيد الكنائس، وما أُهدِي من خبزٍ أو لحمٍ، وإنما هو طعام أهل الكتاب. قال حيوة: فقلت أرأيت قول الله: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اِللَّهِ بِهِ} [المائدة: 4]، فقال: إنما ذلك المجوس وأهل الأوثان والمشركون.
وقال أيوب بن نجيحٍ: سألت الشعبي عن ذبائح نصارى العرب، فقلت: منهم من يذكر الله، ومنهم من يذكر المسيح، فقال: كُلْ وأطعِمْني.
قال القاضي إسماعيل: وأما من بلغنا عنه أنه كره ذلك، فحدثنا محمد بن أبي بكرٍ، ثنا ابن مهدي، عن قيسٍ، عن عطاء بن السائب، عن زاذان، عن علي: قال إذا سمعت النصراني يقول: "باسم المسيح" فلا تأكل، وإذا لم تسمع فكُلْ، فقد أُحِلّ ذبائحهم.
حدثنا علي، ثنا جرير، عن قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه أن امرأةً سألت عائشة فقالت: إنَّ لنا أظآرًا من العجم لا يزالون يكون لهم عيدٌ، فيُهْدون لنا فيه أفنأكلُ منه؟ فقالت: أما ما ذُبح لذلك اليوم فلا تأكلوا منه، ولكن كلوا من أشجارهم.
حدثنا علي، ثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن عبيد الله، عن نافعٍ، عن ابن عمر قال: ما ذُبِح للكنيسة فلا تأكلْه.
وقال حمادٌ: كُلْ ما لم تسمعهم أهلُّوا به لغير الله. وكرهه مجاهدٌ وطاوسٌ، وكرهه ميمون بن مهران.
وقال القاضي إسماعيل: وكان مالك يكره ذلك من غير أن يوجب فيه تحريمًا.
قال المبيحون: هذا من طعامهم، وقد أباح الله لنا طعامهم من غير تخصيصٍ، وقد علم سبحانه أنهم يسمُّون غيرَ اسمه.
قال المحرِّمون: قد صرَّح القرآن بتحريم ما أُهِلَّ به لغير الله، وهذا عامٌّ في ذبيحة الوثني والكتابي إذا أهلَّ بها لغير الله، وإباحة ذبائحهم وإن كانت مطلقةً لكنها مقيدةٌ بما لم يهلُّوا به لغيره، فلا يجوز تعطيل المقيّد وإلغاؤه، بل يُحمل المطلق على المقيّد.
قال الآخرون: بل هذا من باب العام والخاص، فأما ما أهلَّ به لغير الله عامٌّ في الكتابي وغيره، خصَّ منه ذبيحة الكتابي فبقيت الآية على عمومها في غيره.
قال الآخرون بل قوله تعالى: {وَطَعَامُ اُلَّذِينَ أُوتُوا اُلْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ} [المائدة: 6]، عامٌّ فيما أهلُّوا به لله وما أهلُّوا به لغيره، خصَّ منه ما أهلَّ به لغيره، فبقي اللفظ على عمومه فيما عداه، قالوا: وهذا أولى لوجوهٍ.
أحدها: أنه قد نصَّ سبحانه على تحريم ما لم يُذكر عليه اسمه، ونهى عن أكله، وأخبر أنه فسقٌ. وهذا تنبيهٌ على أن ما ذُكر عليه اسم غيره أشدُّ تحريمًا وأولى بأن يكون فسقًا.
الثاني: أن قوله: {وَطَعَامُ اُلَّذِينَ أُوتُوا اُلْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ} قد خُصَّ بالإجماع، وأما ما أُهِلَّ به لغير الله فلم يُخصَّ بالإجماع، فكان الأخذ بالعموم الذي لم يُجمَع على تخصيصه أولى من العموم الذي قد أُجمِع على تخصيصه.
الثالث: أن الله سبحانه قال: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} [البقرة: 172]، فحصر التحريم في هذه الأربعة، فإنها محرَّمةٌ في كل ملةٍ، لا تباح بحالٍ إلا عند الضرورة، وبدأ بالأخفِّ تحريمًا ثم بما هو أشدُّ منه، فإن تحريم الميتة دون تحريم الدم، فإنه أخبث منها، ولحم الخنزير أخبث منهما، وما أهلَّ به لغير الله أخبث الأربعة.
ونظير هذا قوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 31]، فبدأ بالأسهل تحريمًا ثم ما هو أشدُّ منه إلى أن ختم بأغلظ المحرمات، وهو القول عليه بلا علمٍ. فما أُهِلَّ به لغير الله في الدرجة الرابعة من المحرمات.
الرابع: أن ما أهلَّ به لغير الله لا يجوز أن تأتي شريعةٌ بإباحته أصلًا، فإنه بمنزلة عبادة غير الله. وكل ملةٍ لا بدَّ فيها من صلاةٍ ونسكٍ، ولم يشرع الله على لسان رسولٍ من رسله أن يصلي لغيره، ولا ينسك لغيره، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} [الأنعام: 164 - 165].
الخامس: أن ما أُهلَّ به لغير الله تحريمه من باب تحريم الشرك، وتحريم الميتة والدم ولحم الخنزير من باب تحريم الخبائث والمعاصي.
السادس: أنه إذا خُصَّ من طعام الذين أوتوا الكتاب ما يستحلُّونه من الميتة والدم ولحم الخنزير؛ فلأن يُخصَّ منه ما يستحلُّونه مما أهِلَّ به لغير الله أولى وأحرى.
السابع: أنه ليس المراد من طعامهم ما يستحلُّونه وإن كان محرمًا عليهم، فهذا لا يمكن القول به، بل المراد به ما أباحه الله لهم فلا يحرم علينا أكله، فإن الخنزير من طعامهم الذي يستحلُّونه ولا يُباح لنا، وتحريم ما أهلَّ به لغير الله عليهم أعظم من تحريم الخنزير. وسرُّ المسألة أن طعامهم ما أبيح لهم، لا ما يستحلُّونه مما حرِّم عليهم.
الثامن: أن باب الذبائح على التحريم إلا ما أباحه الله ورسوله، فلو قُدِّر تعارضُ دليلَي الحظر والإباحة لكان العمل بدليل الحظر أولى، لثلاثة أوجهٍ.
أحدها: تأيُّدُه بالأصل الحاظر.
الثاني: أنه أحوط.
الثالث: أن الدليلين إذا تعارضا تساقطا، ورجع إلى أصل التحريم.
فصل
المسألة الثالثة: إذا ذبحوا ما يعتقدون تحريمه كالإبل والنَّعام والبطّ وكل ما ليس بمشقوق الأصابع، هل يحرم على المسلم؟ اختُلف فيه:
فأباحه الشافعي وأبو حنيفة وأحمد في ظاهر مذهبه، وهو قول جمهور أصحابه.
وحكى ابن أبي موسى في "الإرشاد" أنه لا يباح ما ذكاه اليهود من الإبل.
ووجهُ هذا: أنه ليس من طعام المذكِّي، ولأنه ذبحٌ لا يعتقد الذابح حلَّه فهو كذبيحة المُحرِم. ولأن لاعتقاد الذابح أثرًا في حلِّ الذبيحة وتحريمها. ولهذا لو ذبح المسلم ما يعتقد أنه لا يَحلُّ له ذبحُه ــ كالمغصوب ــ كان حرامًا، فالقصد يؤثِّر في التذكية كما يؤثِّر في العبادة. وهذا مذهب مالك، واحتج أصحابه على ذلك بقوله تعالى: {وَعَلَى اَلَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} [الأنعام: 147]، ولما كانت حرامًا عليهم لم تكن تذكيتهم لها ذكاةً، كما لا يكون ذبح الخنزير لنا ذكاةً.
وهذا الدليل مبني على ثلاث مقدماتٍ:
إحداها: أن ذلك حرامٌ عليهم، وهذه المقدمة ثابتةٌ بنصّ القرآن.
الثانية: أن ذلك التحريم باقٍ لم يزل.
الثالثة: أنهم إذا ذبحوا ما يعتقدون تحريمه لم تؤثِّر الذكاة في حلِّه.
فأما الأولى فهي ثابتةٌ بالنص.
وأما الثانية فالدليل عليها أنَّ سبب التحريم باقٍ، وهو العدوان، قال تعالى: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الأنعام: 147]، وبغيهم لم يزل بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم، بل زاد البغي منهم، فالتحريم تغلَّظ بتغلُّظ البغي. يوضحه أن رفع ذلك التحريم إنما هو رحمةٌ في حقّ من اتبع الرسول، فإن الله وضع عن أتباعه الآصار والأغلال التي كانت عليهم قبل مبعثه، ولم يَضَعْها عمن كفر به، قال تعالى: {اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلرَّسُولَ اَلنَّبِيَّ اَلْأُمِّيَّ اَلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157].
وأما المقدمة الثالثة، وهو أنهم إذا ذبحوا ما يعتقدون تحريمه لم يؤثِّر ذلك في الحلّ، فقد تقدَّم تقريرها.
فصل
المسألة الرابعة: إذا ذبحوا ما يعتقدون حلَّه، فهل تحرم علينا الشحوم المحرمة عليهم؟ هذا مما اختُلِف فيه.
قال عبد الله بن أحمد: وسألت أبي عن الشحوم، تحرم على اليهود؟ فقال: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الأنعام: 147]، قال: والقرآن يقول: {حَرَّمْنَا}، وقال في آيةٍ أخرى بعد سورة المائدة: {وَعَلَى اَلَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا} [الأنعام: 147]، يعني نزل بعد: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5]، قلت: فيحلُّ لمسلم أن يطعم يهوديًّا شحمًا؟ قال: لا؛ لأنه محرَّمٌ عليه.
وقال مهنا: حدثني أحمد عن الزبيري عن مالك، في اليهودي يذبح الشاة، قال: لا يأكل من شحمها، قال أحمد: هذا مذهب دقيقٌ.
فاختلف أصحابه في ذلك: فذهب ابن حامدٍ وأبو الخطاب وجماعةٌ إلى الإباحة، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة.
وذهب القاضي وأبو الحسن التميمي إلى التحريم، وصنَّف فيه التميمي مصنَّفًا ردَّ فيه على من قال بالإباحة، واختاره أبو بكر أيضًا.
وذهب مالك إلى الكراهة، وهي عنده مرتبةٌ بين الحظر والإباحة.
قال المبيحون: القول بالتحريم خلاف القرآن والسنن والمعقول.
أما القرآن فإن الله تعالى يقول: {وَطَعَامُ اُلَّذِينَ أُوتُوا اُلْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ} [المائدة: 6]. قالوا: وقد اتفقنا على أن المراد بذلك ما ذبحوه، لا ما أكلوه؛ لأنهم يأكلون الخنزير والميتة والدم.
قالوا: وقد جاء القرآن وصح الإجماع بأن دين الإسلام نسخَ كل دينٍ كان قبله، وأن من التزم ما جاءت به التوراة والإنجيل ولم يتبع القرآن فإنه كافرٌ، وقد أبطل الله كلَّ شريعةٍ كانت في التوراة والإنجيل وسائر الملل، وافترض على الجن والإنس شرائعَ الإسلام، فلا حرامَ إلا ما حرَّمه الإسلام، ولا فرضَ إلا ما أوجبه الإسلام.
وأما السنة فحديث عبد الله بن مغفَّلٍ الذي رواه البخاري في "صحيحه" أن جِرابًا من شحمٍ يوم خيبر دُلِّي من الحصن، فأخذه عبد الله بن مغفَّلٍ وقال: والله لا أعطي أحدًا منه شيئًا، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقرَّه على ذلك.
وثبت في "الصحيح" أن يهوديةً أهدَتْ لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاةً، فأكل منها، ولم يُحرِّم شحم بطنها ولا غيره.
قالوا: وأما المعقول فمن المحال الباطل أن تقع الذكاة على بعض شحم الشاة دون بعضها.
قالوا: وقد قال تعالى: {وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ}، وهذا محض طعامنا.
قالوا: وقد قال لهم المسيح: {وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ اَلَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران: 49]، وقد أحلَّ سبحانه لهم الطيبات على لسان رسوله، وهذا من الطيبات.
قال ابن حزمٍ: ويُسألون عن الشحم والجمل أحلالٌ هما اليوم لليهود أم هما حرامٌ إلى اليوم؟ فإن قالوا: بل هما حرامٌ عليهم إلى اليوم كفروا بلا مريةٍ، إذ قالوا: إن ذلك لم ينسخه الله تعالى. وإن قالوا: بل هما حلالٌ لهم صدقوا، ولزِمَهم تركُ قولهم الفاسد.
قال: ونسألهم عن يهودي مستخفٍّ بدينه ذبح شاةً يعتقد حلَّ شحمها، هل يحرم علينا الشحم أم لا؟ فإن قلتم: يحرم علينا كان محالًا، فإنه ذكَّى ما يعتقد حلَّه ونحن نعتقد حلَّه، فمن أين جاء التحريم؟ وإن قلتم: لا يحرم علينا كانت ذبيحة هذا المستخفِّ بدينه أحسنَ حالًا من ذبيحة المتمسك بدينه، وهذا محالٌ.
قال: ويلزمهم أن لا يستحلُّوا أكْلَ ما ذبحه يهودي يومَ سبتٍ، ولا أكْلَ حيتانٍ صادها يهودي يوم سبتٍ، وهذا مما تناقضوا فيه.
قال: وقد روينا عن عمر بن الخطاب، وعلي، وابن مسعودٍ، وعائشة أم المؤمنين، وأبي الدرداء، وعبد الله بن يزيد، وابن عباس، والعرباض بن سارية، وأبي أمامة، وعبادة بن الصامت، وابن عمر رضي الله عنهم = إباحةَ ما ذبحه أهل الكتاب دون اشتراطٍ لما يستحلُّونه. وكذلك عن جمهور التابعين، لم نجد عن أحدٍ هذا القول إلا عن قتادة، ثم عن مالك وعبيد الله بن الحسن، وهذا مما خالفوا فيه طائفةً من الصحابة لا مخالفَ لهم، وخالفوا فيه جمهورَ العلماء.
قال المحرِّمون: إنما أباح الله سبحانه لنا طعام الذين أوتوا الكتاب، والشحوم المحرمة عليهم ليست من طعامهم، فلا تكون لنا مباحةً، والمقدمتان ظاهرتان غنيتان عن التقرير.
قالوا: ولأنه شحمٌ محرَّمٌ على ذابحه، فكان محرَّمًا على غيره بطريق الأولى، فإن الذكاة إذا لم تعمل في حلِّه بالنسبة إلى المذكِّي لم تعمل في حلِّه بالنسبة إلى غيره، وهذا كذبح المُحرِم الصيد، فإنه لما كان حرامًا عليه، ولم تُفِدِ الذكاةُ الحلَّ بالنسبة إليه، لم تُفِده بالنسبة إلى الحلال.
قالوا: وطردُ هذا تحريم الجمل إذا ذبحه اليهودي.
قالوا: وأيضًا فللقصد تأثيرٌ في حلّ الذكاة كما تقدَّم، فإذا كان الذابح غير قاصدٍ للتذكية لم تحلَّ ذكاتُه، ولا ريبَ أنه غير قاصدٍ لتذكية الشحم، فإنه يعتقد تحريمه وأنه بمنزلة الميتة.
قالوا: ولا محذورَ في تجزُّء الذكاة، فيحلُّ بها بعض المذكَّى دون بعضٍ، فيكون ذكاةً بالنسبة إلى ما يعتقد المذكِّي حلَّه وليس ذكاةً بالنسبة إلى ما يعتقد تحريمه، فإن ما يأكله يعتقد ذكاته ويقصدها، وما لا يأكله لا يعتقد ذكاته ولا يقصدها فصار كالميتة.
قالوا: والمعتمد في المسألة أن الله سبحانه حرَّم ذلك عليهم، والتحريم باقٍ لم يُنسَخ إلا عمن التزم الشريعة الإسلامية، ويدلُّ على بقاء التحريم وجوهٌ:
أحدها: أن الله سبحانه أخبر بأنه حرَّمه ولم يُخبِر بأنه نسخَه بعد تحريمه، وإنما يزول التحريم عمن التزم الإسلام.
الثاني: أنه علَّل التحريم بالبغي، وهو لم يزل بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم.
الثالث: ما في "الصحيح" عن جابرٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله اليهودَ حُرِّمتْ عليهم الشحومُ فجَمَلُوها، فباعوها وأكلوا أثمانَها".
وفي "المسند" عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لعن الله اليهود حُرِّمت عليهم الشحومُ، فباعوها وأكلوا أثمانَها، وإنَّ الله لم يُحرِّم على قومٍ أكلَ شيءٍ إلا حرَّم عليهم ثمنَه".
فلو كان التحريم قد زال عنهم لم يلعنهم على فعل المباح.
قالوا: ولا يمتنع ورود الشرع بإقرارهم على آصارهم وأغلالهم تغليظًا عليهم، وقد قال تعالى: {إِنَّمَا جُعِلَ اَلسَّبْتُ عَلَى اَلَّذِينَ اَخْتَلَفُوا فِيهِ} [النحل: 124]، فأخبر أنه جعل عليهم، ولم يخبر بأنه رفعه عنهم، وإنما يرفع عمن التزم أحكام الإسلام.
وفي بقاء تحريمه عليهم قولان للفقهاء، وهما وجهان في مذهب أحمد، وعلى أحد القولين نُلزمهم به، ولا نُمكِّنهم من كسره.
وقد نصَّ أحمد على بقاء تحريم الشحوم عليهم، فقال في رواية ابنه عبد الله: لا يحلُّ لمسلمٍ أن يُطعِم يهوديًّا شحمًا، لأنه محرَّمٌ عليه.
قال أبو بكر عبد العزيز: ويدلُّ على التحريم أن المسلم لما لم تعمل ذكاته فيما حرم عليه، فاليهودي أولى.
قال: فذكاة اليهودي لا تعمل في الشحم، كما لا تعمل ذكاة المسلم في الغُدَّة وأُذنِ القلب، لنهي النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: وقد نصَّ أحمد على ذلك، فقال ابن منصورٍ: قلت لأحمد: آكل أذن القلب؟ فقال: لا تؤكل. وقال عبد الله: قلت لأبي: الغدة؟ فقال: لا تؤكل، النبي صلى الله عليه وسلم كرهها.
وقد روى الدارقطني من حديث بقية بن الوليد، عن أبي المنذر، عن عبد الله بن زيدٍ، عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم سألها عن أذن القلب، فقالت: ألقيتُها، فقال: "طابت قِدْرُكِ وحلَّ أكلُه".
وقال أبو طالب: قلت لأحمد: حدَّثوني عن عبد الله بن يحيى بن أبي كثيرٍ، فقال: ثقةٌ، ثم قال: من حدَّثك عنه؟ قلت: مسددٌ، قال: سمع منه باليمامة، قلت: رواه عن أبيه عن رجل من الأنصار أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أذن القلب. فقال: نعم هكذا، قلت: ما هذا الحديث؟ قال: نهى عن أكل أذن القلب.
قالوا: وقد ثبت أن القصد في الذكاة معتبرٌ، ولهذا اختلفت باختلاف المذكِّين، وعكسه إزالة النجاسة، لما لم يكن القصد فيها معتبرًا لم يعتبر باختلاف المُزِيلين.
قالوا: وأما حديث عبد الله بن مغفَّلٍ فجوابه من وجوهٍ:
أحدها: أنه لم يقل: "فأخذتُه فأكلتُه"، فلعله أخذه لغير الأكل.
الثاني: أنه لعله كانت رغبته في الظرف لا في المظروف.
الثالث: لعله كان مضطرًّا إلى أكله فلم ينهَه عنه.
الرابع: أنه لعله من ذبيحة مسلم، ولا يتعيَّن أن يكون من ذبيحة كتابي.
وهذا من أفسد الأجوبة، فإنه دُلِّي من الحصن والمسلمون محاصروه.
الخامس ــ وهو أصح الأجوبة ــ: أنه لا يتعيَّن كونه من الشحم المحرَّم عليهم، بل الظاهر أنهم إنما كانوا يأكلون الشحوم المباحة لهم، فيجوز لنا أكلُه كما يجوز لنا أكلُ ذبائحهم وأطعمتهم، والظاهر أنه من شحم الظهر والحوايا وما اختلط بعظمٍ، فإنه هو الشحم الذي كانوا يأكلونه.
وأما أكل النبي صلى الله عليه وسلم من الشاة التي ذبحتها اليهودية فإنها كانت شاةً مشويَّةً، والشاة إنما تُشوى بعد نزْعِ شحمها، وهو إنما أكل من الذراع وليس بحرامٍ.
وأما قولكم: إنه من المحال أن تقع التذكية على بعض الشاة دون بعضٍ، فهذا ليس بمحالٍ عقلًا ولا شرعًا أن تعمل الذكاة فيما يباح من الشاة دون ما يحرم منها أو يُكره، والشريعة طافحةٌ من تبعُّض الأحكام، وهو محض الفقه.
وقد جعل الله سبحانه البنتَ من الرضاعة بنتًا في الحرمة والمَحْرمة، وأجنبيةً في الميراث والإنفاق. وكذلك بنت الزنا عند جمهور الأمة بنتٌ في تحريم النكاح، وليست بنتًا في الميراث. وكذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم ابنَ وليدة زَمْعة أخًا لـ [سودة بنت] زَمْعة في الفراش، وأجنبيًّا في النظر لأجل الشَّبه بعتبة. فلا يستحيل أن تكون الشاة مذكَّاةً بالنسبة إلى اللحم والشحم المباح، غيرَ مذكَّاةٍ بالنسبة إلى الشحم المحرَّم.
وأما استدلالكم بقوله تعالى: {وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ} [المائدة: 6]، وأن هذه الشحوم من طعامنا، فلَعمرُ الله إنها من طعامنا إذا ذكّاها المسلم ومن تَحِلُّ له، فأما إذا ذكَّاها من يعتقد تحريمها فليست في هذه الحال من طعامه ولا من طعامنا.
وأما استدلالكم بقول المسيح: {وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ اَلَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران: 49]، وبقوله تعالى عن محمد صلى الله عليه وسلم: {وَيُحِلُّ لَهُمُ اُلطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمِ اِلْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157]، فهذا الإحلال إنما هو لمن آمن بالمسيح وبمحمد نعمةً من الله عليه وكرامةً له، لا لمن أصرَّ على كفره وتكذيبه، وإنما هو لمن التزم الشريعةَ التي جاءت بالحلِّ.
وأما سؤال ابن حزمٍ: هل الجمل والشحم اليوم حرامٌ عليهم أم حلالٌ لهم؟ فإن قالوا: حرامٌ عليهم كفروا، وإن قالوا: حلالٌ تركوا قولهم= فكلامُ متهوِّرٍ مُقْدِمٍ على تكفير من لم يكفِّره الله ورسوله، وعلى التكفير بظنّه الفاسد، ولا يستحقُّ هذا الكلام جوابًا لخلوِّه عن الحجة. وهم يَقلِبُون عليه هذا السؤال فيقولون له: نحن نسألك هل أحلَّ الله لهم هذه الشحوم مع إقامتهم على كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم فأباحها لهم وطيَّبها في هذه الحال، أم بقَّاهم على ما هم عليه من الآصار والأغلال؟ فإن قلت: بل أباحها لهم وطيَّبها وأحلَّها مع بقائهم على اليهودية وتكذيبِ رسوله، فهذا كفرٌ وكذبٌ على الله وعلى كتابه. وإن قلت: بقَّاهم على ما هم عليه تركتَ قولك وصرتَ إلى قولنا. فلا بدَّ لك من واحدٍ من هذين الأمرين، وأحسنُ أحوالك أن تتناقض، لِتسلَم بتناقضِك من الكفر.
وأما سؤالك عن ذبيحة المستخفِّ بدينه الذي يعتقد حلَّ الشحوم، فهذا السؤال جوابه فيه، فإنه متى اعتقد حلَّ الشحوم خرج عن اليهودية: إما إلى الإسلام، وإما إلى الزندقة، فإن تحريم الشحوم ثابتٌ بنصِّ التوراة، فإن كذَّب التوراة وأقام على يهوديته فليس بيهودي ولا تحلُّ ذبيحته. وإن آمن بالتوراة واعتقد حلَّ الشحوم؛ لأن شريعة الإسلام أبطلتْ ما سواها من الشرائع، والواجب اتباعها= فهذا الاعتقاد حقٌّ، ولكن لا يُبيح له الشحومَ المحرَّمة إلا بالتزام شريعة الإسلام التي رفع الله بها عنهم الآصار والأغلال، فإذا لم يلتزم شريعة الإسلام وأقام على اليهودية لم ينفعه اعتقاده دون انقياده شيئًا. كما لو اعتقد أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينقَدْ للإسلام ومتابعته.
وأما قوله: ويلزمهم أن لا يأكلوا ما ذبحه يهودي يوم سبتٍ، فهذا لا يمنع أن يلتزموه، فإنهم إن اعتقدوا تحريمَ ما ذبحوه يومَ السبت كان بمنزلة ما ذبحوه من دوابِّ الظُّفُر، وإن لم يعتقدوا تحريمه كان من طعامهم، فكان حلالًا. ولأصحاب هذا القول في بقاء تحريم السبت عليهم قولان.
وأما صيدُهم الحيتانَ يوم السبت فخفي على أبي محمد أن غايتها أن تكون ميتةً، وميتة السمك حلالٌ، ولهذا لا يحرم ما صاده منه المجوسي والوثني في أصحِّ قولي العلماء، وهما روايتان عن الإمام أحمد في السمك والجراد، فلم يتناقضوا فيه كما زعمتَ.
وأما فتاوى من ذكرتَ من الصحابة بحلِّ ذبائح أهل الكتاب فنعم، لعَمْر الله لا يُعرف عنهم فيها خلافٌ، وليس الكلام فيها، والصحابة إنما أفتَوا بحلِّ جنس ذبائحهم، وأنها تخالف ذبائح المجوس، ولم يريدوا بذلك حلَّ ما لا يعتقدونه من ذبائحهم وأطعمتهم، فلا يُحفظ عن الصحابة التصريحُ بهذا ولا هذا، وبالله التوفيق.
المسألة الخامسة: في الطَّرِيفا، وهو ما لصِقَتْ رئتُه بالجَنْب، هل يحرم علينا لكونهم لا يعتقدون حلَّه أم لا؟ فالجمهور لا يحرمونه، وهذا هو الصواب قطعًا؛ لأن تحريم هذا إنما عُلِم من جهتهم لا بنصّ التوراة، فلا يُقبل قولهم فيه، بخلاف تحريم ذي الظُّفر والشحوم المحرمة.
وقد ذكرنا في كتاب "الهداية" سبب هذا التحريم، ومن أين نشأ، وأن التوراة لم تُحرِّمه، وأنهم غلطوا على التوراة في تحريمه، وذكرنا نصَّ التوراة وأنهم حملوه على غير محمله.
وذهب أصحاب مالك إلى تحريمه طردًا لهذا الأصل، وأنه ليس من طعامهم. وهذا ليس بمنصوصٍ عن مالك ولا هو مقتضى أصوله، والذابح في هذه الصورة اعتقد حلَّ المذبوح وأنه من طعامه، بخلاف ذابحِ ذي الظفر، وتحريم هذا غير ثابتٍ بالنص، بخلاف تحريم ذي الظفر، فلا يصح إلحاق أحدهما بالآخر، والله أعلم.
أحكام أهل الذمة - ط عطاءات العلم (1/ 344 - 374)