الباب الحادي والعشرون في أسماء الجنَّة ومعانيها واشتقاقها
ولها عِدَّةُ أسماءٍ باعتبار صفاتها، ومسماها واحد باعتبار الذَّات، فهي مترادفة من هذا الوجه، وتختلف باعتبار الصفات فهي متباينة من هذا الوجه، وهكذا أسماء الرب تعالى وأسماء كتابه، وأسماء رسوله، وأسماء اليوم الآخر، وأسماء النَّار.
الاسم الأوَّل: الجنَّة:
وهو الاسم العام المتناول لتلك الدار، وما اشتملت عليه من أنواع النَّعيم والَّلذة والبهجة والسرور وقرَّة الأعين.
وأصل اشتقاق هذه اللفظة من السِّتر والتغطية. ومنه الجنين: لاستتاره في البطن، والجان: لاستتاره عن العيون، والمِجَن: لستره، ووقايته الوجه، والمجنون: لاستتار عقله وتواريه عنه، والجانّ: وهي الحية الصغيرة الدقيقة، ومنه قول الشاعر:
فَدَقَّتْ وَجَلَّتْ واسْبَكرَّتْ وأكملت … فلوجُنَّ إنسانٌ من الحُسن جُنَّت
أي لو غُطِّي وسُتِرَ عن العيون لفُعِلَ بها ذلك، ومنه سمِّي البستان جَنَّة؛ لأنَّه يستر داخله بالأشجار ويغطِّيه، فلا يستحق هذا الاسم إلَّا موضع كثير الشَّجَر مختلف الأنواع، والجُنَّة -بالضَّمِّ- ما يُسْتَجَنُّ به من تُرْسٍ أو غيره.
ومنه قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المجادلة: 16] أي: يَتَترَّسُونَ بها من إنكار المؤمنين عليهم.
ومنه الجِنَّة : -بالكسر- وهو الجِنُّ، كما قال تعالى: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [الناس: 6]، وذهبت طائفة من المفسرين إلى أنَّ الملائكة يسمون جِنَّة، واحتجوا بقوله تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} [الصافات: 158] قالوا: وهذا النسب قولهم: الملائكة بناتُ اللَّهِ، ورجحوا هذا القول بوجهين:
أحدهما: أنَّ النَّسب الَّذي جعلوه إنَّما زعموا أنَّه بين الملائكة وبينه، لا بين الجِنّ وبينه.
الثاني: قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} [الصافات: 158]. أي: قد علمت الملائكة أنَّ الَّذين قالوا هذا القول محضرون العذاب .
والصحيح خلاف ما ذهب إليه هؤلاء، وأنَّ الجِنَّة هم الجن أنفسهم كما قال تعالى: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [الناس: 6].
وعلى هذا ففي الآية قولان:
أحدهما: قول مجاهد، قال: "قالت كفار قريش: الملائكة بناتُ اللَّهِ، فقال لهم أبو بكر: فمن أمهاتهم؟ فقالوا: سَرَوات الجن" .
وقال الكلبي: "قالوا تزوج من الجن فخرج من بينهما الملائكة" .
وقال قتادة: "قالوا: صاهر الجِن" .
والقول الثاني: قول الحسن قال: "أشركوا الشياطين في عبادة اللَّهِ، فهو النسب الَّذي جعلوه" .
والصحيح قول مجاهد وغيره، وما احتج به أصحاب القول الأوَّل ليس بمستلزم لصحة قولهم؛ فإنَّهم لمَّا قالوا الملائكة بناتُ اللَّهِ، وهم من الجِنِّ عقدوا بينه وبين الجنِّ نسبًا بهذا الإيْلاد، أو جَعَلُوا هذا النَّسَبَ متولِّدًا بينه وبين الجِنَّة. وأمَّا قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} فالضمير يرجعَ إلى الجِنَّة، أي: قد علمت الجِنَّة أنَّهم محضرون الحساب، قاله مجاهد. أي لو كان بينه وبينهم نسَب لم يحضروا الحساب، كما قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} [المائدة: 18]، فجعل سبحانه وتعالى عقوبتهم بذنوبهم وإحضارهم للعذاب مبطلًا لدعواهم الكاذبة، وهذا التقدير في الآية أبلغ في إبطال قولهم من التقدير الأوَّل، فتأمله، والمقصود ذكر أسماء الجنَّة.
فصل
الاسم الثاني: دارُ السَّلام:
وقد سمَّاها اللَّهُ تعالى بهذا الاسم في قوله: {لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الأنعام: 127]، وقوله {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ} [يونس: 25]، وهي أحقُّ بهذا الاسم، فإنَّها دار السلامة من كلِّ بليةٍ وآفةٍ ومكروهٍ، وهي دار اللَّهِ، واسمه سبحانه وتعالى السَّلام الَّذي سلَّمها، وسلَّم أهلها: {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ} [يونس: 10]، {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} [الرعد: 23، 24]، والرب تعالى يسلم عليهم من فوقهم، كما قال تعالى: {لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 57، 58]، وسيأتي حديث جابر في سلام الربِّ تبارك وتعالى عليهم في الجنَّة، وكلامهم كلُّه فيها سلام، أي: لا لغو فيه ولا فحش ولا باطل، كما قال تعالى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا} [مريم: 62].
وأمَّا قوله تعالى: {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة: 90 - 91] فأكثر المفسرين حامُوا حولَ المعنى وما ورَدُوْهُ، وقالوا أقوالًا لا يخفى بُعْدها عن المقصود؛ وإنَّما معنى الآية واللَّه أعلمُ: فسلام لك أيُّها الرَّاحِلُ عن الدنيا حالَ كونك من أصحاب اليمين، أي: فسلامه لك كائنًا من أصحاب اليمين الَّذين سَلِمُوا من الدنيا وأنكادها، ومن النَّار وعذابها، فَبُشِّر بالسَّلامة عند ارتحاله من الدنيا، وقدومه على اللَّهِ تعالى، كما يُبَشر الملك رُوْحَه عند أخذها بقوله: "أبشري برَوْحٍ وَرَيْحَانِ وربٍّ غير غضبان" ، وهذا أوَّل البُشرى التي للمؤمن في الآخرة.
فصل
الاسم الثالث: دار الخلد.
وسُمِّيت بذلك؛ لأنَّ أهلها لا يظعنون عنها أبدًا، كما قال تعالى: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 108] وقال: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} [ص: 54]، وقال: {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} [الرعد: 35] وقال: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر: 48].
وسيأتي إبطال قول من قال من الجهمية والمعتزلة بفنائها، أو فناء حركاتِ أهلها إنْ شاء اللَّهُ تعالى.
فصل
الاسم الرَّابع: دار المُقامة.
قال تعالى: حكاية عن أهلها: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ} [فاطر: 34 - 35].
قال مُقَاتِل: "أنزلنا دار الخلود، أقاموا فيها أبدًا، لا يموتون، ولا يتحولون منها أبدًا".
قال الفرَّاء والزَّجاج: "المقامة مثل الإقامة، يقال: أقمتُ بالمكان إقامة، ومقامة، ومقامًا".
فصل
الاسم الخامس: جنَّة المأوى.
قال تعالى: {عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} [النجم: 15] والمأوى: مَفْعَل من أوى يأوي، إذا انضمَّ إلى المكان، وصار إليه واستقرَّ به.
وقال عطاء عن ابن عباس: "هي الجنَّة التي يأوي إليها جبريل والملائكة".
وقال مقاتل والكلبي: "هي جنَّة تأوي إليها أرواح الشهداء".
وقال كعب: "جنَّة المأوى: جنَّةٌ فيها طير خضر ترتعي فيها أرواح الشهداء".
وقالت عائشة رضي الله عنها، وزِرُّ بن حُبَيْش: "هي جنَّة من الجنان".
والصحيح أنَّه اسمٌ من أسماء الجنَّة كما قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40 - 41]، وقال في النَّار: {فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 39] وقال: {وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ} [العنكبوت: 25].
فصل
الاسم السادس: جنَّات عدن.
فقيل: هو اسم لجنَّةٍ من جملة الجنَّات، والصحيح أنَّه اسمٌ لِجُملة الجنَّات، فكلها جنَّات عدن، قال تعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ} [مريم: 61]، وقال تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [فاطر: 33]، وقال تعالى: {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} [الصف: 12]. والاشتقاق يدلُّ على أنَّ جميعها جنَّاتُ عدنٍ، فإنَّه من الإقامة والدَّوامِ. يقال: عَدَن بالمكان: إذا أقام به، وَعَدَنْتُ البلد: توطَّنْتُهُ، وعَدَنتِ الإبل بمكان كذا: لَزِمَتْهُ فلم تبرح منه.
قال الجوهري: "ومنه جنَّات عدن أي جنَّات إقامة، ومنه سمي المَعْدِن -بكسر الدَّالِ-؛ لأنَّ النَّاس يقيمون فيه الصيف والشتاء، ومركز كل شيءٍ معدنه. والعادن: النَّاقة المقيمة في المرعى".
فصل
الاسم السَّابع: دار الحيوان.
قال تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت: 64] والمراد: الجنَّة عند أهل التفسير، قالوا: وإنَّ الآخرة يعني: الجنة. لهي الحيوان: لهي دار الحياة التي لا موت فيها.
وقال الكلبي: "هي حياة لا موت فيها". وقال الزجاج: "هي دار الحياة الدائمة".
وأهل اللغة على أنَّ الحيوان بمعنى: الحياة.
قال أبو عبيدة وابن قتيبة: "الحياةُ: الحيوان". قال أبو عبيدة: "الحياة والحيوان والحِي -بكسر الحاء- واحد". قال أبو علي: "يعني أنَّها مصادر، فالحياة فَعَلة كالحَلَبة، والحيوان: كالنَّزوان والغَلَيان، والحِيُّ: كالعِيِّ، قال العَجَّاج:
كنَّا بِهَا إذِ الحياةُ حِيّ
أي: إذِ الحياة حياة" .
وأمَّا أبو زيد فخالفهما وقال: "الحيوان ما فيه روح، والموتان والموات ما لا روح فيه".
والصواب: أنَّ الحيوان يقع على ضربين: أحدهما: مصدر، كما حكاه أبو عبيدة. والثاني: وصف كما حكاه أبو زيد، وعلى قول أبي زيدٍ الحيوان مثل: الحَيَّ خلاف الميِّت، ورُجِّحَ القول الأول؛ بأنَّ الفَعَلان بابُهُ المصادر؛ كالنَّزوان والغَلَيان، بخلاف الصِّفات، فإنَّ بابها فَعْلَان كَسَكْران وغضبان.
وأجاب من رَجَّح القول الثاني، بأنَّ فَعَلان قد جاء في الصِّفات أيضًا، قالوا: رجل صَمَيَان: للسريع الخفيف، وزَفَيَان. قال في "الصحاح" : ناقة زفيان: سريعة. وقوس زفيان: سريعة الإرسال للسهم". فيحتمل قوله تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت: 64] معنيين:
أحدهما: أنَّ حياة الآخرة هي الحياة؛ لأنَّه لا تنغيص فيها ولا نفاد لها: أي لا يشوبها ما يشوب الحياة في هذه الدار، فيكون الحيوان مصدرًا على هذا.
الثاني: أنْ يكون المعنى: أنَّها الدار التي لا تفنى ولا تنقطع، ولا تبيد كما يفنى الأحياء في هذه الدنيا، فهي أحق بهذا الاسم من الحيوان الَّذي يفنى ويموت.
فصل
الاسم الثامن: الفردوس.
قال اللَّهُ تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 10 - 11]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} [الكهف: 107].
والفردوس: اسم يُقال على جميع الجنة، ويقال على أفضلها وأعلاها، كأنَّه أحق بهذا الاسم من غيره من الجنات.
وأصل الفردوس: البستان، والفراديس: البساتين. قال كعب: "هو البستان الَّذي فيه الأعناب". قال الليث: "الفردوس: جنة ذات كروم. يقال: كرم مُفَرْدَس: أي مُعَرَّش". وقال الضحاك: "هي الجنَّة الملتفة بالأشجار"، وهو اختيار المُبَرَّد. وقال: الفردوس فيما سمعت من كلام العرب: الشجر المُلْتَف، والأغلب عليه العنب، وجمعه: الفراديس: قال: وبهذا سمي الفراديس بالشام، وأنشد لجرير:
فقلت للرَّكب إذْ جدَّ المسيرُ بنا … يا بُعد يَبْرِينَ من باب الفراديس"
وقال مجاهد: "هو البستان بالرومية". واختاره الزجاج، فقال: هو بالرومية منقول إلى لفظ العربية. قال: وحقيقته أنَّه البستان الَّذي يجمع كل ما يكون في البساتين. قال حسان:
وإنَّ ثوابَ اللَّهِ كل مُخلَّدٍ … جِنَانٌ من الفردوس فيها يُخلَّدُ
فصل
الاسم التاسع: جنات النعيم.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ} [لقمان: 8]، وهذا أيضًا اسمٌ جامعٌ لجميع الجنَّات، لما تضمنته من الأنواع التي يتنعم بها من المأكول والمشروب والملبوس والصُّور، والرَّائحة الطَّيِّبة والمنظر البهيج، والمساكن الواسعة، وغير ذلك من النَّعيم الظاهر والباطن.
فصل
الاسم العاشر: المقام الأمين.
قال اللَّه تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} [الدخان: 51]، فالمقام: موضع الإقامة، والأمين: الآمن من كلَّ سوءٍ ومكروهٍ، وهو الَّذي قد جمع صفات الأمن كلها، فهو آمن من الزَّوال والخراب، وأنواع النُّغص، وأهله آمنون فيه من الخروج والنَّقص والنَّكد.
و {الْبَلَدِ الْأَمِينِ} [التين: 3]: الَّذي قد أمن أهله فيه ممَّا يخاف منه سواهم.
وتأمَّل كيف ذكر سبحانه الأمن في قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ}، وفي قوله تعالى: {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ} [الدخان: 55] فجمع لهم بين أمن المكان وأمن الطعام، فلا يخافون انقطاع الفاكهة ولا سوء عاقبتها ومضرَّتها، وأمن الخروج منها، فلا يخافون ذلك، وأمن الموت فلا يخافون فيها موتًا.
فصل
الاسم الحادي عشر والثاني عشر: مَقْعَدُ الصدق، وقَدَمُ الصدق.
قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} [القمر: 54 - 55]، فسمَّى الجنَّة مقعد صِدْقٍ، لحصول كل ما يُراد من المقعد الحسن فيها، كما يقال: مودَّة صادقة: إذا كانت ثابتة تامَّة، وحلاوة صادقة، وحملة صادقة، ومنه الكلام الصَّدق، لحصول مقصوده منه.
وموضوع هذه اللفظة في كلامهم: الصِّحة والكمال، ومنه الصَّدق في الحديث، والصدق في العمل، والصَّديق الَّذي يصدَّق قوله بالعمل، والصَّدق -بالفتح- الصُّلب من الرِّماح، ويقال للرجل الشجاع: إنَّه لذو مِصْدق أي صادق الحَمْلَة.
وهذا مِصْداق هذا: أي ما يُصدِّقه، ومنه الصَّداقة؛ لصفاء المودَّة والمُخالَّة، ومنه صَدَقَنِي القتال، وصَدَقَنِي المودَّة، ومنه قدم الصِّدْق، ولسان الصَّدق، ومدخل الصدق، ومخرج الصَّدق، وذلك كله للحقَّ الثابت المقصود الَّذي يرغب فيه، بخلاف الكذب الباطل، الَّذي لا شيءَ تحته، ولا يتضمن أمرًا ثابتًا، وفُسِّرَ قدم الصَّدق: بالجنَّة، وفُسِّر بالأَعمال التي تنال بها الجنَّة، وفُسِّر بالسَّابقة التي سبقت لهم من اللَّه، وفُسِّر بالرسول الَّذي على يده وهدايته نالوا ذلك.
والتَّحقيق أنَّ الجميع حقَّ؛ فإنَّهم سبقت لهم من اللَّه بذلك السابقة بالأسباب التي قدَّرها لهم على يد رسوله، وادَّخر لهم جزاءها يوم لقائه ، ولسان الصَّدق هو لسان الثناء الصادق بمحاسن الأفعال، وجميل الطرائق، وفي كونه لسان صِدْق إشارة إلى مطابقته للواقع، وأنَّه ثناء بحقًّ لا بباطل، ومدخل الصدق ومخرج الصدق هو المدخل والمخرج الَّذي يكون صاحبه فيه ضامنًا على اللَّهِ، وهو دخوله وخروجه باللَّه وللَّه، وهذه الدعوة من أنفع الدعاء للعبد، فإنَّه لا يزال داخلًا في أمرٍ وخارجًا من أمرٍ، فمتى كان دخوله للَّه وباللَّه وخروجه كذلك، كان قد أُدْخِل مدخل صدق وأُخْرِجَ مخرج صدق.
حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح (1/ 191)