أين توجد الجنة وأين توجد النار؟

قال الله تعالى: (وَلَقَدۡ ‌رَءَاهُ ‌نَزۡلَةً ‌أُخۡرَىٰ عِندَ سِدۡرَةِ ٱلۡمُنتَهَىٰ عِندَهَا جَنَّةُ ٱلۡمَأۡوَىٰٓ) [النجم: 13-15] وقد ثبت أن سدرة المنتهى فوق السماء، وسميت بذلك لأنها ينتهي إليها ما ينزل من عند الله فيقبض منها وما يصعد إليه فيقبض منها.

وقال تعالى: (‌وَفِي ‌ٱلسَّمَآءِ ‌رِزۡقُكُمۡ ‌وَمَا ‌تُوعَدُونَ) [الذاريات: 22] قال ابن أبي نجيح عن مجاهد:"هو الجنة". وكذلك تلقاه الناس عنه، وقد ذكر ابن المنذر في تفسيره وغيره أيضا عن مجاهد قال:"هو الجنة والنار". وهذا يحتاج إلى تفسير فإن النار في أسفل السافلين ليست في السماء، ومعنى هذا ما قاله في رواية ابن أبي نجيح عنه وقاله أبو صالح عن ابن عباس: الخير والشر كلاهما يأتي من السماء. وعلى هذا فالمعنى: أسباب الجنة والنار بقدر ثابت في السماء من عند الله.

وقال الحارث بن أبي أسامة حدثنا عبد العزيز بن أبان حدثنا مهدي ابن ميمون حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي يعقوب عن بشر بن شغاف قال سمعت عبد الله بن سلام يقول: "إن أكرم خليقة الله أبو القاسم صلى الله عليه وسلم وإن الجنة في السماء" رواه ابو نعيم عنه قال ورواه معمر بن راشد عن محمد بن أبي يعقوب مرفوعا ثم ساقه من طريق ابن منيع قال ثنا عمرو الناقد ثنا عمرو بن عثمان ثنا موسى بن أعين عن معمر به مرفوعا ثم ساق من طريق محمد بن فضيل ثنا محمد بن عبد الله عن عطية عن ابن عباس أنه قال: "الجنة في السماء السابعة، ويجعلها الله حيث شاء يوم القيامة وجهنم في الأرض السابعة".

وقال ابن منده ثنا أحمد بن إسحاق قال ثنا أبو أحمد الزبيري ثنا محمد بن عبد الله عن سلمة بن كهيل عن أبي الزعراء عن عبد الله قال: "الجنة في السماء الرابعة فإذا كان يوم القيامة جعلها الله حيث يشاء، والنار في الأرض السابعة فإذا كان يوم القيامة جعلها الله حيث يشاء".

وقال مجاهد قلت لابن عباس أين الجنة؟ قال: فوق سبع سماوات قلت: فأين النار؟ قال: تحت سبعة أبحر مطبقة. رواه ابن منده عن أحمد بن إسحاق عن الزبيري عن إسرائيل عن ابن أبي يحيى عن مجاهد.

وأما الأثر الذي رواه أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عيسى بن يونس عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن عبد الله بن عمرو قال: الجنة مطوية معلقة بقرون الشمس تنتشر في كل عام مرة وإن أرواح المؤمنين في طير كالزرازير يتعارفون ويرزقون من ثمر الجنة. فهذا قد يظهر منه التناقض بين أول كلامه وآخره، ولا تناقض فيه؛ فإن الجنة المعلقة بقرون الشمس ما يحدثه الله سبحانه وتعالى بالشمس في كل سنة مرة من أنواع الثمار والفواكه والنبات = جعله الله تعالى مذكرا بتلك الجنة وآية دالة عليها كما جعل هذه النار مذكرة بتلك، وإلا فالجنة التي عرضها السموات والأرض ليست معلقة بقرون الشمس وهي فوق الشمس أكبر منها.

وقد ثبت في الصحيحين عنه أنه قال: "الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض" وهذا يدل على أنها في غاية العلو والارتفاع والله أعلم.

والحديث له لفظان هذا أحدهما، والثاني: "إن في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض أعدها الله للمجاهدين في سبيله" وشيخنا يُرجح هذا اللفظ، وهو لا ينفي أن يكون درج الجنة أكبر من ذلك، ونظير هذا قوله في الحديث الصحيح: "إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة" أي: من جملة أسمائه هذا القدر؛ فيكون الكلام جملة واحدة في الموضعين.

ويدل على صحة: هذا أن منزلة نبينا فوق هذا كله في درجة في الجنة ليس فوقها درجة، وتلك المائة ينالها آحاد أمته بالجهاد، والجنة مقبّبة أعلاها وأوسعها ووسطها هو الفردوس، وسقفه العرش كما قال في الحديث الصحيح: "إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة فوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة".

قال شيخنا أبو الحجاج المزي: والصواب رواية من رواه وفوقُه بضم القاف على أنه أسم لا ظرف، أي: وسقفه عرش الرحمن؛ فإن قيل: فالجنة جميعها تحت العرش والعرش سقفها، فإن الكرسي وسع السموات والأرض والعرش أكبر منه، قيل: لما كان العرش أقرب إلى الفردوس مما دونه من الجنات بحيث لا جنة فوقه دون العرش كان سقفا له دون ما تحته من الجنات، ولِعظم سعة الجنة وغاية ارتفاعها يكون الصعود من أدناها إلى أعلاها بالتدريج شيئا فشيئا درجة فوق درجة كما يقال لقاريء القرآن: "اقرأ وارق فإن منزلتك عند آخر آية تقرأها" وهذا يحتمل شيئين: أن تكون منزلته عند آخر حفظه، وأن تكون عند آخر تلاوته لمحفوظة والله أعلم.


حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح (ص65 - 67)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله