وتأمَّل ثناء الله سبحانه عليه في إكرام ضيفه من الملائكة حيث يقول سبحانه: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ} [الذاريات: 24 - 27]، ففي هذا ثناء على إبراهيم من وجوه متعددة:
أحدها: أنه وصف ضيفه بأنهم مكرمون. وهذا على أحد القولين أنه إكرام إبراهيم لهم، والثاني: أنهم المكرمون عند الله سبحانه، ولا تنافي بين القولين، فالآية تدل على المعنيين.
الثاني: قوله تعالى: {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ} فلم يذكر استئذانهم، ففي هذا دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان قد عُرِف بإكرام الضّيْفان، واعتياد قِراهُم، فبقي منزل فضيفه مطروقًا لمن ووده، لا يحتاج إلى الاستئذان، بل استئذان الداخل دخوله، وهذا غاية ما يكون من الكرم.
الثالث: قوله لهم: {سَلَامٌ} الرفع، وهم سَلَّمُوا عليه بالنَّصب. والسلام بالرفع أكمل فإنه يَدُلُّ على الجُمْلة الإسْمِية الدَّالة على الثُّبوت والتَّجَدُّد، والمنصوب يدُلّ على الفِعْليّة الدَّالة على الحُدُوث والتَّجدُّد، فإبراهيم عليه الصلاة والسلام حَيَّاهم بتحيَّة أحْسَن من تحيَّتهم، فإنَّ قولهم: {سَلَامًا} يدل على سَلَّمْنَا سَلَامًا، وقوله: {سَلَامٌ} أي: سَلامٌ عليكم.
الرابع: أنه حذف المبتدأ من قوله: {قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} فإنه لمَّا أنكرهم ولم يعرفهم احْتَشَم من مواجهتهم بلفظ ينفِّر الضيف لو قال: أنتم قوم منكرون، فَحَذْفُ المبتدأ هنا مِن ألْطف الكلام.
الخامس: أنه بنى الفعل للمفعول، وحذف فاعله، فقال: {مُنْكَرُونَ} ولم يقل إني أنكركم، وهو أحسن في هذا المقام وأبعد من التَّنفِيْر والمواجهة بالخشونة.
السادس: أنه راغ إلى أهله ليجيئهم بِنُزُلهِم، والرَّوَغَان هو الذهاب في اختفاء بحيث لا يكاد يشعر به الضيف، وهذا من كرم ربِّ المنزل المضيف؛ أن يذهب في اختفاء بحيث لا يشعر به الضيف، فيشقّ عليه ويستحي، فلا يشعر به إلا وقد جاءه بالطعام، بخلاف من يُسْمِعُ ضيفه ويقول له، أو لمن حضر: مكانكم حتى آتيكم بالطعام ونحو ذلك مما يوجب حياء الضيف واحتشامه.
السابع: أنه ذهب إلى أهله فجاء بالضِّيافة، فدلَّ على أنَّ ذلك كان مُعدًّا عندهم مهيَّأ للضيفان، ولم يحتج أن يذهب إلى غيرهم من جيرانه، أو غيرهم فيشتريه أو يستقرضه.
الثامن: قوله: {فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} دلَّ على خدمته للضيف بنفسه، ولم يقل فأمر لهم، بل هو الذي ذهب وجاء به بنفسه، ولم يبعثه مع خادمه، وهذا أبلغ في إكرام الضيف.
التاسع: أنه جاء بعجل كامل، ولم يأت ببضعة منه، وهذا من تمام كرمه صلى الله عليه وسلم.
العاشر: أنه سَمِيْن لا هزيل، ومعلوم أن ذلك من أفخر أموالهم، ومثله يُتَّخَذ للاقتناء والتَّربية، فآثر به ضيفانه.
الحادي عشر: أنه قربه إليهم بنفسه، ولم يأمر خادمه بذلك.
الثاني عشر: أنه قربه إليهم ولم يقربهم إليه، وهذا أبلغ في الكرامة، أن يجلس الضيف، ثم يقرب الطعام إليه، ويحمله إلى حضرته، ولا تضع الطعام في ناحية، ثم تأمر ضيفك بأن يتقرب إليه.
الثالث عشر: أنه قال: {أَلَا تَأْكُلُونَ} وهذا عرض وتلطُّف في القول، وهو أحسن من قوله: كلوا، أو مُدُّوا أيديكم، ونحوها، وهذا مِمَّا يعلم الناس بعقولهم حُسْنه ولطفه، ولهذا يقولون: بسم الله، أو ألا تتصدَّق، أو ألا تجبر، ونحو ذلك.
الرابع عشر: أنه إنما عرض عليهم الأكل؛ لأنه رآهم لا يأكلون، ولم يكن ضيوفه يحتاجون معه إلى الإذن في الأكل، بل كان إذا قدم إليهم الطعام أكلوا، وهؤلاء الضيوف لما امتنعوا من الأكل قال لهم: ألا تأكلون، ولهذا أوْجَسَ منهم خِيْفَة، أي: أحسَّها وأضْمَرها في نفسه، ولم يُبْدِها لهم، وهو الوجه.
الخامس عشر: فإنهم لما امتنعوا من الأكل لطعامه خاف من أن يظهر لهم ذلك، فلمَّا علمت الملائكة منه ذلك، قالوا: لا تخف، وبَشَّرُوه بالغلام.
فقد جمعت هذه الآية آداب الضِّيافة التي هي أشرف الآداب، وما عداها من التكلُّفات التي هي تخلُّف وتكلف إنما هي من أوضاع الناس وعوائدهم، وكفى بهذه الآداب شرفًا وفخرًا، فصلى الله على نبينا، وعلى إبراهيم وعلى آلهما وعلى سائر النبيين.
جلاء الأفهام - ط عطاءات العلم (1/ 309 - 313)