أعلى درجات الجنة

الباب الثامن عشر في ذكر أعلى درجاتها واسم تلك الدرجة: روى مسلم في "صحيحه" من حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص -رضي اللَّه عنهما- أنَّه سمع النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "إذا سمعتُم المؤذن فقولوا مثلَ ما يقول، ثمَّ صلُّوا عليَّ، فإنَّه من صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى اللَّهُ عليه بها عشرًا، ثمَّ سلُوا اللَّهَ لي الوسيلة، فإنَّها منزلةٌ في الجنَّة لا تنبغي إلَّا لعبدٍ من عباد اللَّهِ، وأرجو أنْ أكون أنا هو، فمن سأل ليَ الوسيلة حلَّتْ عليه الشفاعة".

وقال أحمد: ثنا عبد الرزاق، أنبأنا سفيان، عن ليث عن كعب، عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إذا صليتم عليَّ فاسألوا اللَّه لي الوسيلة، قيل: يا رسول اللَّه، وما الوسيلة؟ قال: أعلى درجةٍ في الجنَّة لا ينالها إلَّا رجلٌ واحدٌ، وأرجوا أنْ أكونَ أنا هو".

هكذا الرواية: "أنْ أكون أنا هو"، ووَجْهُهَا: أنْ تكون الجُملة خَبَرًا.

عن اسم كان المُسْتَتِر فيها، ولا تكون "أنا" فصْلًا، ولا توكيدًا، بل مبتدأ.

وفي "الصحيحين" من حديث جابر -رضي اللَّه عنهما- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من قال حينَ يسمع النَّداء: الَّلهم رَبَّ هذِهِ الدعوة التَّامَّة، والصَّلاة القائمة، آتِ محمدًا الوسيلةَ والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته، حلَّت له شفاعتي يوم القيامة".

هكذا لفظ الحديث: "مقامًا" بالتَّنكير ليوافق لفظ الآية؛ ولأنَّهُ لمَّا تعين وانحصر نوعه في شخصه جرى مجرى المعرفة، فَوُصِفَ بما توصف به المعارف، وهذا ألطف مِنْ جَعْلِ "الَّذي وعدته" بدلًا، فتأمله.

وفي "المسند" من حديث عمارة بن غَزِيَّة، عن موسى بن وَرْدَان عن أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الوسيلة درجةٌ عند اللَّهِ عزَّ وجلَّ، ليس فوقها درجةٌ، فسلوا اللَّه لي الوسيلة".

وذكره ابن أبي الدنيا وقال فيه: "درجةٌ في الجنَّة ليس في الجنَّة درجة أعلى منها، فسلُوا اللَّهَ أنْ يؤتينيها على رؤوس الخلائقِ" .

وقال أبو نعيم، أنبأنا سليمان بن أحمد: حدثنا أحمد بن عمرو بن مسلم الخلَّال، حدثنا عبد اللَّه بن عمران العابدي ، حدثنا فُضَيل ابن عِيَاض عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة -رضي اللَّه عنها- قالت: جاء رجلٌ إلى النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: يا رسول اللَّه، واللَّهِ إنَّك لأحبٌّ إليَّ من نفسي، وإنَّك لأحب إليَّ من أهلي، وأحبُّ إليَّ من ولدي، وإنِّي لأكون في البيت، فأذكرك فما أصبر حتَّى آتيك فأنظرَ إليك، وإذا ذكرتُ موتي وموتك؛ عرفتُ أنَّك إذا دخلت الجنَّة رُفعتَ مع النبيين، وإنَّي إذا دخلتُ الجنَّة خشيتُ أنْ لا أراكَ. فلم يردَّ عليه النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حتى نزل جبريل بهذه الآية: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69].

قال الحافظ أبو عبد اللَّه المقدسي: "لا أعلم بإسناد هذا الحديث بأسًا".

وسُمِّيت درجة النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الوسيلة؛ لأنَّها أقرب الدرجات إلى عرش الرب تبارك وتعالى، وهي أقرب الدرجات إلى اللَّهِ.

وأصل اشتقاق لفظ: "الوسيلة" من القُرْب. وهي فَعِيلَة: مِنْ وَسَلَ إليه: إذا تقرَّب إليه.

قال لَبيْد:

بلى كلُّ ذي رأيٍ إلى اللَّهِ واسلُ

ومعنى الوسيلة: من الوُصْلَة، ولهذا كانت أفضل الجنَّة وأشرفها، وأعظمها نورًا.

قال صالح بن عبد الكريم: قال لنا فُضَيل بن عِيَاض: تدرون لِمَ حسنت الجنَّة؟ لأنَّ عرش رب العالمين سقفها.

وقال الحكم بن أبان: عن عكرمة عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-: "نور سقف مساكنهم نورُ عرشه" .

وقال بكر عن أشعث عن الحسن: "إنَّما سُمِّيت عَدْن؛ لأنَّ فوقها العرش، ومنها تفجَّر أنهار الجنَّة، وللحور العَدْنِيَّة الفضلُ على سائر الحور" .

والقُرْبَى والزُّلْفَى: واحد، وإنْ كان في الوسيلة معنى التقرب إليه بأنواع الوسائل.

قال الكلبي: "واطلبوا إليه القربة بالأعمال الصالحة".

وقد كشف سبحانه عن هذا المعنى كلَّ الكشف بقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء: 57] فقوله: {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ}، هو تفسير للوسيلة التي يبتغيها هؤلاء الَّذين يدعونهم المشركون من دون اللَّهِ، فَيُنَافِسُون في القرب منه.

ولمَّا كان رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أعظم الخلق عبوديةً لربه، وأعلمهم به، وأشدَّهم له خشية، وأعظمهم له محبة؛ كانت منزلته أقرب المنازل إلى اللَّهِ، وهي أعلى درجة في الجنَّة، وأمرَ -صلى اللَّه عليه وسلم- أُمَّتَهُ أنْ يسألوها له لينالوا بهذا الدعاء الزلفى من اللَّهِ، وزيادة الإيمان.

وأيضًا فإنَّ اللَّه سبحانه قدَّرها له بأسباب، منها: دعاء أمَّته له بها بما نالوه على يده من الإيمان والهدى، صلوات اللَّهِ وسلامه عليه.

فقوله: "حلت عليه" يُرْوَى: "عليه" و"له"، فمن رواه بالَّلام فمعناهُ: حصلت له. ومن رواه بِعَلَى فمعناهُ: وقعت عليه شفاعتي، واللَّهُ أعلم.


حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح - ط عطاءات العلم (1/ 160 - 166)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله