"رسائل إخوان الصّفا" وإلحاد ابن سينا ونصير الدين الطوسي

وكان ابن سينا كما أخبر عن نفسه قال: أنا وأبي من أهل دعوة الحاكم، فكان من القرامطة الباطنية، الذين لا يؤمنون بمبدأ ولا معاد، ولا ربٍّ خالق، ولا رسولٍ مبعوث جاء من عند الله تعالى.

وكان هؤلاء زنادقة يتستَّرون بالرَّفْض، ويُبْطِنُون الإلحاد المَحْض، وينتسبون إلى أهل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم وهو وأهل بيته برآءُ منهم نسبًا ودينًا، وكانوا يقتلون أهل العلم والإيمان، ويَدَعون أهل الإلحاد والشرك والكفران، لا يُحرِّمون حرامًا، ولا يُحِلُّون حلالًا، وفي زمنهم ولخواصِّهم وُضِعَتْ «رسائل إخوان الصفا».

ولما انتهت النوبة إلى نَصِير الشرك والكفر الملحد، وزير الملاحدة، النّصير الطُّوسي، وزير هُولاكو شفَى نفسَه من أتباع الرسول وأهل دينه، فعَرَضَهم على السّيف، حتى شفَى إخوانه من الملاحدة، واشتفى هو، فقتل الخليفة والقُضَاة والفُقهاء والمحدّثين، واستَبْقَى الفلاسفة والمنجِّمين والطبائعيين والسّحَرة، ونقلَ أوقافَ المدارس والمساجد والرُّبُطِ إليهم، وجعلهم خاصّته وأولياءه، ونصرَ في كُتبه قِدَم العالَم، وبطلان المعاد، وإنكار صفات الرب جل جلاله، من علمه، وقدرته، وحياته، وسمعه، وبصره، وأنه لا داخل العالم ولا خارجه، وليس فوق العرش إلهٌ يُعبد البتة.

و‌‌اتخذ للملاحدة مدارسَ، ورامَ جَعْلَ «إشارات» إمام الملحدين ابن سينا مكان القرآن، فلم يَقْدِرْ على ذلك، فقال: «هي قرآنُ الخواصّ، وذاك قرآنُ العوامّ»، ورَامَ تغيير الصلاة، وجعلها صلاتين، فلم يتم له الأمر، وتَعلّم السحر في آخر الأمر، فكان ساحرًا يعبد الأصنام.

وصارعهُ محمدٌ الشهرستاني في كتاب سماه «المُصَارعة»، أبطلَ فيه قوله بقدَمِ العالَم وإنكار المعاد، ونفي علم الرب تعالى وقدرته، وخلقه للعالَم، فقام له نصير الإلحاد وقعد، ونقضه بكتاب سماه «مُصارعة المصارع» ــ ووقفنا على الكتابين ــ نصر فيه: أن الله تعالى لم يخلق السماوات والأرض في ستة أيام، وأنه لا يعلم شيئًا، وأنه لا يفعلُ بقدرته واختياره، ولا يبعثُ مَنْ في القبور.

وبالجملة فكان هذا الملحد هو وأتباعه من الملحدين الكافرين بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر.

والفلسفة التي يقرؤها أتباع هؤلاء اليوم: هي مأخوذة عنه وعن إمامه ابن سينا، وبعضُها عن أبي نصر الفارابي، وشيءٌ يَسِيرٌ منها من كلام أرسطو، وهو مع قلته وغَثاتته ورَكَاكة ألفاظه كثير التطويل، لا فائدة فيه.

وخيارُ ما عند هؤلاء: فالذي عند مشركي العرب من كُفار قريشٍ وغيرهم خير منه، فإنهم يدأبون حتى يُثبتوا واجب الوجود، ومع إثباتهم له فهو عندهم وجود مطلق، لا صفة له ولا نعت، ولا فعل يقوم به، لم يخلق السماوات والأرض بعد عدمهما، ولا له قُدرةٌ على فعلٍ، ولا يعلم شيئًا. وعُبّاد الأصنام كانوا يثبتون ربًّا خالقًا، مُبدعًا، عالمًا، قادرًا، حَيًّا، يشركون به في العبادة. فنهاية أمر هؤلاء: الوصولُ إلى شيء بَرّزَ عليهم فيه عُبّاد الأصنام.


إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان (2/ 1031 – 1033 ط عطاءات العلم)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله