تخصيص الإنسان بخُلق الحياء

 

تنبيه: تأمَّل هذا الخُلق الذي خُصَّ به الإنسانُ دون جميع الحيوان، وهو خُلق الحياء الذي هو مِنْ أفضل الأخلاق وأجلِّها، وأعظمها قدرًا، وأكثرها نفعًا، بل هو خاصَّةُ الإنسانيَّة، فمن لا حياء فيه ليس معه من الإنسانيَّة إلا اللحمُ والدَّمُ وصورتهما الظَّاهرة، كما أنه ليس معه من الخير شيء.

ولولا هذا الخُلقُ لم يُقْرَ الضيف، ولم يُوفَ بالوعد، ولم تؤدَّ أمانة، ولم تُقْض لأحدٍ حاجة، ولا تحرَّى الرجلُ الجميلَ فآثره والقبيحَ فتنكَّبه، ولا سَتَر له عورةً، ولا امتنع من فاحشة.

وكثيرٌ من النَّاس لولا الحياءُ الذي فيه لم يؤدِّ شيئًا من الأمور المفتَرضة عليه، ولم يَرْع لمخلوقٍ حقًّا، ولم يَصِل له رَحِمًا، ولا برَّ له والدًا؛ فإنَّ الباعث على هذه الأفعال إمَّا دينيٌّ ــ وهو رجاءُ عاقبتها الحميدة ــ، وإمَّا دنيويٌّ عاديٌّ ــ وهو حياءُ فاعلها من الخلق ــ؛ فقد تبيَّن أنه لولا الحياءُ إمَّا من الخالق أو من الخلائق لم يفعلها صاحبُها.

وفي التِّرمذي وغيره مرفوعًا: «استحيُوا من الله حقَّ الحياء»، قالوا: وما حقُّ الحياء؟ قال: «أن تحفظ الرَّأسَ وما حوى، والبطنَ وما وعى، وتذكُر المقابرَ والبِلى».

وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا لم تستَح فاصنع ما شئت».

وأصحُّ القولين فيه قولُ أبي عبيدٍ والأكثرين أنه تهديد؛ كقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40]، وقوله: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا} [المرسلات: 46].

وقالت طائفة: هو إذنٌ وإباحة، والمعنى: أنك إذا أردتَ أن تفعل فعلًا فانظر قبل فعله، فإن كان مما يُستحيى فيه من الله ومن النَّاس فلا تفعلْه وإن كان مما لا يُستحيى منه فافعلْه فإنه ليس بقبيح.

وعندي أنَّ هذا الكلام صورتُه صورةُ الطَّلب، ومعناه معنى الخبر، وهو في قوَّة قولهم: «من لا يستحي صَنَعَ ما يشتهي»؛ فليس بإذنٍ ولا هو مجرَّد تهديد، وإنما هو في معنى الخبر، والمعنى: أنَّ الرَّادع عن القبيح إنما هو الحياء، فمن لم يَسْتح فإنه يصنعُ ما شاء.

وأخرجَ هذا المعنى في صيغة الطَّلب لنكتةٍ بديعةٍ جدًّا؛ وهي أنَّ للإنسان آمِرَين وزاجِرَين: فله آمرٌ وزاجرٌ من جهة الحياء، فإذا أطاعه امتنع من فعل كلِّ ما يشتهي، وله آمرٌ وزاجرٌ من جهة الهوى والشهوة والطَّبيعة، فمن لم يُطِع آمِرَ الحياء وزاجِرَه أطاع آمِرَ الهوى والشهوة ولا بدَّ؛ فإخراجُ الكلام في قالب الطَّلب يتضمَّنُ هذا المعنى دون أن يقال: من لا يستحي يصنعُ ما يشتهي.


مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (2/ 791 ط عطاءات العلم)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله