الوقفة الأولى: فضل صيام يوم عاشوراء
قال صلى الله عليه وسلم: "صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ، وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ" ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ.
قال ابن القيم رحمه الله: وأما صيام يوم عاشوراء فإنه كان يتحرى صومه على سائر الأيام، ولما قدم المدينة وجد اليهود تصومه وتعظمه فقال: "نحن أحق بموسى منكم". فصامه وأمر بصيامه، وذلك قبل فرض رمضان، فلما فُرض رمضان قال: من شاء صامه، ومن شاء تركه". زاد المعاد في هدي خير العباد (2/ 63)
الوقفة الثانية: مراتب صيام يوم عاشوراء
قال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد (2/ 72):
فمراتب صومه ثلاثة أكملها: أن يُصام قبله يوم وبعده يوم، ويلي ذلك: أن يُصام التاسع والعاشر وعليه أكثر الأحاديث، ويلي ذلك: إفراد العاشر وحده بالصوم.
وأما إفراد التاسع فمن نقص فهم الآثار، وعدم تتبع ألفاظها وطرقها، وهو بعيد من اللغة والشرع، والله الموفق للصواب.
الوقفة الثالثة: مخالفة اليهود في صيام عاشوراء، وذلك بصيام يوم قبله
النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التشبه بأهل الكتاب في أحاديث كثيرة، كقوله: "إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم"، وقوله: "إن اليهود لا يصلون في نعالهم فخالفوهم"، وقوله في عاشوراء: "خالفوا اليهود صوموا يوما قبله ويوما بعده"، وقوله: "لا تشبهوا بالأعاجم"، وروى الترمذي عنه: "ليس منا من تشبه بغيرنا"، وروى الإمام أحمد عنه: "من تشبه بقوم فهو منهم".
وسر ذلك: أن المشابهة في الهدي الظاهر ذريعة إلى الموافقة في القصد والعمل. إعلام الموقعين عن رب العالمين (3/ 112) بتصرف يسير.
الوقفة الرابعة: الحكمة في أن صيام عاشوراء يكفر ذنوب سنة واحدة وعرفة يكفر ذنوب سنتين
فائدة: إن قيل لم كان عاشوراء يكفر سنة ويوم عرفة يكفر سنتين؟ قيل فيه وجهان:
أحدهما: أن يوم عرفة في شهر حرام وقبله شهر حرام وبعده شهر حرام بخلاف عاشوراء.
الثاني: أن صوم يوم عرفة من خصائص شرعنا بخلاف عاشوراء فضوعف ببركات المصطفى صلى الله عليه وسلم والله أعلم. منتخب من الفوائد المنتقية من الرقوم الشرقية. بدائع الفوائد (4/ 211)
الوقفة الخامسة: الحكم على الأحاديث الواردة في يوم عاشوراء
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله في المنار المنيف في الصحيح والضعيف (ص: 47): وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثِ: "مَنْ صَامَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ عِبَادَةَ سِتِّينَ سَنَةً" وَهَذَا بَاطِلٌ يَرْوِيهِ حَبِيبُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الصَّائِغِ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مَهْرَانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحَبِيبٌ كَانَ يضع الأَحَادِيثَ.
وقال في (ص52): وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثِ: "إن الله خلق السموات وَالأَرْضَ يَوْمَ عَاشُورَاء".
ويقول: وَمِنْهَا أَحَادِيثُ: الاكْتِحَالِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَالتَّزَيُّنِ وَالتَّوْسِعَةِ وَالصَّلاةِ فِيهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ فَضَائِلَ لا يَصِحُّ مِنْهَا شَيْءٌ وَلا حَدِيثٌ وَاحِدٌ، وَلا يَثْبُتُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ شَيْءٌ غَيْرُ أَحَادِيثِ صِيَامِهِ وَمَا عَدَاهَا فَبَاطِلٌ.
وَأَمْثَلُ مَا فِيهَا: "مَنْ وَسَّعَ عَلَى عِيَالِهِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ سَائِرَ سَنَتِهِ".
قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ: لا يَصِحُّ هَذَا الْحَدِيثُ.
وَأَمَّا حَدِيثُ الاكْتِحَالِ وَالأَدْهَانِ وَالتَّطَيُّبِ فَمِنْ وَضْعِ الْكَذَّابِينَ، وَقَابَلَهُمْ آخَرُونَ فَاتَّخَذُوهُ يَوْمَ تَأَلُّمٍ وَحُزْنٍ، وَالطَّائِفَتَانِ مُبْتَدِعَتَانِ خَارِجَتَانِ عَنِ السُّنَّةِ.
وَأَهْلُ السُّنَّةِ يَفْعَلُونَ فِيهِ مَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الصَّوْمِ، وَيَجْتَنِبُونَ مَا أَمَرَ بِهِ الشَّيْطَانُ مِنَ الْبِدَعِ. المنار المنيف في الصحيح والضعيف (ص: 111 – 113)
الوقفة السادسة: خطأ الاغترار بصيام عاشوراء في تكفير الذنوب مع الإصرار على الكبائر وعدم التوبة منها
يقول ابن القيم في الداء والدواء (ص: 25):
وكاغترار بعضهم على صوم يوم عاشوراء، أو يوم عرفة، حتى يقول بعضهم: يوم عاشوراء يكفر ذنوب العام كلها، ويبقى صوم عرفة زيادة في الأجر، ولم يدر هذا المغتر، أن صوم رمضان، والصلوات الخمس، أعظم وأجل من صيام يوم عرفة، ويوم عاشوراء، وهي إنما تكفر ما بينهما إذا اجتنبت الكبائر.
فرمضان إلى رمضان، والجمعة إلى الجمعة، لا يقويا على تكفير الصغائر، إلا مع انضمام ترك الكبائر إليها، فيقوى مجموع الأمرين على تكفير الصغائر.
فكيف يكفّر صوم يوم تطوع كل كبيرة عملها العبد وهو مصر عليها، غير تائب منها؟ هذا محال على أنه لا يمتنع أن يكون صوم يوم عرفة ويوم عاشوراء مُكفرا لجميع ذنوب العام على عمومه، ويكون من نصوص الوعد التي لها شروط وموانع، ويكون إصراره على الكبائر مانعا من التكفير، فإذا لم يصر على الكبائر لتساعد الصوم وعدم الإصرار، وتعاونهما على عموم التكفير، كما كان رمضان والصلوات الخمس مع اجتناب الكبائر متساعدين متعاونين على تكفير الصغائر مع أنه سبحانه قد قال: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) [النساء: 31].
ويقول: وينبغي أن يعلم أن سائر الأعمال تجري هذا المجرى، فتفاضل الأعمال عند الله تعالى بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإخلاص والمحبة وتوابعها.
وهذا العمل الكامل هو الذي يكفر السيئات تكفيراً كاملاً، والناقص بحسبه.
وبهاتين القاعدتين تزول إشكالات كثيرة وهما.
تفاضل الأعمال بتفاضل ما في القلوب من حقائق الإيمان، وتكفير العمل للسيئات بحسب كماله ونقصانه.
وبهذا يزول الاشكال الذي يورده من نقص حظه من هذا الباب على الحديث الذي فيه "أن صوم يوم عرفة يكفر سنتين، ويوم عاشوراء يكفر سنة" قالوا: فإذا كان دأبه دائماً انه يصوم يوم عرفة فصامه وصام يوم عاشوراء، فكيف يقع تكفير ثلاث سنين كل سنة، وأجاب بعضهم عن هذا بأن ما فضل عن التكفير ينال به الدرجات.
ويالله العجب، فليت العبد إذا أتى بهذه المكفرات كلها أن تكفر عنه سيئاته باجتماع بعضها إلى بعض، والتكفير بهذه مشروط بشروط، موقوف على انتفاء الموانع كلها فحينئذ يقع التكفير، وأما عمل شملته الغفلة أو لأكثره، وفقد الإخلاص الذي هو روحه، ولم يوف حقه، ولم يقدره حق قدره، فأي شيء يكفر هذا؟ فإن وثق العبد من عمله بأنه وفاه حقه الذي ينبغي له ظاهراً وباطناً، ولم يعرض له مانع يمنع تفكيره ولا مبطل يحبطه ـ من عجب أو رؤية نفسه فيه أو يمن به أو يطلب من العباد تعظيمه به أويستشرف بقلبه لمن يعظمه عليه أو يعادي من لا يعظمه عليه ويرى أنه قد بخسه حقه وأنه قد استهان بحرمته ـ فهذا أي شيء يكفر؟. الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص: 10)