سلسلة الفوائد المنتقاة من كتب ابن القيم: رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

فهذه فوائد منتقاة من كتاب رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه، وهي رسالة قليلة في مضمونها، مترابطة في مقصودها، غزيرة في فوائدها ومكنونها.

وقد آثرت أن تكون هذه الفوائد مختصرة بقدرٍ تحصل معه الفائدة. وأسأل الله عز وجل أن ينفع بها الجميع.

*نايف بن علي العوفي

أوصى بعض الشيوخ بعضهم فقال: احذروا مخالطة من تضيع مخالطته الوقت وتفسد القلب؛ فإنه متى ضاع الوقت وفسد القلب انفرطت على العبد أموره كلها وكان ممن قال الله فيه: (وَلا تُطِع مَن أَغفَلنا قَلبَهُ عَن ذِكرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمرُهُ فُرُطًا) [الكهف: ٢٨]. (ص: ٦)

 

الغفلة عن الله والدار الآخرة:

والغفلة عن الله والدار الآخرة متى تزوجت باتّباع الهوى تولد ما بينهما كل شر، وكثيرا ما يقترن أحدهما بالآخر ولا يفارقه، ومن تأمل فساد أحوال العالم عموما وخصوصا وجده ناشئا عن هذين الأصلين، فالغفلة: تحول بين العبد وبين تصور الحق ومعرفته والعلم به فيكون من الضالين، واتّباع الهوى: يصده عن قصد الحق وإرادته واتّباعه فيكون من المغضوب عليهم، وأما المُنعم عليهم: فهم الذين منّ الله عليهم بمعرفة الحق علما وبالانقياد إليه وإيثاره على ما سواه عملا وهؤلاء هم الذين على سبيل النجاة ومن سواهم على سبيل الهلاك. (ص: ٧)

 

الفارغ القلب من الله والدار الآخرة المبتلى بمحبة الدنيا أشقّ ما عليه الصلاة، وأكره ما إليه طَوْلُها مع تفرّغه وصحّته وعدم اشتغاله. (ص: ٣٤)

 

الحكمة في الجمع بين الصبر واليقين:

قال الله تعالى: (وَجَعَلنا مِنهُم أَئِمَّةً يَهدونَ بِأَمرِنا لَمّا صَبَروا وَكانوا بِآياتِنا يوقِنونَ) [السجدة: ٢٤].جمع سبحانه بين الصبر واليقين إذ هما: سعادة العبد، وفقدهما يُفقده سعادته؛ فإن القلب تطرقه طوارق الشهوات المخالفة لأمر الله، وطوارق الشبهات المخالفة لخبره؛ فبالصبر: يدفع الشهوات، وباليقين: يدفع الشبهات. فإن الشهوة والشبهة مضادتان للدّين من كل وجه. (ص: ١٦)

 

العبد في كل أحواله مقصّر:

العبد لو اجتهد في القيام بالأمر غاية الاجتهاد وبذل وسعه فهو مقصر، وحق الله سبحانه عليه أعظم، والذي ينبغي له أن يقابَل به من الطاعة والعبودية والخدمة فوق ذلك بكثير، وأن عظمته وجلاله سبحانه يقتضي من العبودية ما يليق بها. (ص: ٤٣)

 

مشهد الإحسان أصل أعمال القلوب:

ومشهد الإحسان أصل أعمال القلوب كلها؛ فإنه يوجب الحياء والإجلال والتعظيم والخشية والمحبة والإنابة والتوكل والخضوع لله سبحانه والذلّ له، ويقطع الوسواس وحديث النفس، ويجمع القلب والهمّ على الله. فحظّ العبد من القرب من الله على قدر حظه من مقام الإحسان، وبحسبه تتفاوت الصلاة حتى يكون بين صلاة الرجلين من الفضل كما بين السماء والأرض وقيامهما وركوعهما وسجودهما واحد. (ص: ٣٩)

 

حال المُحب والمُعرض الغافل مع الصلاة:

المُحب راحته وقرة عينه في الصلاة، والغافل المعرض ليس له نصيب من ذلك، بل الصلاة كبيرة شاقة عليه، إذا قام فيها كأنه على الجمر حتى يتخلص منها، وأحبُّ الصلاةِ إليه أعجلها وأسرعها، فإنه ليس له قرة عين فيها، ولا لقلبه راحة بها. (ص: ٣٨)

 

فلا ينجو من عذاب الله إلا من دفع شهواته بالصبر، وشبهاته باليقين؛ ولهذا أخبر سبحانه عن حبوط أعمال أهل الشهوات والشبهات فقال تعالى: (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا) [التوبة: ٦٩]، فهذا الاستمتاع بالخلاق هو استمتاعهم بنصيبهم من الشهوات، ثم قال: (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا)، وهذا هو الخوض بالباطل في دين الله وهو خوض أهل الشبهات. (ص: ١٨)

 

فاحرص أن يكون همك واحدا، وأن يكون هو الله وحده، فهذا غاية سعادة العبد، وصاحب هذه الحال في جنة معجلة قبل جنة الآخرة وفي نعيم عاجل، كما قال بعض الواجدين: إنه ليمر بالقلب أوقات أقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب. (ص: ٣٤)

 

ثم قال صلى الله عليه وسلم: "وجعلت قرة عيني في الصلاة" وقرة العين فوق المحبة، فإنه ليس كل محبوب تقر به العين، وإنما تقر العين، بأعلى المحبوبات، الذي يحب لذاته، وليس ذلك إلا الله الذي لا إله إلا هو، وكل ما سواه فإنما يحب تبعا لمحبته فيحب لأجله. ولا يحب معه، فإن الحب معه شرك، والحب لأجله توحيد. (ص: ٣٦)

 

حظ العبد من القرب من الله على قدر حظه من مقام الإحسان، وبحسبه تتفاوت الصلاة، حتى يكون بين صلاة الرجلين من الفضل كما بين السماء والأرض، وقيامهما وركوعهما وسجودهما واحد. (ص: ٤٥)

 

وقد أقسم الله -سبحانه- بنفسه الكريمة أنا لا نؤمن حتى نحكم الرسول فيما شجر بيننا، وننقاد لحكمه ونسلم تسليما. فلا ينفعنا تحكيم غيره والانقياد له، ولا ينجينا من عذاب الله، ولا يقبل منا هذا الجواب إذا سمعنا نداءه -سبحانه- يوم القيامة: (ماذا أجبتم المرسلين) [القصص: ٦٥]، فإنه لابد أن يسألنا عن ذلك، ويطالبنا بالجواب، قال تعالى: (فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين) [الأعراف: ٦]، وقال النبي ﷺ "أوحي إلي أنكم بي تفتنون وعني تسألون"، يعني المسألة في القبر، فمن انتهت إليه سنة رسول الله ﷺ وتركها لقول أحد من الناس فسيَرِدُ يوم القيامة ويعلم. (ص: ٤٣)

 

خاصّة العقل: إيثار أعلى المحبوبين على أدناهما، واحتمال أدنى المكروهين ليتخلص به من أعلاهما. وبهذا الأصل تَعْرِفُ عُقول الناس، وَتُمَيِّزُ بين العاقل وغيره، وَيَظهَرُ تفاوُتُهم في العقول. (ص: ٣٠)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله