الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أما بعد:
فِإن الجنة والنار داران للجزاء على الأعمال، والإيمان بهما داخل في الإيمان باليوم الآخر، والإيمان بأن الجنة والنار مخلوقتان الآن وموجودتان دائمتان لا تفنيان أبداً هو مذهب أهل السنة والجماعة، ومذهب الصحابة والتابعين؛ قال الإمام الطحاوي في عقيدته المشهورة: "والجنة والنار مخلوقتان، لا تفنيان ولاتبيدان"1، وقال ابن حزم – رحمه الله تعالى – في كتابه الملل والنحل: "اتفقت فرق الأمة كلها على أن لا فناء للجنة ولا لنعيمها، ولا للنار ولا لعذابها، إلا الجهم بن صفوان"، وهذا ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، ومن ذلك قوله – تعالى – عن أهل النار: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طريقاً إلا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً)2، وقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَّا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً)3، وقوله: (وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً)4 قال ابن كثير: (خالدين فيها أبداً) أي: ماكثين مستمرين، فلا خروج لهم منها، ولا زوال لهم عنه5، وقوله: (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ)6، وقوله: (وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ)، وقوله – تعالى -: (ذَلِكَ جَزَاء أَعْدَاء اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاء بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ)7، فالنار باقية لا تفنى وكذلك أهلها من الكفار والمنافقين، ولا يخرج منها إلا عصاة الموحدين بالشفاعة، أو بعد تنقيتهم وتهذيبهم، وأخبر الله – تعالى – عن الكفار أنهم لن يموتوا في النار ولن يحيون حياة طيبة فقال: (إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى)8، وقال: (ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى)9 قال القرطبي: (ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى) أي: "لا يموت فيستريح من العذاب، ولا يحيا حياة تنفعه"10.
وورد من السنة النبوية نصوص كثيرة تدل على أن الجنة والنار لا تفنيان فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((يُؤْتَى بِالْمَوْتِ كَهَيْئَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ، فَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ، ثُمَّ يُنَادِي: يَا أَهْلَ النَّارِ فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ، فَيُذْبَحُ ثُمَّ يَقُولُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، ثُمَّ قَرَأَ: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ)11))12 قال ابن القيم – رحمه الله تعالى -: "وهذا الكبش والإضجاع والذبح ومعاينة الفريقين ذلك؛ حقيقة لا خيال، ولا تمثيل كما أخطأ فيه بعض الناس خطأً قبيحاً، وقال : الموت عرَض، والعرَض لا يتجسَّم فضلاً عن أن يذبح، وهذا لا يصح؛ فإن الله – سبحانه – ينشئ من الموت صورة كبش يذبح، كما ينشئ من الأعمال صوراً معاينة يثاب بها ويعاقب، والله – تعالى – ينشئ من الأعراض أجساماً تكون الأعراض مادة لها، وينشئ من الأجسام أعراضاً، كما ينشئ – سبحانه وتعالى – من الأعراض أعراضاً، ومن الأجسام أجساماً، فالأقسام الأربعة ممكنة مقدورة للرب – تعالى -، ولا يستلزم جمعاً بين النقيضين، ولا شيئاً من المحال، ولا حاجة إلى تكلف من قال: إن الذبح لملك الموت، فهذا كله من الاستدراك الفاسد على الله ورسوله، والتأويل الباطل الذي لا يوجبه عقل ولا نقل، وسببه قله الفهم لمراد الرسول"13.
وعَنْ ابْنِ عُمَرَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا – عَنْ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: ((يَدْخُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، ثُمَّ يَقُومُ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ: يَا أَهْلَ النَّارِ لَا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ الْجَنَّةِ لَا مَوْتَ، خُلُودٌ)14، وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنهما – عَنْ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: ((يُنَادِي مُنَادٍ: إِنَّ لَكُمْ أَنْ تَصِحُّوا فَلَا تَسْقَمُوا أَبَداً، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَحْيَوْا فَلَا تَمُوتُوا أَبَداً، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَشِبُّوا فَلَا تَهْرَمُوا أَبَداً، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَنْعَمُوا فَلَا تَبْأَسُوا أَبَداً، فَذَلِكَ قَوْلُهُ – عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)15))16، أما ما روي عن أبي أمامة – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((يأتي على جهنم يوم ما فيها من بني آدم واحد تخفق))17 فقد ذكره العلماء في الموضوعات، قال الإمام ابن الجوزي – رحمه الله – في كتابه الموضوعات: "هذا حديث موضوع محال"18، وما روي عن الحسن قال: قال عمر – رضي الله عنه – : "لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج لكان لهم على ذلك يوم يخرجون فيه" فقد قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله -: هو منقطع، ثم قال: ولو ثبت حمل على الموحدين19.
ولا تصح نسبة القول بفناء النار إلى شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى -، فإن الراجح عنده أبديتها، وعدم فنائها، وقد نص على ذلك – رحمه الله – في أكثر من موضع من كتبه، فقد قال – رحمه الله تعالى – في كتابه "درء تعارض العقل والنقل": "وقال أهل الإسلام جميعاً: ليس للجنة والنار آخر، وإنهما لا تزالان باقيتين، وكذلك أهل الجنة لا يزالون في الجنة يتنعمون، وأهل النار في النار يعذبون، ليس لذلك آخر…"20، وقال – رحمه الله – أيضاً في كتابه "بيان تلبيس الجهمية": "وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة والجماعة على أن من المخلوقات ما لا يعدم ولا يفنى بالكلية كالجنة والنار والعرش وغير ذلك، ولم يقل بفناء جميع المخلوقات إلا طائفة من أهل الكلام المبتدعين كالجهم بن صفوان، ومن وافقه من المعتزلة ونحوهم، وهذا قول باطل يخالف كتاب الله، وسنة رسوله، وإجماع سلف الأمة وأئمتها"21. ا.هـ.
وسُئل – رحمه الله – عن حديث أنس بن مالك – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: (سبعة لا تموت، ولا تفنى، ولا تذوق الفناء: النار وسكانها، واللوح، والقلم، والكرسي، والعرش) فهل هذا الحديث صحيح أم لا؟.
فأجاب: هذا الخبر بهذا اللفظ ليس من كلام النبي – صلى الله عليه وسلم -، وإنما هو من كلام بعض العلماء، وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة والجماعة على أن من المخلوقات ما لا يعدم ولا يفنى بالكلية كالجنة والنار والعرش وغير ذلك، ولم يقل بفناء جميع المخلوقات إلا طائفة من أهل الكلام المبتدعين كالجهم بن صفوان ومن وافقه من المعتزلة ونحوهم، وهذا قول باطل يخالف كتاب الله، وسنة رسوله، وإجماع سلف الأمة وأئمتها كما في ذلك من الدلالة على بقاء الجنة وأهلها، وبقاء غير ذلك؛ مما لا تتسع هذه الورقة لذكره، والله أعلم"22.
ومما سبق يتبين للقارئ أن ابن تيمية – رحمه الله تعالى – لم يقل بفناء النار، وإنما ذكر في بعض كتبه قول من قال بفناء النار، ففهم البعض أن شيخ الإسلام قال بفناء النار.
وأما الإمام ابن القيم – رحمه الله – فإنه له قولين: الأول: مال فيه إلى القول بفناء النار، وقواه وأيده بالأدلة، وذلك في كتابه "حادي الأرواح"23، والقول الثاني: وهو الموافق لمذهب أهل السنة هو القول بأبدية النار، وعدم فنائها، فقد قال في الوابل الصيب: "وأما النار فإنها دار الخبث في الأقوال والأعمال، والمآكل والمشارب، ودار الخبيثين، فالله – تعالى – يجمع الخبيث بعضه إلى بعض، فيركمه كما يركم الشيء المتراكب بعضه على بعض، ثم يجعله في جهنم مع أهله، فليس فيها إلا خبيث، ولما كان الناس على ثلاث طبقات: طيب لا يشينه خبث، وخبيث لا طيب فيه، وآخرون فيهم خبث وطيب؛ كانت دورهم ثلاثة: دار الطيب المحض، ودار الخبيث المحض، وهاتان الداران لا تفنيان، ودار لمن معه خبث وطيب وهي الدار التي تفنى وهي دار العصاة، فإنه لا يبقى في جهنم من عصاة الموحدين أحد، فإنه إذا عذبوا بقدر جزائهم أخرجوا من النار فأدخلوا الجنة، ولا يبقى إلا دار الطيب المحض، ودار الخبيث المحض"24. اهـ، وعلى هذا، فإن إطلاق القول بأن ابن القيم – رحمه الله تعالى – يقول بفناء النار غلط عليه، إذ تبين لك أن له قولان.
ومن المعلوم لدينا جميعاً عقيدة الإمام ابن القيم – رحمه الله -، فعقيدته سنية سلفية، ولعل قوله في كتاب الوابل الصيب هو القول المتأخر.
والله أعلم.
-----------------------------------------------------------------------
1 متن العقيدة الطحاوية (1/172).
2النساء (168-169).
3 سورة الأحزاب (65).
4سورة الجن (23).
5 تفسير ابن كثير (3/520).
6 سورة الزخرف (74).
7 سورة فصلت (28).
8 سورة طه (74).
9 سورة الأعلى (13).
10 تفسير القرطبي (20/21).
11سورة مريم (39).
12 رواه البخاري (4730)، ومسلم (2849).
13 حادي الأرواح (ص283،284).
14 البخاري (6544)، ومسلم (2850).
15 سورة الأعراف (43).
16رواه مسلم (2827).
17 كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال (14/527).
18 الموضوعات لابن الجوزي (3/268).
19 فتح الباري لابن حجر (11/422).
20 درء تعارض العقل والنقل (1/403).
21 بيان تلبيس الجهمية (1/581).
22 مجموع الفتاوى (18/307).
23 حادي الأرواح (1/256 وما بعدها).
24 الوابل الصيب (1/24).
المصدر: موقع إمام المسجد