وإنما يستقيم له هذا باستقامة قلبه وجواره.
فاستقامة القلب بشيئين:
أحدهما: أن تكون محبة الله تعالى تتقدم عنده على جميع المحابّ، فإذا تعارض حُب تعالى الله وحب غيره سبق حُب الله تعالى حب ما سواه، فرتّب على ذلك مقتضاه.
ما أسهل هذا بالدعوى وما أصعبه بالفعل، فعند الامتحان، يكرم المرء أو يهان، وما أكثر ما يُقدّم العبد ما يحبه هو ويهواه أو يحبه كبيره وأميره وشيخه وأهله على ما يحبه الله تعالى.
فهذا لم تتقدم محبة الله تعالى في قلبه جميع المحاب، ولا كانت هي المَلَكة المؤمرة عليها، وسنة الله تعالى فيمن هذا شأنه أن ينكد عليه محابّه وينغِّصَها عليه ولا ينال شيئاً منها إلا بنكد وتنغيص، جزاءً له على إيثار هواه وهوى من يعظّمه من الخلق أو يحبه على محبة الله تعالى.
وقد قضى الله تعالى قضاء لا يُرد ولا يدفع أن من أحبّ شيئاً سواه عُذِّب به ولا بد، وأن من خاف غيره سُلّط عليه، وأن من اشتغل بشيء غيره كان شؤماً عليه، ومن آثر غيره عليه لم يبارك فيه، ومن أرضى غيره بسخطه أسخطه عليه ولا بد.
الأمر الثاني: الذي يستقيم به القلب تعظيم الأمر والنهي، وهو ناشىء عن تعظيم الآمر الناهي، فإن الله تعالى ذمّ من لا يعظّم أمره ونهيه، قال سبحانه وتعالى: (مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا) [نوح: 13]
قالوا في تفسيرها: ما لكم لا تخافون لله تعالى عظمة.
ما أحسن ما قال شيخ الاسلام في تعظيم الامر والنهي: هو أن لا يُعارضا بترخّص جاف، ولا يعرضا بتشديد غالٍ، ولا يُحملا على علةً تُوهن الانقياد. ومعنى كلامه: أن أول مراتب تعظيم الحق عز وجل تعظيم أمره ونهيه، وذلك المؤمن يعرف ربه عز وجل برسالته التي أرسل بها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى كافة الناس ومقتضاها الانقياد لأمره ونهيه، وإنما يكون ذلك بتعظيم أمر الله عز وجل واتّباعه، وتعظيم نهيه واجتنابه، فيكون تعظيم المؤمن لأمر الله تعالى ونهيه دالاً على تعظيمه لصاحب الأمر والنهي، ويكون بحسب هذا التعظيم من الأبرار المشهود لهم بالإيمان والتصديق وصحة العقيدة والبراءة من النفاق الأكبر.
فإن الرجل قد يتعاطى فعل الأمر لنظر الخلق، وطلب المنزلة والجاه عندهم، ويتقي المناهي خشية سقوطه من أعينهم، وخشية العقوبات الدنيوية من الحدود التي رتبها الشارع صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على المناهي؛ فهذا ليس فعله وتركه صادراً عن تعظيم الأمر والنهي ولا تعظيم الآمر والناهي، فعلامة التعظيم للأوامر رعاية أوقاتها وحدودها والتفتيش على أركانها وواجباتها وكمالها، والحرص على تحينها في أوقاتها، والمسارعة إليها عند وجوبها، والحزن والكآبة والأسف عند فوت حق من حقوقها، كمن يحزن على فوت الجماعة ويعلم أنه تقبلت منه صلاته منفرداً فإنه قد فاته سبعة وعشرون ضعفاً.
ولو أن رجلاً يعاني البيع والشراء تفوته صفقة واحدة في بلده من غير سفر ولا مشقة قيمتها سبعة وعشرون ديناراً لأكل يديه ندماً وأسفاً، فكيف وكل ضعف مما تضاعف به صلاة الجماعة خير من ألف وألف ألف وما شاء الله تعالى.
فإذا فوت العبد عليه هذا الربح قطعاً ـوكثير من العلماء أنه لا صلاة له ـ وهو بارد القلب فارغ من هذه المصيبة غير مرتاع لها، فهذا عدم تعظيم أمر الله تعالى في قلبه، وكذلك إذا فاته أول وقت الذي هو رضوان الله تعالى، أو فاته الصف الأول الذي يصلي الله وملائكته على ميامنه، ولو يعلم العبد فضيلته لجالد عليه ولكانت قرعة.
وكذلك فوّت الجمع الكثير الذي تضاعف الصلاة بكثرته وقلته؛ كلما كثر الجمع كان أحب إلى الله عز وجل، وكلما بعدت الخطا كانت خطوة تحط خطيئة، وأخرى ترفع درجة.
وكذلك فوت الخشوع في الصلاة وحضور القلب فيها بين يدي الرب تبارك وتعالى الذي هو روحها ولُبّها؛ فصلاة بلا خشوع ولا حضور كبدن ميت لا روح فيه، أفلا يستحي العبد أن يهدي إلى مخلوق مثله عبداً ميتاً أو جارية ميتة؟ فما ظن هذا العبد أن تقع تلك الهدية ممن قصده بها من ملك أو من أمير أو غيره؟ فهكذا سواء الصلاة الخالية عن الخشوع والحضور وجمع الهمة على الله تعالى فيها بمنزلة هذا العبد أو الأمة الميت الذي يريد إهداءه إلى بعض الملوك، ولهذا لا يقبلها الله تعالى منه وإن أسقطت الفرض في أحكام الدنيا، ولا يثيبه عليها، فإنه ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل منها كما في السنن ومسند الإمام أحمد وغيره عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:"إن العبد ليصلي الصلاة وما كتب له إلا نصفها إلا ثلثها إلا ربعها إلا خمسها حتى بلغ عشرها".
وينبغي أن يعلم أن سائر الأعمال تجري هذا المجرى، فتفاضل الأعمال عند الله تعالى بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإخلاص والمحبة وتوابعها، وهذا العمل الكامل هو الذي يكفّر السيئات تكفيراً كاملاً، والناقص بحسبه.
وبهاتين القاعدتين تزول إشكالات كثيرة وهما: تفاضل الأعمال بتفاضل ما في القلوب من حقائق الإيمان، وتكفير العمل للسيئات بحسب كماله ونقصانه.
وبهذا يزول الاشكال الذي يورده من نقص حظه من هذا الباب على الحديث الذي فيه: "أن صوم يوم عرفة يكفر سنتين، ويوم عاشوراء يكفر سنة" قالوا: فإذا كان دأبه دائماً أنه يصوم يوم عرفة فصامه وصام يوم عاشوراء، فكيف يقع تكفير ثلاث سنين كل سنة، وأجاب بعضهم عن هذا بأن ما فضُل عن التكفير ينال به الدرجات.
ويالله العجب، فليت العبد إذا أتى بهذه المكفرات كلها أن تكفر عنه سيئاته باجتماع بعضها إلى بعض، والتكفير بهذه مشروط بشروط، موقوف على انتفاء الموانع كلها فحينئذ يقع التكفير، وأما عمل شملته الغفلة أو لأكثره، وفقد الإخلاص الذي هو روحه، ولم يُوَفّ حقه، ولم يقدره حق قدره، فأي شيء يكفر هذا؟ فإن وثق العبد من عمله بأنه وفّاه حقه الذي ينبغي له ظاهراً وباطناً، ولم يعرض له مانع يمنع تكفيره ولا مبطل يحبطه ـ من عجب أو رؤية نفسه فيه أو يمنّ به أو يطلب من العباد تعظيمه به أويستشرف بقلبه لمن يعظمه عليه أو يعادي من لا يعظمه عليه ويرى أنه قد بخسه حقه وأنه قد استهان بحرمته ـ فهذا أي شيء يكفر؟
ومحبطات الأعمال ومفسداتها أكثر من أن تحصر، وليس الشأن في العمل، إنما الشأن في حفظ العمل مما يفسده ويحبطه.
فالرياء وإن دقّ محبط للعمل، وهو أبواب كثيرة لا تحصر، وكون العمل غير مقيّد باتباع السنة أيضاً موجب لكونه باطلاً، والمنّ به على الله تعالى بقلبه مفسد له، وكذلك المنّ بالصدقة والمعروف والبر والإحسان والصلة مفسد لها.
كما قال سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى) [البقرة: 264] وأكثر الناس ما عندهم خبر من السيئات التي تحبط الحسنات، وقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) [الحجرات: 2] فحذّر المؤمنين من حبوط أعمالهم بالجهر لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما يجهر بعضهم لبعض، وليس هذا بِرِدّةٍ؛ بل معصية تحبط العمل وصاحبها لا يشعر بها، فما الظن بمن قدّم على قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهدية وطريقه قول غيره وهديه وطريقه؟ أليس هذا قد حبط عمله وهو لا يشعر؟
ومن هذا قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله"، ومن هذا قول عائشة رضى الله تعالى عنها وعن أبيها لزيد بن أرقم رضى الله عنه لما باع بالعينة: إنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إلا أن يتوب.
وليس التبايع بالعينة رِدّة، وإنما غايته أنه معصية، فمعرفة ما يفسد الأعمال في حال وقوعها ويبطلها ويحبطها بعد وقوعها من أهم ما ينبغي أن يفتّش عليه العبد ويحرص على عمله ويحذره.
وقد جاء في أثر معروف: إن العبد ليعمل العمل سراً لا يطلع عليه أحداً إلا الله تعالى فيتحدث به فينتقل من ديوان السر إلى ديوان العلانية ثم يصير في ذلك الديوان على حسب العلانية؛ فإن تحدث به للسمعة وطلب الجاه والمنزلة عند غير الله تعالى أبطله كما لو فعله لذلك.
فإن قيل: فإذا تاب هذا هل يعود إليه ثواب العمل؟
قيل: إن كان قد عمله لغير الله تعالى وأوقعه بهذه النية فإنه لا ينقلب صالحاً بالتوبة، بل حسب التوبة أن تمحو عنه عقابه فيصير لا له ولا عليه.
وإما أن عمله لله تعالى خالصاً ثم عرض له عجب ورياء أو تحدث به ثم تاب من ذلك وندم فهذا قد يعود له ثواب عمله ولا يحبط.
وقد يقال: إنه لا يعود إليه بل يستأنف العمل.
والمسألة مبنية على أصل، وهو أن الردة هل تحبط العمل بمجردها أو لا يحبطه إلا الموت عليها؟ فيه للعلماء قولان مشهوران وهما روايتان عن الإمام أحمد رضي الله عنه.
فإن قلنا تحبط العمل بنفسها فمتى أستلم استأنف العمل وبطل ما كان قد عمل قبل الاسلام.
وإن قلنا لا يحبط العمل إلا إذا مات مرتداً، فمتى عاد إلى الاسلام عاد إليه ثواب عمله.
وهكذا العبد إذا فعل حسنة ثم فعل سيئة تحبطها ثم تاب من تلك السيئة هل يعود إليه ثواب تلك الحسنة المتقدمة؟ يُخَرَّج على هذا الاصل.
ولم يزل في نفسي من هذه المسألة، ولم أزل حريصاً على الصواب فيها وما رأيت أحداً شفي فيها، والذي يظهر ـ والله تعالى أعلم وبه المستعان ولا قوة إلا به ـ ان الحسنات والسيئات تتدافع وتتقابل ويكون الحكم فيها للغالب وهو يقهر المغلوبين ويكون الحكم له حتى كان المغلوب لم يكن، فإذا غلبت على العبد الحسنات رفعت حسناته الكثيرة سيئاته، ومتى تاب من السيئة ترتبت على توبته منها حسنات كثيره قد تربى وتزيد على الحسنة التي حبطت بالسيئة، فإذا عزمت التوبة وصحت ونشأت من صميم القلب أحرقت ما مرت عليه من السيئات حتى كأنها لم تكن، فإن التائب من الذنب لا ذنب له.
وقد سأل حكيم بن حزام رضى الله عنه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن عتاقة وصلة وبِرّ فعله في الشرك: هل يثاب عليه؟ فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أسلمت على ما أسلفت من خير"، فهذا يقتضي أن الإسلام أعاد عليه ثواب تلك الحسنات التي كانت باطلة بالشرك، فلما تاب من الشرك عاد إليه ثواب حسناته المتقدمة.
فهكذا إذا تاب العبد توبة نصوحاً صادقة خالصة أحرقت ما كان قبلها من السيئات وأعادت عليه ثواب حسناته، يوضح هذا أن السيئات هي أمراض قلبية، كما أن الحمى والاوجاع وأمراض بدنية، والمريض إذا عوفي من مرضه عافية تامة عادت إليه قوته وأفضل منها حتى كأنه لم يضعف قط.
فالقوة المتقدمة بمنزلة الحسنات، والمرض بمنزلة الذنوب، والصحة والعافية بمنزلة التوبة، وكما أن المريض من لا تعود إليه صحته أبداً لضعف عافيته، ومنهم من تعود صحته كما كانت لتقاوم الأسباب وتدافعها ويعود البدن إلى كماله الأول، ومنهم من يعود أصح مما كان وأقوى وأنشط لقوة أسباب العافية وقهرها وغلبتها لأسباب الضعف والمرض حتى ربما كان مرض هذا سبباً لعافيته كما قال الشاعر:
لعل عتبك محمود عواقبه وربما صحت الأجسام بالعلل
فهكذا العبد بعد التوبة على هذه المنازل الثلاث.
والله الموفق لا إله غيره ولا رب سواه.
الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص: 8 - 13)