*حامد بن خلف العمري
ينظر المواطن في هذه البلاد بألم بالغ لتلك الانتهاكات الفكرية الفادحة، التي بات يتفنن في ممارستها التيار الليبرالي، خاصة بعد التمدد الكبير الذي حظي به في السنوات الأخيرة.
وليست هذه الانتهاكات فقط ضد أفكار مستحدثة اخترعها الإسلاميون، وليست أيضًا ضد مشاريع أو شخصيات إسلامية معاصرة لها اجتهاداتها الصائبة والخاطئة، بل وصل الأمر في أحيان كثيرة إلى ما هو أبعد من ذلك، فمن مُتنقص لأحاديث نبوية صحيحة، وواصِف لها بالوحشية، إلى متعدٍّ على جيل الصحابة رضوان الله عليهم، وواصف لهم بأنهم (كانوا رجالاً مثلنا، بل وأقل منَّا في كثير من الأحيان! وأن أخطاءهم كانت كبيرة جدًا إلى درجة تفوق تصوراتنا، وأنه لا يمنع من رؤيتها إلا وهم القداسة الراسخة، وأنهم كانوا نماذج أوليَّة لتصرفاتنا العربية/الإسلامية المعاصرة!!)، بل وصل الأمر بأحد كتاب إحدى الصحف "الوطنية" أن يصرح على الهواء في أحد البرامج، بأن القرآن لا يمثِّل أكثر من مصدر من مصادر المعرفة!
والمؤلم حقًّا؛ أن ساحة تلك الانتهاكات لم تكن صحيفة هاآرتس أو القناة الإسرائيلية العاشرة، بل هي في الغالب صحفنا المحلية وقنوات محسوبة علينا، ناهيك عمَّا هو موجود في المنتديات الليبرالية الخاصة، والذي تصل في حالات كثيرة إلى حدٍّ في الشناعة لا يمكن تصوره!!
هذا الواقع المؤلم، بكل تجلياته، يجعل الكثيرين يتساءلون، لا عن كيفية حدوث مثل تلك الممارسات أو أسباب السماح بها؛ لأن بعض المعطيات قد تسمح بفهم شيء من ذلك، وإنما عن الحكمة الإلهية من ذلك؟
وهنا فقط تبرز أهمية استعراض المؤمن للتاريخ الإسلامي المليء بأحداث مشابهة، وكذلك إلى كلام العارفين الذين مروا بمثل هذه التجارب، ذلك لأنهم وجدوا فيها من الحكم الإلهية العظيمة ما قد يخفى على أمثالنا، ومن شأن وضوح مثل تلك الحكم أن تشحذ من همة المدافعين عن الشريعة، وأن تمنحهم تصورًا أشمل للأمور، يجعلهم أوسع صبرًا و أهدأ بالاً وأعظم ثقة بإعانة الله لهم.
وهنا كلام جميل للإمام ابن القيم يجدر بكل مهتم بواقعنا اليوم أن يتأمله، لعله يجد فيه إجابات على كثير مما يختلج في نفسه؛ حيث يقول رحمه الله: "إن ابتلاء المؤمنين بغَلَبَة خصومهم لهم، وقهرهم، وكسرهم لهم أحيانًا - فيه حكمة عظيمةـ، لا يعلمها على التفصيل إلا الله تعالى:
فمنها: استخراج عبوديَّتهم وذلَّهم لله، وانكسارهم له، وافتقارهم إليه، وسؤاله نصرهم، ولو كانوا دائمًا منصورين قاهرين غالبين لبطروا وأشروا".
وهنا لا يمكن إنكار حدوث أنواع من التجاوزات والأخطاء إبَّان فترة المدِّ الإسلامي في المرحلة السابقة، أو في فترة ما اصطلح على تسميته بالصحوة الإسلامية، مما يمكن إدراجه تحت هذا الباب.
ولو كانوا دائما مقهورين مغلوبين لما قامت للدين قائمة، فاقتضت حكمة أحكم الحاكمين أن صرفهم بين غَلَبِهم تارة، وكونهم مغلوبين تارة، فإذا غُلبوا تضرَّعوا إلى ربِّهم وتابوا إليه، وإذا غَلبوا أقاموا دينه وشعائره، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر.
ومنها: أنهم لو كانوا دائمًا منصورين غالبين لدخل معهم مَن ليس قصده الدين ومتابعة الرسول، فإنه إنما ينضاف إلى مَنْ له الغَلَبَة والعزَّة، ولو كانوا مقهورين مغلوبين دائمًا لم يدخل معهم أحد، فاقتضت الحكمة الإلهية أن كانت لهم الدولة تارة وعليهم تارة، فيتميز بذلك بين مَن يريد الله ورسوله ومَن ليس له مرادٌ إلا الدنيا والجاه".
إذا هي التنقية والتصفية! وهنا لا نملك سوى الترحُّم على ابن القيم، كأنه إنما يتحدَّث عن حالنا، فكم من الذين كانوا محسوبين على الصف الإسلامي إبَّان غَلَبَته وقوَّته، انقلبوا انقلابًا تامًّا، وتحولوا إلى النقيض مباشرةً، مع أن كتابات بعضهم وتسجيلاته لا تزال غَضَّة طريَّة تشهد على توجُّهه السابق، ما يؤكد أنهم إنما كانوا - وكما قال ابن القيم - مُرادهم الدنيا والجاه، بل إن الوقائع تؤكِّد أن أشدَّ أنواع الليبراليين هجومًا على التيار الإسلامي الآن، هم أولئك المتحوِّلين، الذين خرجوا من عباءته، ومَن يدري ماذا سيفعلون إذا دارت بهم الأيام، وأصبحت الحظوة للتيار الإسلامي!!
"ومنها: أنه سبحانه يحب من عباده تكميل عبوديتهم على السرَّاء والضرَّاء، وفي حال إدالتهم والإدالة عليهم، فلله سبحانه على العباد في كلتا الحالين عبودية بمقتضى تلك الحال، لا تحصل إلا بها، ولا يستقيم القلب بدونها، كما لا تستقيم الأبدان إلا بالحرِّ والبرد، والجوع والعطش، والتعب والنَّصَب وأضدادها، فتلك الأحوال شرطٌ في حصول الكمال الإنساني، والاستقامة المطلوبة منه، ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنع" انتهى (إغاثة اللهفان)
ولذلك؛ فيمكن القول أنه كما كان من المنبغي على الإسلاميين في مرحلة اكتساحهم الساحة الشكر لله قولاً و عملاً، وتنقية العمل الدعوي من الشوائب وحظوظ النفس، فإنه من المنبغي عليهم الآن الصبر على ما يلقونه من خصومهم، والثقة بالله، والعلم بأن الله لا يخذُل مَنْ صَدَقَه، فلا يجوز أن يتسلَّل الخَوَر إلى نفوسهم، بسبب ما يرون من غَلَبَة وانتفاش الباطل وأهله.
المصدر: موقع الألوكة