الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فهذه فوائد منتقاة من كتاب مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين لشيخ الإسلام الإمام ابن القيم رحمه الله، وهو كتاب نافع، معقود على بيان أصول تزكية النفس التي هي أهم مقاصد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، والكلام على أعمال القلوب ومنازل السلوك التي يتنقل بينها القلب في السير إلى الله، والتنبيه على ما طرأ من الزيغ والانحراف في وصفها وتحديدها عند المتصوفة.
وقد آثرت أن تكون هذه الفوائد مختصرة بقدرٍ تحصل معه الفائدة. وأسأل الله عز وجل أن ينفع بها الجميع.
*نايف بن علي العوفي
- قال تعالى: (رَفيعُ الدَّرَجاتِ ذُو العَرشِ يُلقِي الرّوحَ مِن أَمرِهِ عَلى مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ لِيُنذِرَ يَومَ التَّلاقِ) [غافر: ١٥].
فالوحي حياة الروح، كما أن الروح حياة البدن، ولهذا من فقد هذه الروح فقدْ فَقَدَ الحياة النافعة في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فحياته حياة البهائم، وله المعيشة الضَنَك، وأما في الآخرة فله جهنم لا يموت فيها ولا يحيا. (٣/ ٢٤٣)
- مراتب العلم والعمل ثلاثة:
روايةٌ، وهي مجرَّد النّقل وحمل المرويِّ.
ودرايةٌ، وهي فهمه وتعقُّل معناه.
ورعايةٌ، وهي العمل بموجب ما علمه ومقتضاه. فالنقَلة همَّتهم الرِّواية، والعلماء همَّتهم الدِّراية، والعارفون همَّتهم الرِّعاية.
وقد ذمَّ الله تعالى من لم يرعَ ما اختاره وابتدعه من الرهبانيَّة حقَّ رعايته، فقال تعالى: (ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا) [الحديد: 27]. (٢/ ٢٩٧)
- وقال سفيان الثوري: ما رأيتُ أسهل من الورع، ما حاك في نفسك فاتركه. (٢/ ٢٥)
- وفسقُ الاعتقاد: كفسق أهل البدع الذين يؤمنون بالله ورسوله واليوم الآخر، ويحرِّمون ما حرَّم الله، ويوجبون ما أوجب الله؛ ولكن ينفُون كثيرًا ممّا أثبت الله ورسوله جهلًا وتأويلًا وتقليدًا للشُّيوخ، ويُثبتون ما لم يثبته الله ورسوله كذلك. وهؤلاء كالخوارج المارقة، وكثيرٍ من الرَّوافض، والقدريَّة، والمعتزلة، وكثيرٍ من الجهميَّة الذين ليسوا غلاةً في التَّجهُّم.
وأمّا غاليَةُ الجهميَّة فكغلاة الرَّافضة، ليس للطَّائفتين في الإسلام نصيبٌ. ولذلك أخرجهم جماعةٌ من السّلف من الثِّنتين وسبعين فرقةً، وقالوا: هم مباينون للملَّة. (١/ ٥٥٧)
- وعن طيب هذه الحياة ولذّتها قال النّبي ﷺ : «ما من نفسٍ تموت لها عند الله خيرٌ يَسُرُّها أن ترجع إلى الدُّنيا وأنّ لها الدُّنيا وما فيها، إلّا الشّهيد، فإنّه يتمنّى الرُّجوع إلى الدُّنيا، لِما يرى من كرامة الله». يعني لِيُقْتَلَ مرّةً أخرى. (٤/ ١٨٧)
- وأتبَعُ الأمّة له ﷺ وأطوَعُهم أصحابه وأهل بيته، وأتبَعُ الصّحابةِ له السَّمع والبصَر: أبو بكرٍ وعمر.
وأشدُّ الأمّة مخالفةً له هم الرّافضة، فخلافُهم له معلومٌ عند جميع فِرَق الأمّة، ولهذا يُبغضون السُّنّة وأهلها، ويعادونها ويعادون أهلها، فهم أعداءُ سنّتِه وأهلِ بيته وأصحابه بالذات؛ فميراثُهم من أمَّتَي الغضب والضلال أتمُّ ميراث، وميراثُ أصحابه وأهل بيته وأتباعهم من نبيِّهم أكملُ ميراث، بل هم ورثته حقًّا.
فقد تبيَّن أنّ الصِّراط المستقيم طريق أصحابه وأتباعه، وطريقُ أهل الغضب والضّلال طريقُ الرّافضة. (١/ ١١٤)
- السخط باب الهمِّ والغمِّ والحزن، وشتات القلب، وكسف البال، وسوء الحال، والظنِّ بالله خلاف ما هو أهله. والرِّضا يخلِّصه من ذلك كلِّه ويفتح له باب جنَّة الدُّنيا قبل جنَّة الآخرة. (٢/ ٥٢٨)
- عن المنافقين:
أسروا سرائر النفاق فأظهرها الله على صفحات الوجوه منهم وفلتات اللسان، ووسمهم لأجلها بسيما لا يخفون بها على أهل البصائر والإيمان. (١/ ٥٨٤)
- ومن الكبائر... الفرح والسُّرور بأذى المسلمين، والشّماتة بمصيبتهم...وتوابع هذه الأمور التي هي أشدُّ تحريمًا من الزِّنى، وشرب الخمر وغيرهما من الكبائر الظّاهرة. (١/ ١٧٢)
- (يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا) أي: عملتَ عملَ المصدِّق.
(إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) نجزي من بادر إلى طاعتنا، بأن نُقِرَّ عينه، كما أقررنا عينَك بامتثال أوامرنا وإبقاء الولد وسلامته.
(إِنَّ هَذَا لَهْوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ) [الصافات: ١٠٤ - ١٠٦]
وهو اختبار المحبوب لمحبِّه، وامتحانه إيّاه ليُؤثِر مرضاته، فيُتِمّ نعمتَه عليه، فهو بلاء محنةٍ ومنحةٍ عليه معًا. (٣/ ٤٠٢)
- معنى تدبر القرآن وتأمل معانيه:
وأما التأمل في القرآن فهو تحديق ناظر القلب إلى معانيه، وجمع الفكر على تدبره وتعقله، وهو المقصود بإنزاله، لا مجرد تلاوته بلا فهم ولا تدبر، قال الله تعالى: (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب) [ص: ٢٩] وقال تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) [محمد: ٢٤] وقال تعالى: (أفلم يدبروا القول) [المؤمنون: ٦٨] وقال تعالى: (إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون) [الزخرف: ٣]. (١/ ٤٤٩)
- ذكر الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب العبد المفتَّن التَّوَّاب".
قلت: وهو الذي كلما فُتن بالذنب تاب منه. (١/ ٤٣٦)
- والغبطة تتضمن نوع تعجب وفرح للمغبوط واستحسان لحاله. (٣/ ٤٢٦)
- والحسد يدلُّ على مهانة الحاسد وعجزه، وإلّا فنافِسْ مَن حسدتَه، فذلك أنفعُ لك من حسدِه، كما قيل:
إذا أعجبتْك خلالُ امرئٍ *** فكُنْه يكنْ منك ما يُعجِبُكْ
فليسَ على الجودِ والمكْرُمات *** إذا جِئتَها حاجبٌ يَحجُبكْ (٣/ ٤٢٦)
- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس منّا من حلقَ وسَلقَ وخرقَ». أي حلق شعره، ورفع صوته بالندب والنياحة، وخرق ثيابه. (٣/ ٤٢٣)
- فكل محبة فهي مصحوبة بالخوف والرجاء، وعلى قدر تمكنها من قلب المحب يشتد خوفه ورجاؤه. لكن خوف المحب لا تصحبه وحشة بخلاف خوف المسيء، ورجاء المحب لا تصحبه علة بخلاف رجاء الأجير. (٢/ ٢٦٩)
- وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- يقول: إذا لم تجد للعمل حلاوة في قلبك وانشراحا فاتهمه، فإن الربّ تعالى شكور.
يعني: أنه لا بد أن يثيب العامل على عمله في الدنيا من حلاوة يجدها في قلبه وقوةً وانشراحاً وقرة عين، فحيث لم يجد ذلك فعمله مدخول. (٢/ ٣٠٩)
- ذكر الله هو باب الله الأعظم المفتوح بينه وبين عبده ما لم يُغلقه العبد بغفلته.
قال الحسن البصري رحمه الله: تفقدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء: في الصلاة وفي الذكر وقراءة القرآن؛ فإن وجدتم وإلا فاعلموا أن الباب مغلق. (٢/ ٣٩٦)
- يقول ﷺ: "احرِصْ على ما ينفعك، واستعِنْ بالله، ولا تعجِزْ". فأمرَه بالحرص على الأسباب، والاستعانة بالمسبِّب. ونهاه عن العجز، وهو نوعان: تقصيره في الأسباب وعدمُ الحرص عليها، وتقصيره في الاستعانة بالله وتركُ تجريدها. فالدِّينُ كلُّه -ظاهره وباطنه، شرائعه وحقائقه- تحت هذه الكلمات النّبويّة. (٤/ ٥٢٥)
- قال النبي صلى الله عليه وسلم: «احرِصْ على ما ينفعك، واستعنْ بالله ولا تَعجِزْ». فقوة الحرص لا تُذَمُّ، وإنما يُذَمُّ صرفُها إلى ما يضرُّ الحرص عليه، أو لا ينفع وغيرُه أنفعُ للعبد منه. (٣/ ٤٣)
- وإذا كان لك أربعة عبيدٍ:
أحدهم يريدك ولا يريد منك، بل إرادته مقصورةٌ عليك وعلى مرضاتك.
والثّاني يريد منك ولا يريدك، بل إرادته مقصورةٌ على حظوظه منك.
والثّالث يريدك ويريد منك.
والرّابع لا يريدك ولا يريد منك، بل هو متعلِّق القلب ببعض عبيدك، فله يريد، ومنه يريد.
فإنّ آثَرَ العبيدِ عندك، وأحبَّهم إليك، وأقربَهم منك منزلةً، والمخصوصَ من إكرامك وعطائك بما لا يناله العبيدُ الثّلاثة= هو الأوّل. وهكذا نحن عند الله سواء. (٣/ ١٠١)
- من الأدب العالي:
وأمّا التّغافل عن الزّلّة، فهو أنّه إذا رأى من أحدٍ زلّةً لم يوجب عليه الشّرع أخْذَه بها أظهر أنّه لم يرَها، لئلّا يُعرِّض صاحبَها للوحشة، ويُرِيحَه من تحمُّلِ العذر. (٣/ ٩٣)
- فكلُّ متساعدين على باطلٍ متوادِّين عليه لا بدَّ أن تنقلب مودَّتُهما بغضًا وعداوةً. (٢/ ٩١)
- مروءة المرء مع نفسه: وهي أن يحملها سرا على مراعاة ما يجمل ويزين، وترك ما يُدنِّس ويَشِين، ليصير لها ملكة في العلانية. فمن اعتاد شيئا في سره وخلوته ملكه في علانيته وجهره، فلا يكشف عورته في الخلوة، ولا يتجشأ بصوت مزعج ما وجد إلى خلافه سبيلا، ولا يخرج الريح بصوت وهو يقدر على خلافه، ولا يَجْشَع ويَنْهَم عند أكله وحده. (٣/ ١٠٦)
- ومدار حُسن الخلق مع الخلق ومع الحق على حرفين، ذكرهما الشيخ عبد القادر الكيلانيُّ - رحمه الله - فقال: كُنْ مع الحقِّ بلا خَلْقٍ، ومع الخَلْق بلا نفسٍ. (٣/ ٦٣)
- وأما النفاق فالداء العضال الذي يكون الرجل ممتلئا منه، وهو لا يشعر، فإنه أمر خفي يخفى على الناس، وكثيرا ما يخفى على من تلبس به، فيزعم أنه مصلح وهو مفسد...وقد هتك الله سبحانه أستار المنافقين وكشف أسرارهم في القرآن، وجلى لعباده أمورهم، ليكونوا منها ومن أهلها على حذر. (١/ ٥٣٥)
- وقال بعضُ العارفين: متى رضيتَ نفسَك وعملَك لله، فاعلم أنّه غيرُ راضٍ به. ومَن عرَفَ أنَّ نفسَه مأوى كلِّ عيبٍ وسوء، وعملَه عُرْضةُ كلِّ آفةٍ ونقصٍ، كيف يرضى لله نفسَه وعملَه؟ (١/ ٢٧٠)
- الذنوب مثل السموم مضرة بالذات، فإن تداركها من سقي بالأدوية المقاومة لها، وإلا قهرت القوة الإيمانية وكان الهلاك، كما قال بعض السلف: المعاصي بريد الكفر، كما أن الحمى بريد الموت. (٢/ ٤٣)
- وكلَّما عظُم المطلوبُ في قلبك صغُرتْ عندك وتضاءلت القيمةُ التي تبذلها في تحصيله، وكلَّما شهدتَ حقيقة الرُّبوبيّة وحقيقةَ العبوديّة، وعرفتَ الله وعرفتَ النّفس، تبيَّن لك أنَّ ما معك من البضاعة لا يصلح للملك الحقِّ، وإنّما يقبله بكرمه وجوده. (١/ ٢٧٠)
- العبد متى علم أن الربّ تعالى ناظر إليه أورثه هذا العلم حياءً منه، يجذبه إلى احتمال أعباء الطاعة، مثل العبد إذا عمل الشغل بين يدي سيده فإنه يكون نشيطا فيه متحمّلا لأعبائه، بخلاف ما إذا كان غائبا عن سيده. والربّ تعالى لا يغيب نظره عن عبده، ولكن يغيب نظر القلب والتفاته إلى نظره سبحانه إلى العبد. (٢/ ٦٢١)
- وأما نسيان الأذية فهو أنك تنسى أذية من نالك بأذى، ليصفو قلبك له، ولا تستوحش منه.
قلت: وهنا نسيان آخر أيضا، وهو من الفتوة، وهو نسيان إحسانك إلى من أحسنت إليه، حتى كأنه لم يصدر منك. وهذا النسيان أكمل من الأول، وفيه قيل:
ينسى صنائعه والله يظهرها *** إن الجميل إذا أخفيته ظهرا (٣/ ٩٤)
- توحيد الربوبيّة يستلزم توحيد الألوهية:
قوله تعالى: (قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون * سيقولون لله قل أفلا تذكرون) [المؤمنون: ٨٤ - ٨٥] فتعلمون أنه إذا كان وحده مالك الأرض ومن فيها، وخالقهم وربهم ومليكهم، فهو وحده إلههم ومعبودهم، فكما لا ربّ لهم غيره، فهكذا لا إل- ه لهم سواه.(٢/ ٢٣)
- وأما حظ النفس من العمل فلا يعرفه إلا أهل البصائر الصادقون. (٢/ ٣٥٢)
- فالمؤمن: جمع إحسانا في مخافة وسوء ظنّ بنفسه، والمغرور: حسَنُ الظن بنفسه مع إساءته. (٢/ ٣٥٥)
- سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن التفات الرجل في صلاته فقال: «هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد». فإذا كان هذا التفات طرفه ولحظه، فكيف التفات قلبه إلى ما سوى الله؟ هذا أعظم نصيب الشيطان من العبودية. (٢/ ٣٥٣)
- وقال بعضهم: آفة العبد رضاه عن نفسه. ومن نظر إلى نفسه باستحسان شيء منها فقد أهلكها، ومن لم يتهم نفسه على دوام الأوقات فهو مغرور. (٢/ ٣٥٤)
- أهمية الرجاء للسائر إلى الله:
الرجاء حادٍ يحدو به في سيره إلى الله، ويطيِّب له المسير، ويحثُّه عليه، ويبعثه على ملازمته. فلولا الرجاء لما سرى أحدٌ، فإن الخوف وحده لا يحرِّك العبد، وإنّما يحرِّكه الحبُّ، ويزعجه الخوف، ويحدوه الرّجاء. (٢/ ٢٨١)
- قال تعالى: (فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون) [الماعون: ٤]
وليس السهو عنها تركها، وإلا لم يكونوا مصلين، وإنما هو السهو عن واجبها، إما الوقت كما قال ابن مسعود وغيره، وإما الحضور والخشوع.
والصواب أنه يعُمّ النوعين، فإنه سبحانه أثبت لهم صلاة ووصفهم بالسهو عنها، فهو السهو عن وقتها الواجب أو إخلاصها وحضورها الواجب، ولذلك وصفهم بالرياء، ولو كان السهو سهو ترك لما كان هناك رياء. (٢/ ٢٠٥)
- والذي أجمع عليه العارفون أن الزهد: سفر القلب من وطن الدنيا وأخذه في منازل الآخرة. (٢/ ٢٢٣)
- الزهد في النِّعم المباحة:
والتحقيق: أنها إن شغلته عن الله فالزهد فيها أفضل. وإن لم تشغله عن الله بل كان شاكرا لله فيها فحاله أفضل، والزهد فيها يحرس القلب عن التعلق بها والطمأنينة إليها. (٢/ ٢٢٦)
اعلم أن القلب إذا خلا من الاهتمام بالدنيا والتعلق بما فيها من مال أو رياسة أو صورة، وتعلق بالآخرة، والاهتمام بها من تحصيل العدة، والتأهب للقدوم على الله سبحانه= فذلك أول فتوحه وتباشير فجره، فعند ذلك يتحرك قلبه لمعرفة ما يرضى ربه منه فيفعله ويتقرب به إليه، وما يسخطه منه فيجتنبه. وهذا عنوان صدق إرادته. (٤/ ٣٤٤)
- هما حياتان في دارين بينهما موتٌ. وكما أنّ نور تلك الدّار مقتبسٌ من نور هذه الدّار، فحياتها مقتبسةٌ من حياتها، فعلى قدر نور الإيمان في هذه الدّار يكون نور العبد في تلك الدّار، وعلى قدر حياته في هذه الدّار تكون حياته هناك. (٤/ ١٩٨)
- القلب الذاكر كالحي في بيوت الأحياء، والغافل كالميت في بيوت الأموات. ولا ريب أن أبدان الغافلين قبور لقلوبهم، وقلوبهم فيها كالأموات في القبور، كما قيل:
فنسيان ذكر الله موت قلوبهم *** وأجسامهم قبل القبور قبور (٣/ ٢١٧)
- فإذا عرف العبد عزّ سيده، ولاحظه بقلبه، وتمكن شهود ذلك منه= كان الاشتغال به عن ذلّ المعصية أولى به وأنفع له، لأنه يصير مع الله لا مع نفسه. (١/ ٣٢١)
- فالشّأنُ في التَّفريق في الأوامر بين حظِّك وحقِّ ربِّك علمًا وحالًا. وكثيرٌ من الصّادقين يلتبس عليهم حالُ نفوسهم في ذلك، ولا يميِّزه إلّا أولو البصائر منهم، وهم في الصَّادقين كالصَّادقين في النّاس! (١/ ٣١٥)
- وأرباب الطريق مجمعون على أن مراقبة الله في الخواطر: سبب لحفظه في حركات الظواهر، فمن راقب الله في سِرّه= حفظه الله في حركاته وعلانيته.
والمراقبة هي التعبد باسمه الرقيب، الحفيظ، العليم، السميع، البصير؛ فمن عقل هذه الأسماء وتعبّد بمقتضاها حصلت له المراقبة. (٢/ ٣٠٧)
- ولله الهمم! ما أعجب شأنها، وأشد تفاوتها! فهمة متعلقة بمن فوق العرش، وهمة حائمة حول الأنتان والحُشِّ. والعامة تقول: قيمة كل امرئ ما يحسنه، والخاصة تقول: قيمة المرء ما يطلبه، وخاصة الخاصة تقول: قيمته همته إلى مطلوبه. (٣/ ٥٧٤)
- يقول ابن القيم في شرحه لعبارة أبي إسماعيل الهروي: (واستدراك الفائتات)
هو استدراك ما فاته من طاعة وقربة بأمثالها أو خير منها، ولاسيما في بقية عمره عند قرب رحيله إلى الله تعالى، فبقية عمر المؤمن لا قيمة لها، يستدرك بها ما فات، ويحيي بها ما أمات. (٢/ ٦٠)
- إذا صفت له الإنابة إلى ربه تخلّص من الفكرة في لذّة الذنب، وعاد مكانها ألَما وتوجُّعا لذِكره والفِكرة فيه، فما دامت لذّة الفكر فيه موجودة في قلبه فإنابته غير صافية. (٢/ ٦٢)
- السرور بالله وقربه وقرة العين به تبعث على الازدياد من طاعته، وتحثّ على السير إليه. (٢/ ٣١٠)
- النفس لها ثلاثة أحوال: الأمر بالذنب، ثم اللوم عليه والندم منه، ثم الطمأنينة إلى ربها والإقبال بكليتها عليه، وهذه الحال أعلى أحوالها وأرفعها، وهي التي يشمّر إليها المجاهد، وما يحصل له من ثواب مجاهدته وصبره فهو لتشميره إلى درجة الطمأنينة إلى الله. (٢/ ٦١)
- قلب المؤمن وكلاب الشهوات
وسمعته -يعني ابن تيمية- يقول في قول النبي ﷺ: "لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة":
إذا كانت الملائكة المخلوقون يمنعها الكلب والصورة عن دخول البيت، فكيف تلج معرفة الله ومحبته وحلاوة ذكره والأنس بقربه، في بيت ممتلئ بكلاب الشهوات وصورها؟ (٣/ ٢٠٠)
- من صفات المؤمن:
أن يتوجع لعثرة أخيه المؤمن إذا عثر، حتى كأنه هو الذي عثر بها، ولا يشمت به، فهو دليل على رقة قلبه وإنابته. (٢/ ٦٠)
- وأجمع العارفون على أن الخشوع محله القلب، وثمرته على الجوارح فهي تظهره. ورأى النبي ﷺ رجلا يعبث بلحيته في الصلاة فقال: "لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه".
ورأى بعضهم رجلا خاشع المنكبين والبدن، فقال: يا فلان، الخشوع هاهنا وأشار إلى صدره، لا هاهنا وأشار إلى منكبيه. (٢/ ١٩٤)
- اتّباع الهوى يطمس نور العقل، ويعمي بصيرة القلب، ويصد عن اتباع الحق، ويضل عن الطريق المستقيم، فلا تحصل بصيرة العبرة معه البتة. والعبد إذا اتّبع هواه فسد رأيه ونظره، فأرته نفسه الحسن في صورة القبيح، والقبيح في صورة الحسن، فالتبس عليه الحق بالباطل، فأنى له الانتفاع بالتذكر، أو بالتفكر، أو بالعظة؟ (٢/ ٨٠)
- الأحوال تصدق الأقوال أو تكذبها، وكل قول فلصدقه وكذبه شاهد من حال قائله؛ فكما رجعت إليه إجابة بالمقال، فارجع إليه إجابة بالحال.
قال الحسن رحمه الله: ابن آدم، لك قول وعمل، وعملك أولى بك من قولك؛ ولك سريرة وعلانية، وسريرتك أملك بك من علانيتك. (٢/ ٥٩)
- العائن لا يؤثر في شاكي السلاح كالحيّة إذا قابلت دِرعا سابغا على جميع البدن ليس فيه موضع مكشوف، فحقٌ على من أراد حفظ نفسه وحمايتها أن لا يزال متدرّعا متحصنا لابسا أداة الحرب مواظبا على أوراد التعوّذات والتحصّنات النبوية التي في السنة والتي في القرآن. (٢/ ٦)
- أعظم الناس خِذلانًا من تعلَّق بغير الله، فإنَّ ما فاته من مصالحه وسعادته وفلاحه أعظمُ ممَّا حصل له ممَّن تعلَّق به، وهو معرَّض للزوال والفوات. ومثل المتعلِّق بغير الله كمثل المستظلِّ من الحرِّ والبرد ببيت العنكبوت أوهن البيوت. (٢/ ٩٤)
- من استقرى أحوال الناس رأى أن كثيرا من أهل الإسلام -أو أكثرهم- أعظم توحيداً، وأكثر معرفةً، وأرسخ إيماناً من أكثر المتكلمين وأرباب النظر والجدال؛ وتجد عندهم من أنواع الأدلة والآيات التي يصح بها إيمانهم ما هو أظهر وأوضح وأصح مما عند المتكلمين. (٤/ ٥٠٦)
- وقال تعالى: (ياأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين) [المائدة: ٥٤].
لما كان الذّل منهم ذُلّ رحمة وعطف وشفقة وإخبات= عدّاه بأداة «على» تضمينا لمعاني هذه الأفعال، فإنه لم يرد به ذُلّ الهوان الذي صاحبه ذليل، وإنما هو ذُلّ اللين والانقياد الذي صاحبه ذلول. فالمؤمن ذلول، كما في الحديث: "المؤمن كالجمل الذلول"، والمنافق والفاسق ذليل.
وأربعة يعشقهم الذُّل أشدّ العشق: الكذّاب، والنّمّام، والبخيل، والجبان. (٣/ ٦٦)
- ومن أحسن كلام العامة: لا همّ مع الله.
قال تعالى: (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب) [الطلاق: ٢ - ٣]
قال الربيع بن خثيم: يجعل له مخرجا من كل ما ضاق على الناس.
وقال أبو العالية: مخرجا من كل شدة. (٢/ ١١٧)
- الرضا بالقدر يخلّص العبد من أن يُرضي الناس بسخط الله، وأن يذمّهم على ما لم يؤته الله، وأن يحمدهم على ما هو محض فضل الله، فيكون ظالما لهم في الأول مُشركا بهم في الثاني؛ فإذا رضي بالقضاء تخلص من ذلك. (٢/ ٥٥٤)
- ومدار السعادة الدنيويَّة والأخرويَّة على الاعتصام بالله، والاعتصام بحبله، ولا نجاة إلَّا لمن استمسك بهاتين العِصمتين؛ فأمَّا الاعتصام بحبله فإنَّه يعصم من الضّلالة، والاعتصام به يعصم من الهلكة. (٢/ ٩٩)
- لا تؤثر على الله أحدا:
كلُّ سببٍ يعود بصلاح قلبك وحالك مع الله: فلا تُؤثِرْ به أبدًا، فإنّما تُؤثِر الشّيطانَ على الله وأنت لا تعلم.
وتأمّلْ أحوالَ أكثر الخلق في إيثارهم على الله من يضرُّهم إيثارهم له ولا ينفعهم، وأيُّ جهالةٍ وسَفَهٍ فوق هذا؟
ومن هذا تكلّم الفقهاء في الإيثار بالقُرَب، وقالوا: إنّه مكروهٌ أو محرَّم. كمن يُؤثِر بالصّفِّ الأوّل غيرَه ويتأخّر هو، أو يُؤثِر بقربه من الإمام يومَ الجمعة، أو يُؤثِر غيرَه بالأذان والإمامة، أو يُؤثره بعلمٍ يَحرِمُه نفسَه، ويُرفِّهُه عليه، فيفوز به دونه. (٣/ ١٥)
- من أساء إليك ثمّ جاء يعتذر من إساءته، فإنّ التّواضع يوجب عليك قبول معذرته، حقًّا كانت أو باطلًا، وتَكِلُ سريرتَه إلى الله تعالى، كما فعل رسول الله ﷺ في المنافقين الذين تخلَّفوا عنه في الغزو، فلمّا قدم جاؤوه يعتذرون إليه، فقبلَ أعذارهم، ووَكَلَ سرائرَهم إلى الله تعالى. (٣/ ٨٢)
- فبين العبد وبين السعادة والفلاح قوة عزيمة، وصبر ساعة، وشجاعة نفس، وثبات قلب، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. (٢/ ٢١٧)
- اسم الله تعالى: الرحمن، واقترانه بالاستواء على العرش:
يقرن استواءه على العرش بهذا الاسم كثيرا، كقوله تعالى: (الرحمن على العرش استوى) [طه: ٥]، (ثم استوى على العرش الرحمن) [الفرقان: ٥٩].
فاستوى على عرشه باسم "الرحمن"، لأن العرش محيط بالمخلوقات قد وسعها، والرحمة محيطة بالخلق واسعة لهم، كما قال تعالى: (ورحمتي وسعت كل شيء) [الأعراف: ١٥٦]. فاستوى على أوسع المخلوقات بأوسع الصفات، فلذلك وسعت رحمته كل شيء. (١/ ٥١)
- من مفسدات القلب: ركوبه بحر التمنّي، وهو بحر لا ساحل له، وهو البحر الذي يركبه مفاليس العالم.
إن المنى رأس أموال المفاليسِ
وبضاعة ركّابه مواعيد الشياطين وخيالات المحال والبهتان، فلا تزال أمواج الأماني الكاذبة والخيالات الباطلة تتلاعب براكبه كما تتلاعب بالجيفة.
وهي بضاعة كل نفس مهينة خسيسة سفلية، ليست لها همة تنال بها الحقائق الخارجية، فاعتاضت عنها بالأماني الذهنية، وكل بحسب حاله، من متمن للقدرة والسلطان، أو للضرب في الأرض والتطواف في البلدان، أو للأموال والأثمان، أو للنسوان والمردان، فيمثل المتمني صورة مطلوبه في نفسه وقد فاز بوصلها، والتذ بالظفر بها، فبينا هو على هذه الحال إذ استيقظ فإذا يده والحصير. (٢/ ٩٣)
- فمتى كان المال في يدك وليس في قلبك لم يضرَّك ولو كَثُر، ومتى كان في قلبك ضرَّ ولو لم يكن في يديك منه شيءٌ. (٢/ ١٠٨)
- والله سبحانه يُحِبُّ تذلُّلَ عبيده بين يديه، وسؤالَهم إيّاه، وطلَبهم حوائجهم منه، وشكواهم منه إليه، وعياذَهم به منه، وفرارَهم منه إليه. كما قيل:
قالوا أتشكو إليه *** ما ليس يَخفى عليه
فقلتُ ربِّيَ يَرضى *** ذُلَّ العبيدِ لديه (٣/ ٥١٠)
- ويحرم عليه استماع الكفر والبدع، إلا حيث يكون في استماعه مصلحة راجحة، من ردِّه، أو الشهادة على قائله، أو زيادة قوة الإيمان والسنة بمعرفة ضدهما من الكفر والبدعة، ونحو ذلك. (١/ ١٧٨)
- فالكبائر: كالرِّياء، والعجب، والكِبر... والفرح والسُّرور بأذى المسلمين، والشّماتة بمصيبتهم. (١/ ١٧٢)
- وكذلك [يحرم] استماع المعازف وآلات الطرب واللهو، كالعود والطُّنبور واليَراع ونحوها.
ولا يجب عليه سد أذنه إذا سمع الصوت، وهو لا يريد استماعه، إلا إذا خاف السكون إليه والإنصات، فحينئذ يجب تجنب سمعه وجوب سد الذرائع. (١/ ١٧٨)
- لذّة الطاعة تبعث على دوام السير إلى الله: سرور القلب من الله، وفرحه وقرة العين به لا يشبهه شيء من نعيم الدنيا البتة، وليس له نظير يقاس به. وهو حال من أحوال الجنة، حتى قال بعض العارفين: إنه ليمر بي أوقات أقول فيها: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب.
ولا ريب أن هذا السرور يبعثه على دوام السير إلى الله وبذل الجهد في طلبه وابتغاء مرضاته، ومن لم يجد هذا السرور ولا شيئا منه فليتّهم إيمانه وأعماله؛ فإن للإيمان حلاوة من لم يذقها فليرجع وليقتبس نورا يجد به حلاوة الإيمان. (٢/ ٣٠٩)
- لا دليل إلى الله والجنة سوى الكتاب والسنة، وكل طريق لم يصحبها دليل السنة والقرآن فهي من طرق الجحيم والشيطان. (٣/ ٢٧٩)
- المشركين كانوا مقرّين بأنه لا رب إلا الله، ولا خالق سواه، وأنه وحده المنفرد بالخلق والربوبية، ولم يكونوا مقرين بتوحيد الإلهية، وهو المحبة والتعظيم، بل كانوا يتألهون مع الله غيره. وهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله، وصاحبه ممن اتخذ من دون الله أندادا. (٣/ ٣٨٥)
- وأما الأبدان الزاكية، فهي التي زكت بطاعة الله، ونبتت على أكل الحلال. فمتى خلصت الأبدان من الحرام وأدناس البشرية، التي ينهى عنها العقل والدين والمروءة، وطهرت الأنفس من علائق الدنيا= زكت أرض القلب، فقبلت بذر العلوم والمعارف. (٣/ ٢٨٧)
- الصادق مطلوبه رضا ربه، وتنفيذ أوامره، وتتبع محابه. فهو متقلب فيها يسير معها أين توجهت ركائبها، ويستقل معها أنى استقلت مضاربها، فبينا هو في صلاة إذ رأيته في ذكر، ثم في غزو، ثم في حج، ثم في إحسان للخلق بالتعليم وغيره من أنواع النفع، ثم في أمر بمعروف أو نهي عن منكر، أو في قيام بسبب فيه عمارة للدين والدنيا. (٢/ ٦٣٦)
- واختلفوا أي الرجائين أكمل: رجاء المحسن ثواب إحسانه، أو رجاء المذنب المسيء التائب مغفرة ربه وعفوه؟
فطائفة رجحت رجاء المحسن لقوة أسباب الرجاء معه، وطائفة رجحت رجاء المذنب لأن رجاءه مجرد عن علّة رؤية العمل، مقرون بذلّة رؤية الذنب. (٢/ ٢٦١)
- الحب والخوف والرجاء أجل المنازل وأعلاها وأشرفها
وقد أخبر تعالى عن خواص عباده الذين كان المشركون يزعمون أنهم يتقربون بهم إلى الله: أنهم كانوا راجين له خائفين منه، فقال تعالى: (قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا * أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه) [الإسراء: ٥٦].
يقول تعالى: هؤلاء الذين تدعونهم من دوني هم عبادي، يتقربون إلي بطاعتي ويرجون رحمتي ويخافون عذابي، فلماذا تدعونهم من دوني؟ فأثنى عليهم بأفضل أحوالهم ومقاماتهم من الحب والخوف والرجاء. (٢/ ٢٦٧-٢٦٨)
- حسن الخلق وتزكية النفس بمكارم الأخلاق يدلُّ على سعة قلب صاحبه وكرم نفسه وسجيَّته. (٢/ ١٠٧)
- لا يعذر أحد بالاحتجاج بالقدر:
العذر إن لم يكن مقبولًا لم يكن نافعًا. والاعتذارُ بالقدَر غير مقبولٍ، ولا يُعذَر به أحدٌ، ولو اعتذر فهو كلامٌ باطلٌ لا يفيد شيئًا البتّة، بل يزيد في ذنب الجاني، وغضبِ الرَّبِّ عليه. وما هذا شأنُه لا يشتغل به عاقلٌ. (١/ ٢٩٣)
- من آفات العمل:
بين القلب وبين الرّبِّ مسافة، وعليها قطَّاعٌ تمنع وصول العمل إليه، من كبرٍ وإعجابٍ وإدلالٍ، ورؤية العمل ونسيان المنَّة، وعللٍ خفيَّةٍ لو استقصى في طلبها لرأى العجب، ومن رحمة الله سَتْرُها على أكثر العُمَّال، إذ لو رأوها وعاينوها لوقعوا فيما هو أشدُّ منها، من اليأس والقنوط، والاستحسار وترك العمل، وخمود العزم وفتور الهمَّة. ولهذا لمّا ظهرت "رعاية أبي عبد الله الحارث بن أسدٍ المحاسبيِّ"* واشتغل بها العبَّاد عطِّلت منهم مساجد كانوا يَعْمُرونها بالعبادة. والطّبيب الحاذق يعلم كيف يَطُبُّ النُّفوس، فلا يعمر قصرًا ويهدم مصرًا. (٢/ ٦٥)
*قال المحقق في الحاشية: وهو مطبوع. ألَّفه جوابًا لمن سأله عن الرعاية لحقوق الله عز وجل والقيام بها. وقد فصَّل فيه في ذكر الآفات التي تعرض للعلم والعمل تفصيلًا مطوَّلًا حيث عقد أبوابًا كثيرة في الرياء والعجب والغِرَّة (أي: الاغترار) وأسبابها وصورها وعلاماتها وأحوال الناس فيها، مما قد يجعل القارئ تفتر همَّته ويترك العمل مخافة الوقوع في تلك الآفات.
- وسمعت شيخ الإسلام ابن تيميَّة قدّس الله روحه يقول: العارف لا يرى له على أحدٍ حقًّا، ولا يشهد له على غيره فضلًا، فلذلك لا يعاتب، ولا يطالب، ولا يضارب. (٢/ ١٩٨)
- التكبير ليلة العيد
وأمّا ختم الأعمال الصّالحة به-يعني التكبير-، فكما ختم به عمل الصِّيام بقوله: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَه عَلَى مَا هَدَاكم) [البقرة: ١٨٥]. (٣/ ٢١٢)
- ما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلّا عِزًّا كما صحّ ذلك عن النّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وعُلِمَ بالتّجربة والوجود، وما انتقَم أحدٌ لنفسِه إلّا ذلَّ.
هذا، وفي الصّفح والعفو والحلم: من الحلاوة والطُّمأنينة والسّكينة، وشرفِ النّفس وعزِّها ورفعتِها عن تشفِّيها بالانتقام= ما ليس شيءٌ منه في المقابلة والانتقام. (٣/ ٥٢)
- وقال النبي ﷺ: "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا"، وقال: "من قال حين يسمع النداء: رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا، غفرت له ذنوبه".
وهذان الحديثان عليهما مدار مقامات الدين، وإليهما ينتهي، وقد تضمنا:
الرضا بربوبيته سبحانه وألوهيته، والرضا برسوله، والانقياد له، والرضا بدينه، والتسليم له.
ومن اجتمعت له هذه الأربعة: فهو الصديق حقا، وهي سهلة بالدعوى واللسان، وهي من أصعب الأمور عند الحقيقة والامتحان، ولا سيما إذا جاء ما يخالف هوى النفس ومرادها من ذلك تبين أن الرضا كان لسانه به ناطقا، فهو على لسانه لا على حاله. (٢/ ١٧١)
- ولهذا سمى بعض العارفين الرضا: حُسن الخلق مع الله؛ فإنه يوجب ترك الاعتراض عليه في ملكه، وحذف فضول الكلام التي تقدح في حسن خلقه. (٢/ ٢١٢)
- الرضا يفتح باب حُسن الخلق مع الله تعالى ومع الناس؛ فإن حُسن الخلق من الرضا، وسوء الخلق من السخط، وحسن الخلق يبلغ بصاحبه درجة الصائم القائم، وسوء الخلق يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب. (٢/ ٢١٢)
- أفضل الأحوال: الرغبة في الله ولوازمها. وذلك لا يتم إلا باليقين، والرضا عن الله.
ولهذا قال سهل: حظ الخلق من اليقين على قدر حظهم من الرضا، وحظهم من الرضا على قدر رغبتهم في الله. (٢/ ٢١٣)
- القبائح تسوّد القلب، وتطفئ نوره، والإيمان هو نور في القلب، والقبائح تذهب به أو تُقلله قطعا؛ فالحسنات تزيد نور القلب، والسيئات تطفئ نور القلب. (٢/ ٢٧)
- وإن العبد ليشتد فرحه يوم القيامة بما له قِبَل الناس من الحقوق في المال والنفس والعِرض. (٢/ ٣٠٦)
- وسئل أحمد بن عاصمٍ: ما علامة الرجاء في العبد؟
فقال: أن يكون إذا أحاط به الإحسان أُُلهم الشُّكر، راجيًا لتمام النِّعمة من الله عليه في الدُّنيا وتمامِ عفوه عنه في الآخرة. (٢/ ٢٦١)
- أنفع الدعاء:
ﻗﺎﻝ ﺷﻴﺦ اﻹﺳﻼﻡ اﺑﻦ ﺗﻴﻤﻴﺔ ﻗﺪﺱ اﻟﻠﻪ ﺭﻭﺣﻪ: ﺗﺄﻣﻠﺖ ﺃﻧﻔﻊ اﻟﺪﻋﺎء؛ ﻓﺈﺫا ﻫﻮ ﺳﺆاﻝ اﻟﻌﻮﻥ ﻋﻠﻰ ﻣﺮﺿﺎﺗﻪ، ﺛﻢ ﺭﺃﻳﺘﻪ ﻓﻲ اﻟﻔﺎﺗﺤﺔ ﻓﻲ: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ). (١/ ١١٠)
- كلّ واردٍ أعقب صاحبه تقدُّمًا إلى الله والدّار الآخرة، وحضورًا فيها، حتّى كأنّه يشاهد الجنّة قد أُزلِفتْ، والجحيم قد سُعِّرت= فهو إلهيٌّ ملكيٌّ، وخلافه شيطانيٌّ نفسانيٌّ. (٣/ ٢٦٧)
- ومن عرف الله وحقه وما ينبغي لعظمته من العبودية تلاشت حسناته عنده، وصغرت جدا في عينه، وعلم أنها ليست مما ينجو بها من عذابه، وأن الذي يليق بعزته، ويصلح له من العبودية أمر آخر، وكلما استكثر منها استقلها واستصغرها، لأنه كلما استكثر منها فتحت له أبواب المعرفة بالله والقرب منه، فشاهد قلبه من عظمته سبحانه وجلاله ما يستصغر معه جميع أعماله، ولو كانت أعمال الثقلين، وإذا كثرت في عينه وعظمت دل على أنه محجوب عن الله، غير عارف به وبما ينبغي له. (١/ ٢٧٦)
- قال حاتم الأصم: لا تغتر بمكان صالح، فلا مكان أصلح من الجنة، ولقي فيها آدم ما لقي، ولا تغتر بكثرة العبادة، فإن إبليس بعد طول العبادة لقي ما لقي، ولا تغتر بكثرة العلم، فإن بلعام بن باعورا لقي ما لقي وكان يعرف الاسم الأعظم، ولا تغتر بلقاء الصالحين ورؤيتهم، فلا شخص أصلح من النبي ﷺ، ولم ينتفع بلقائه أعداؤه والمنافقون. (١/ ٥١٠)
- القلب يسير إلى الله والدّار الآخرة، ويكشف عن طريق الحقِّ ونهجه، وآفاتِ النفس والعمل وقطاعِ الطريق= بنوره وحياته وقوَّته، وصحَّته وعزمه، وسلامة سمعه وبصره، وغيبة الشّواغل والقواطع عنه. (٢/ ٨٧)
- وتمام العبودية: أن يوافق الرسول صلى الله عليه وسلم في مقصوده وقصده وطريقه. فمقصوده الله وحده، وقصده: تنفيذ أوامره في نفسه وفي خلقه، وطريقه: اتباع ما أوحي إليه، فصحبه الصحابة رضي الله عنهم على ذلك حتى لحقوا به، ثم جاء التابعون لهم بإحسان، فمضوا على آثارهم. (٣/ ٢٠٤)
- الفرح بالمعصية دليل على شدة الرغبة فيها، والجهل بقدر من عصاه، والجهل بسوء عاقبتها وعظم خطرها، ففرحه بها غطّى عليه ذلك كله، وفرحه بها أشد ضررا عليه من مواقعتها، والمؤمن لا تتم له لذة بمعصية أبدا، ولا يكمل بها فرحه، بل لا يباشرها إلا والحزن مخالط لقلبه، ولكن سكر الشهوة يحجبه عن الشعور به، ومتى خلى قلبه من هذا الحزن، واشتدت غبطته وسروره فليتّهِم إيمانه، ولْيَبكِ على موت قلبه. (١/ ١٩٨)
- ومتى تُهت عن الطريق فارجع إلى ذنبك تجد الطريق. ومعنى ذلك: أنك إذا رجعت إلى ذنبك انكسرت وذللت، وأطرقت بين يدي الله عز وجل، خاشعا ذليلا خائفا، وهذه طريق العبودية. (١/ ٢٢٠)
- والرجاء ثلاثة أنواع: نوعان محمودان، ونوعٌ غرور مذموم.
فالأوَّلان: رجاءُ رجلٍ عمل بطاعة الله على نورٍ من الله فهو راجٍ لثوابه، ورجلٍ أذنب ذنبًا ثمَّ تاب منه فهو راجٍ لمغفرته.
والثالث: رجلٌ مُتَمادٍ في التفريط والخطايا يرجو رحمة الله بلا عملٍ، فهذا هو الغرور والتمنِّي والرجاء الكاذب. (٢/ ٢٦٠)
- قد يعرض لأحدهم حال يُحدّث نفسه بأنه لو عذبه لكان راضيا بعذابه كرضا صاحب الثواب بثوابه، ويعزم على ذلك بقلبه، ولكن هذا عزم وأمنية، وعند الحقيقة لا يكون لذلك أثر البتة، ولو امتحنه بأدنى مِحنة لصاح واستغاث وسأل العافية، كما جرى للقائل:
وليس لي من هواك بُدٌّ ... فكيفما شئتَ فامتحنِّي
فامتحنه بعسر البول، فطاحت هذه الدعوى عنه واضمحل خيالها، وجعل يطوف على صبيان المكاتب ويقول: ادعوا لعمكم الكذاب!
فالعزم على الرضا لون، وحقيقته لون آخر. (٢/ ٢٨٠)
- قال تعالى: (كَلّا بَل رانَ عَلى قُلوبِهِم ما كانوا يَكسِبونَ) [المطففين: ١٤]
والرين والران هو الحجاب الكثيف المانع للقلب من رؤية الحق والانقياد له. (١/ ١٥٠)
- حُسن الظن بالنفس يمنعها كمالها:وأما سوء الظن بالنفس فإنما احتاج إليه؛ لأن حسن الظن بالنفس يمنع من كمال التفتيش ويلبّس عليه، فيرى المساوئ محاسن، والعيوب كمالا، فإن المحب يرى مساوئ محبوبه وعيوبه كذلك
فعين الرضى عن كل عيب كليلة *** كما أن عين السخط تبدي المساويا (١/ ١٨٩)
- وإذا كانت حياة أهل الإيمان والعمل الصالح في هذه الدار حياة طيبة، فما الظن بحياتهم في البرزخ، وقد تخلصوا من سجن الدنيا وضيقها؟ فما الظن بحياتهم في دار النعيم المقيم الذي لا يزول، وهم يرون وجه ربهم تبارك وتعالى بكرة وعشيا ويسمعون خطابه؟ (٣/ ٢٦٥)
- الإيمان هو روح الأعمال، وهو الباعث عليها، والآمر بأحسنها، والناهي عن أقبحها، وعلى قدر قوة الإيمان يكون أمره ونهيه لصاحبه، وائتمار صاحبه وانتهاؤه، قال الله تعالى: (قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين) [البقرة: ٩٣]. (٣/ ٢٦٥)
- محاسبة النفس:
وقد دل على المحاسبة قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلتَنظُر نَفسٌ ما قَدَّمَت لِغَدٍ) [الحشر: ١٨]
فأمر سبحانهُ العبدَ أن ينظر ما قدم لغدٍ، وذلك يتضمن محاسبة نفسه على ذلك، والنظر هل يصلح ما قدمه أن يلقى الله به أو لا يصلح؟ (١/ ١٨٧)
- الفرق بين علم اليقين وعين اليقين:
كالفرق بين الخبر الصادق والعيان، وحق اليقين: فوق هذا.
وقد مثلت المراتب الثلاثة بمن أخبرك: أن عنده عسلا، وأنت لا تشك في صدقه ثم أراك إياه فازددت يقينا ثم ذقت منه.
فالأول: علم اليقين. والثاني: عين اليقين. والثالث: حق اليقين.
فعلمنا الآن بالجنة والنار: علم يقين، فإذا أزلفت الجنة في الموقف للمتقين وشاهدها الخلائق، وبرزت الجحيم للغاوين وعاينها الخلائق فذلك: عين اليقين، فإذا أدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار: فذلك حينئذ حق اليقين. (٢/ ٣٧٩)
- وكان ﷺ يستعيذ كثيراً من عذاب النار، ومن عذاب القبر، وأمر المسلمين أن يستعيذوا في تشهدهم من عذاب القبر، وعذاب النار، وفتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجال، حتى قيل: إن هذا الدعاء واجب في الصلاة لا تصح إلا به. (٢/ ٤٨)
- من الأمور التي تُهذّب القصد:
ألا يسوق نفسه إلى الله كرها؛ كالأجير المسخر المكلف؛ بل تكون دواعي قلبه وجواذبه منساقة إلى الله طوعا ومحبة وإيثارا، كجريان الماء في منحدره، وهذه حال المحبين الصادقين؛ فإن عبادتهم طوعا ومحبة ورضا، ففيها قرة عيونهم، وسرور قلوبهم، ولذة أرواحهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وجُعلت قرة عيني في الصلاة"، وكان يقول: "يا بلال، أرحنا بالصلاة". (٢/ ١٠٢)
- قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: (قُل يا أَيُّهَا الكافِرونَ لا أَعبُدُ ما تَعبُدونَ) [الكافرون: ١-٢] إلى آخرها، وهذه براءة منهم ومن معبودهم، وسمّاها براءة من الشرك. (١/ ١٨٦)
- علامة قبول العمل: احتقاره واستقلاله، وصغره في قلبك، حتى إن العارف ليستغفر الله عقيب طاعته، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلّم من الصلاة استغفر الله ثلاثا. (٢/ ٦٢)
- قوله تعالى: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّـهِ أَكْبَرُ) [العنكبوت: 45]
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: معنى الآية: أن في الصلاة فائدتين عظيمتين:
إحداهما: نهيها عن الفحشاء والمنكر
والثانية: اشتمالها على ذكر الله وتضمنها له، ولَما تضمنته من ذكر الله أعظم من نهيها عن الفحشاء والمنكر. (٢/ ٣٩٨)
- قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: إن لهذه القلوب إقبالا وإدبارا، فإذا أقبلت فخذوها بالنوافل، وإن أدبرت فألزموها الفرائض.
وفي هذه الفترات والغيوم والحجب، التي تعرض للسالكين من الحِكم ما لا يعلم تفصيله إلا الله، وبها يتبين الصادق من الكاذب.
فالكاذب: ينقلب على عقبيه ويعود إلى رسوم طبيعته وهواه. والصادق: ينتظر الفرج، ولا ييأس من روح الله، ويلقي نفسه بالباب طريحا ذليلا مسكينا مستكينا، كالإناء الفارغ الذي لا شيء فيه ألبتة، ينتظر أن يضع فيه مالك الإناء وصانعه ما يصلح له، لا بسبب من العبد -وإن كان هذا الافتقار من أعظم الأسباب -لكن ليس هو منك، بل هو الذي منَّ عليك به وجرّدك منك وأخلاك عنك، وهو الذي يحول بين المرء وقلبه.
فإذا رأيته قد أقامك في هذا المقام، فاعلم أنه يريد أن يرحمك ويملأ إناءك، فإن وضعت القلب في غير هذا الموضع فاعلم أنه قلب مضيّع. فسل ربه ومن هو بين أصابعه: أن يرده عليك ويجمع شملك به. (٣/ ١٢٢)
- يستحب التكبير في البيوت والمساجد والطرقات والأسواق من غروب شمس آخر يوم من رمضان إلى الفراغ من خطبة العيد:
وأما ختم الأعمال الصالحة به: فكما ختم به عمل الصيام بقوله: (ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون) [البقرة: 185]. (٢/ ٣٩٨)
- قيل لبعضهم -وقد شوهد منه خلاف ما كان يعهد عليه-: ما الذي أصابك؟
فقال: حجاب وقع، وأنشد:
أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت *** ولم تخف سوء ما يأتي به القدر
وسالمتك الليالي فاغتررت بها *** وعند صفو الليالي يحدث الكدر
ليس العجب ممن هلك كيف هلك؟ إنما العجب ممن نجا كيف نجا؟
تعجبين من سقمي *** صحتي هي العجب (٣/ ١٢٦)
- قوله تعالى: (ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون) [الأنفال: 23] أي: لو علم الله في هؤلاء الكفار قبولا وانقيادا لأفهمهم، وإلا فهم قد سمعوا سمع الإدراك.
(ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون) أي: ولو أفهمهم لما انقادوا ولا انتفعوا بما فهموا؛ لأن في قلوبهم من داعي التولي والإعراض ما يمنعهم عن الانتفاع بما سمعوه. (١/ ٤٨٠)
- سباق المطيع والعاصي التائب:
في زمن اشتغال العاصي بمعصيته يسبقه المطيع عدة مراحل إلى فوق، فتكون درجته أعلى من درجته، وغايته أنه إذا تاب استقبل سيره ليلحقه، وذاك في سير آخر، فأنى له بلحاقه؟ (١/ ٣٠٤)
- الاشتغال بالله والغفلة عما سواه هو المطلب الأعلى، والمقصد الأسنى. (١/ ٢٢٣)
- السلامة من الذنب خير من الوقوع فيه ثم التوبة:
الذنب بمنزلة شرب السمّ، والتوبة ترياقه ودواؤه، والطاعة هي الصحة والعافية، وصحة وعافية مستمرة خير من صحة تخللها مرض وشرب سمّ أفاق منه، وربما أديا به إلى التلف أو المرض أبدا. (١/ ٣٠٤)
في الصحيحين من حديث أبي موسى رضي الله عنه عن النبي ﷺ: "مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره: مثل الحي والميت" ولفظ مسلم: "مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه: مثل الحي والميت". فجعل بيت الذاكر بمنزلة بيت الحي، وبيت الغافل بمنزلة بيت الميت وهو القبر. (٢/ ٤٠٣)
- أحسنوا وأبشروا:
(هَل جَزاءُ الإِحسانِ إِلَّا الإِحسانُ) [الرحمن: ٦٠]
فالإحسان: جامع لجميع أبواب الحقائق. وهو أن تعبد الله كأنك تراه.
أما الآية: فقال ابن عباس والمفسرون: هل جزاء من قال: لا إله إلا الله وعمل بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم إلا الجنة؟. (٢/ ٤٣٠)
- مراتب الناس في المقدور ثلاثة:
الرضا، وهو أعلاها، والسخط، وهو أسفلها، والصبر عليه بدون الرضا به، وهو أوسطها.
فالأولى للمقربين السابقين، والثالثة للمقتصدين، والثانية للظالمين، وكثير من الناس يصبر على المقدور فلا يسخط، وهو غير راض به، فالرضا أمر آخر. (١/ ١٣١)
- قال أبو سليمان الداراني: لما ادّعت القلوب محبة الله، أنزل الله لها محنة: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) [آل عمران: ٣١].
قال بعض السلف: ادّعى قوم محبة الله، فأنزل الله آية المحنة: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) [آل عمران: ٣١]. (٣/ ٢٣)
- قال الله تعالى: (واذكر ربك إذا نسيت) [الكهف: 24]
وتفسير الآية عند جماعة المفسرين: أنك لا تقل لشيء: أفعل كذا وكذا، حتى تقول: إن شاء الله؛ فإذا نسيت أن تقولها فقلها متى ذكرتها. (٢/ ٤٠٣)
- الذّكر ثلاثة أنواع:
ذكر الأسماء والصفات ومعانيها، والثناء على الله بها، وتوحيد الله بها.
وذكر الأمر والنهي والحلال والحرام.
وذكر الآلاء والنعماء والإحسان والأيادي.
وأنه ثلاثة أنواع أيضا:
ذكر يتواطأ عليه القلب واللسان، وهو أعلاها
وذكر بالقلب وحده وهو في الدرجة الثانية
وذكر باللسان المجرد، وهو في الدرجة الثالثة. (٢/ ٤٠٣)
- وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم متمني الخير، وربما جعل أجره في بعض الأشياء كأجر فاعله، كالقائل: "لو أن لي مالا لعملت بعمل فلان الذي يتقي في ماله ربه، ويصل فيه رحمه، ويخرج منه حقه" وقال: "هما في الأجر سواء". (١/ ٤٥٤)
- وقال تعالى: (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا) [الشورى: 52]
فجعله رُوحا لما يحصل به من حياة القلوب والأرواح، ونورا لما يحصل به من الهدى والرشاد. (٣/ ١٥٥)
- من الأدب مع النبي ﷺ:
أن لا يتقدم بين يديه بأمر ولا نهي، ولا إذن ولا تصرف حتى يأمر هو، وينهى ويأذن، كما قال تعالى: (ياأيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) [الحجرات: 1].
وهذا باق إلى يوم القيامة ولم ينسخ؛ فالتقدم بين يدي سنته بعد وفاته، كالتقدم بين يديه في حياته، ولا فرق بينهما عند ذي عقل سليم. (٢/ ٣٦٧)
- العبد بين مِنّة من الله عليه، وحجة منه عليه، ولا ينفك عنهما، فالحكم الديني متضمن لمّنته وحجته، قال الله تعالى: (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم) [آل عمران: 164] وقال: (بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان) [الحجرات: 17] وقال: (فلله الحجة البالغة) [الأنعام: 149]. (١/ ١٨٩)
- الجود يبعث العبد على المسامحة بحقوق نفسه، والاستقصاء منها بحقوق غيره، فالجود هو قائد جيوش الخير. (٢/ ٣٠١)
- العبد إذا توكل حق التوكل رضي بما يفعله وكيله، وكان شيخنا رضي الله عنه يقول: المقدور يكتنفه أمران:
التوكل قبله، والرضا بعده؛ فمن توكل على الله قبل الفعل، ورضي بالمقضي له بعد الفعل = فقد قام بالعبودية. (٢/ ١٢٢) بتصرف يسير
- متابعة الرسول ﷺ دليل محبته:
متابعة الرسول هي: حبُّ الله ورسوله، وطاعة أمره، ولا يكفي ذلك في العبودية حتى يكون الله ورسوله أحب إلى العبد مما سواهما، فلا يكون عنده شيء أحب إليه من الله ورسوله، ومتى كان عنده شيء أحب إليه منهما فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله لصاحبه البتة، ولا يهديه الله. (١/ ١٢٠)
- وأخبر أنه يحب المتوكلين عليه، كما يحب الشاكرين، وكما يحب المحسنين، وكما يحب الصابرين، وكما يحب التوابين. (٢/ ١٢٧)
- من الأمور التي تخفف وقع البلاء:
لا ريب أن المبتلى إذا قويت مشاهدته للمثوبة: سكن قلبه واطمأن بمشاهدة العوض، وإنما يشتد به البلاء إذا غاب عنه ملاحظة الثواب. وقد تقوى ملاحظة العوض حتى يستلذ بالبلاء ويراه نعمة، ولا تستبعد هذا، فكثير من العقلاء إذا تحقق نفع الدواء الكريه فإنه يكاد يلتذ به، وملاحظته لنفعه تغيبه عن تألمه بمذاقه أو تخففه عنه. والعمل المعول عليه: إنما هو على البصائر. (٢/ ٤٨٣)
- قال الله تعالى: (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب) [الطلاق: 2]
قال الربيع بن خثيم: يجعل له مخرجا من كل ما ضاق على الناس.
وقال أبو العالية: مخرجا من كل شدة.
وهذا جامع لشدائد الدنيا والآخرة، ومضايق الدنيا والآخرة، فإن الله يجعل للمتقي من كل ما ضاق على الناس واشتد عليهم في الدنيا والآخرة مخرجا. (١/ ٤٦٨)
- الأفضل في وقت قراءة القرآن:
جمعية القلب والهمة على تدبره وتفهمه، حتى كأن الله تعالى يخاطبك به، فتجمع قلبك على فهمه وتدبره، والعزم على تنفيذ أوامره أعظم من جمعية قلب من جاءه كتاب من السلطان على ذلك. (١/ ١١٠)
- الإخلاص: استواء أعمال العبد في الظاهر والباطن
والرياء: أن يكون ظاهره خيرا من باطنه
والصدق في الإخلاص: أن يكون باطنه أعمر من ظاهره. (٢/ ٩١)
- ﻭﻛﻤﺎ ﺃﻥ ﻣﻦ (ﺗﻮاﺿﻊ ﻟﻠﻪ ﺭﻓﻌﻪ)، ﻓﻜﺬﻟﻚ ﻣﻦ ﺗﻜﺒﺮ ﻋﻦ اﻻﻧﻘﻴﺎﺩ ﻟﻠﺤﻖ ﺃﺫﻟّﻪ اﻟﻠﻪ ﻭﻭﺿﻌﻪ، ﻭﺻﻐّﺮﻩ ﻭﺣﻘّﺮﻩ. (٢/ ٣١٧)
- من أسماء الله تعالى: الشهيد
ﻓﺸﻬﺎﺩﺓ اﻟﺮﺏ ﺗﻌﺎﻟﻰ: ﺗﻜﺬﺏ ﻫﺆﻻء ﺃﺷﺪ اﻟﺘﻜﺬﻳﺐ، ﻭﺗﺘﻀﻤﻦ ﺃﻥ اﻟﺬﻱ ﺷﻬﺪ ﺑﻪ ﻗﺪ ﺑﻴﻨﻪ ﻭﺃﻭﺿﺤﻪ ﻭﺃﻇﻬﺮﻩ، ﺣﺘﻰ ﺟﻌﻠﻪ ﻓﻲ ﺃﻋﻠﻰ ﻣﺮاﺗﺐ اﻟﻈﻬﻮﺭ ﻭاﻟﺒﻴﺎﻥ. (٣/ ٤٣٠)
ﻓﺈﻥ ﻣﻦ ﺃﺳﻤﺎﺋﻪ اﻟﺸﻬﻴﺪ: اﻟﺬﻱ ﻻ ﻳﻐﻴﺐ ﻋﻨﻪ ﺷﻲء، ﻭﻻ ﻳﻌﺰﺏ ﻋﻨﻪ ﻣﺜﻘﺎﻝ ﺫﺭﺓ ﻓﻲ اﻷﺭﺽ ﻭﻻ ﻓﻲ اﻟﺴﻤﺎء، ﺑﻞ ﻫﻮ ﻣﻄﻠﻊ ﻋﻠﻰ ﻛﻞ ﺷﻲء ﻣﺸﺎﻫﺪ ﻟﻪ، ﻋﻠﻴﻢ ﺑﺘﻔﺎﺻﻴﻠﻪ. (٣/ ٤٣٣)
ﻭﻣﻦ ﻛﻤﺎﻟﻪ اﻟﻤﻘﺪﺱ: اﻃﻼﻋﻪ ﻋﻠﻰ ﻛﻞ ﺷﻲء، ﻭﺷﻬﺎﺩﺗﻪ ﻋﻠﻴﻪ، ﺑﺤﻴﺚ ﻻ ﻳﻐﻴﺐ ﻋﻨﻪ ﻭﺟﻪ ﻣﻦ ﻭﺟﻮﻩ ﺗﻔﺎﺻﻴﻠﻪ، ﻭﻻ ﺫﺭﺓ ﻣﻦ ﺫﺭاﺗﻪ، ﺑﺎﻃﻨﺎ ﻭﻇﺎﻫﺮا. (٣/ ٤٣٣)
شهادته سبحانه فوق كل شهادة:
ﺛﻢ ﻭﺻﻔﻪ ﺑﺄﻥ ﺷﻬﺎﺩﺗﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻓﻮﻕ ﻛﻞ ﺷﻬﺎﺩﺓ ﻭﺃﻋﻢ، ﻓﻘﺎﻝ: (ﻭﺃﻧﺖ ﻋﻠﻰ ﻛﻞ ﺷﻲء ﺷﻬﻴﺪ) [ اﻟﻤﺎﺋﺪﺓ: ١١٧]. (٣/ ٣٥٨)
قوله تعالى: (ﺃﻭﻟﻢ ﻳﻜﻒ ﺑﺮﺑﻚ ﺃﻧﻪ ﻋﻠﻰ ﻛﻞ ﺷﻲء ﺷﻬﻴﺪ) [ ﻓﺼﻠﺖ: ٥٣]
ﺛﻢ ﺫﻛﺮ ﻣﺎ ﻫﻮ ﺃﻋﻈﻢ ﻣﻦ ﺫﻟﻚ ﻭﺃﺟﻞ، ﻭﻫﻮ ﺷﻬﺎﺩﺗﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻋﻠﻰ ﻛﻞ ﺷﻲء، ﻓﺈﻥ ﻣﻦ ﺃﺳﻤﺎﺋﻪ الشهيد اﻟﺬﻱ ﻻ ﻳﻐﻴﺐ ﻋﻨﻪ ﺷﻲء، ﻭﻻ ﻳﻌﺰﺏ ﻋﻨﻪ ﻣﺜﻘﺎﻝ ﺫﺭﺓ ﻓﻲ اﻷﺭﺽ ﻭﻻ ﻓﻲ اﻟﺴﻤﺎء، ﺑﻞ ﻫﻮ ﻣﻄﻠﻊ ﻋﻠﻰ ﻛﻞ ﺷﻲء ﻣﺸﺎﻫﺪ ﻟﻪ، ﻋﻠﻴﻢ ﺑﺘﻔﺎﺻﻴﻠﻪ. (٣/ ٤٣٣)
- طوبى للغرباء:
أهل اﻹﺳﻼﻡ ﻓﻲ اﻟﻨﺎﺱ ﻏﺮﺑﺎء، ﻭاﻟﻤﺆﻣﻨﻮﻥ ﻓﻲ ﺃﻫﻞ اﻹﺳﻼﻡ ﻏﺮﺑﺎء، ﻭﺃﻫﻞ اﻟﻌﻠﻢ ﻓﻲ اﻟﻤﺆﻣﻨﻴﻦ ﻏﺮﺑﺎء، ﻭﺃﻫﻞ اﻟﺴﻨﺔ اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻤﻴﺰﻭﻧﻬﺎ ﻣﻦ اﻷﻫﻮاء ﻭاﻟﺒﺪﻉ ﻓﻬﻢ ﻏﺮﺑﺎء، ﻭاﻟﺪاﻋﻮﻥ ﺇﻟﻴﻬﺎ اﻟﺼﺎﺑﺮﻭﻥ ﻋﻠﻰ ﺃﺫﻯ اﻟﻤﺨﺎﻟﻔﻴﻦ ﻫﻢ ﺃﺷﺪ ﻫﺆﻻء ﻏﺮﺑﺔ، ﻭﻟﻜﻦ ﻫﺆﻻء ﻫﻢ ﺃﻫﻞ اﻟﻠﻪ ﺣﻘﺎ، ﻓﻼ ﻏﺮﺑﺔ ﻋﻠﻴﻬﻢ، ﻭﺇﻧﻤﺎ ﻏﺮﺑﺘﻬﻢ ﺑﻴﻦ اﻷﻛﺜﺮﻳﻦ، اﻟﺬﻳﻦ ﻗﺎﻝ اﻟﻠﻪ ﻋﺰ ﻭﺟﻞ ﻓﻴﻬﻢ: (وَإِن تُطِع أَكثَرَ مَن فِي الأَرضِ يُضِلّوكَ عَن سَبيلِ اللَّـهِ) [الأنعام: ١١٦]. (١/ ١٨٦)
ﻭﻻ ﻳﺄﻣﻦ ﻛﺮّاﺕ اﻟﻘﺪﺭ ﻭﺳﻄﻮﺗﻪ ﺇﻻ ﺃﻫﻞ اﻟﺠﻬﻞ ﺑﺎﻟﻠﻪ، ﻭﻗﺪ ﻗﺎﻝ اﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﻷﻋﻠﻢ اﻟﺨﻠﻖ ﺑﻪ، ﻭﺃﻗﺮﺑﻬﻢ ﺇﻟﻴﻪ ﻭﺳﻴﻠﺔ: (ﻭﻟﻮﻻ ﺃﻥ ﺛﺒﺘﻨﺎﻙ ﻟﻘﺪ ﻛﺪﺕ ﺗﺮﻛﻦ ﺇﻟﻴﻬﻢ ﺷﻴﺌﺎ ﻗﻠﻴﻼ) [ اﻹﺳﺮاء: ٧٤].
- ﻭﻗﺎﻝ ﻳﻮﺳﻒ اﻟﺼﺪﻳﻖ: (ﻭﺇﻻ ﺗﺼﺮﻑ ﻋﻨﻲ ﻛﻴﺪﻫﻦ ﺃﺻﺐ ﺇﻟﻴﻬﻦ ﻭﺃﻛﻦ ﻣﻦ اﻟﺠﺎﻫﻠﻴﻦ) [ ﻳﻮﺳﻒ: ٣٣] ﻭﻛﺎﻧﺖ ﻋﺎﻣﺔ ﻳﻤﻴﻦ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ "ﻻ، ﻭﻣﻘﻠﺐ اﻟﻘﻠﻮﺏ". (١/ ١٩٥)
- فعُلم أن القوي من أسمائه، ومعناه الموصوف بالقوة، وكذلك قوله: (فلله العزة جميعا) [فاطر: ١٠] فالعزيز من له العزة، فلولا ثبوت القوة والعزة له لم يُسمَّ قويا ولا عزيزا. (1/ 52)
- من جهل المشرك اعتقاده أنّ من اتخذه وليا أو شفيعا أنه يشفع له، وينفعه عند الله، كما يكون خواص الملوك والولاة تنفع شفاعتهم من والاهم، ولم يعلموا أن الله لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، ولا يأذن في الشفاعة إلا لمن رضي قوله وعمله، كما قال تعالى في الفصل الأول: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه)، وفي الفصل الثاني: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى). (١/ ٣٤٩)
- الدين كله استكثار من الطاعات، وأحب خلق الله إليه أعظمهم استكثارا منها. (١/ ٢٧٤)
- وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه يقول: مَن أراد السعادة الأبديَّة، فليلزم عَتبة العبوديّة. (١/ ٤٢٩)
- معنى اسم "الله" جل جلاله
اسم الله مستلزم لجميع معاني الأسماء الحسنى، دال عليها بالإجمال، والأسماء الحسنى تفصيل وتبيين لصفات الإلهية التي اشتق منها اسم الله، واسم الله دال على كونه مألوها معبودا، تؤلهه الخلائق محبة وتعظيما وخضوعا، وفزعا إليه في الحوائج والنوائب، وذلك مستلزم لكمال ربوبيته ورحمته، المتضمنين لكمال الملك والحمد، وإلهيته وربوبيته ورحمانيته وملكه مستلزم لجميع صفات كماله، إذ يستحيل ثبوت ذلك لمن ليس بحي، ولا سميع، ولا بصير، ولا قادر، ولا متكلم، ولا فعال لما يريد، ولا حكيم في أفعاله. وصفات الجلال والجمال: أخص باسم الله. (١/ ٥٦)
- من أسماء الله تعالى: البَرّ
من بِرّهِ سبحانه بعبده: ستره عليه حال ارتكاب المعصية، مع كمال رؤيته له، ولو شاء لفضحه بين خلقه فحذروه، وهذا من كمال بِرّه، ومن أسمائه: البَرّ، وهذا البر من سيده كان عن كمال غناه عنه، وكمال فقر العبد إليه. (١/ ٢٢٤)
- الرضا عن الله
الراضي: هو الذي يَعُدُّ نعم الله عليه فيما يكرهه، أكثر وأعظم من نعمِه عليه فيما يحبه، كما قال بعض العارفين: يا ابن آدم نعمة الله عليك فيما تكره أعظم من نعمته عليك فيما تحب، وقد قال تعالى: (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم) [البقرة: ٢١٦]
وقد قال بعض العارفين: اِرْضَ عن الله في جميع ما يفعله بك؛ فإنه ما منعك إلا ليعطيك، ولا ابتلاك إلا ليعافيك، ولا أمرضك إلا ليشفيك، ولا أماتك إلا ليحييك؛ فإياك أن تفارق الرضا عنه طرفة عين فتسقط من عينه. (٢/ ٢٠٨)
- إذا اضطرب القلب وقلق فليس له ما يطمئن به سوى ذكر الله. (٢/ ٤٨٠)
- ومن تزين للناس بما ليس فيه سقط من عين الله. (٢/ ٩٢)
- الأفضل في أيام عشر ذي الحجة: الإكثار من التعبّد، لاسيما التكبير والتهليل والتحميد، فهو أفضل من الجهاد غير المتعين. (١/ ١١٠)
- فمن لم يتقطع قلبه في الدنيا على ما فرّط حسرة وخوفا، تقطّع في الآخرة إذا حقت الحقائق، وعاين ثواب المطيعين، وعقاب العاصين، فلا بدّ من تقطّع القلب إما في الدنيا وإما في الآخرة. (١/ ٢٠٤)
- من اشتاق إلى الله اشتاق إليه كل شيء. (٣/ ٥٥)
- المعصية لا بد أن تؤثر أثرا سيئا:
إما هلاكا كليا، وإما خسرانا وعقابا يعقبه: إما عفو ودخول الجنة، وإما نقص درجة، وإما خمود مصباح الإيمان، وعمل التائب في رفع هذه الآثار والتكفير، وعمل المطيع في الزيادة، ورفع الدرجات. (١/ ٣٠٥)
- من أراد أن تصدق رؤياه:
فليتحر الصدق، وأكل الحلال، والمحافظة على الأمر والنهي، ولْينَم على طهارة كاملة مستقبل القبلة، ويذكر الله حتى تغلبه عيناه، فإن رؤياه لا تكاد تكذب البتة. (١/ ٧٦)
- من الأدب مع النبي ﷺ:
ومن الأدب معه: أن لا تُرفع الأصوات فوق صوته، فإنه سبب لحبوط الأعمال؛ فما الظن برفع الآراء، ونتائج الأفكار على سنته وما جاء به؟ (٢/ ٣٦٧)
- وإذا خلا القلب من ملاحظة الجنة والنار، ورجاء هذه والهرب من هذه: فترت عزائمه، وضعفت همته، ووهى باعثه، وكلما كان أشد طلبا للجنة، وعملا لها كان الباعث له أقوى، والهمة أشد، والسعي أتم. وهذا أمر معلوم بالذوق. (٢/ ٧٩)
- قال بعض السلف: عليك بطريق الحق، ولا تستوحش لقلة السالكين، وإياك وطريق الباطل، ولا تغتر بكثرة الهالكين.
وكلما استوحشت في تفردك فانظر إلى الرفيق السابق، واحرص على اللحاق بهم، وغَضّ الطرف عمن سواهم، فإنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا، وإذا صاحوا بك في طريق سيرك فلا تلتفت إليهم، فإنك متى التفت إليهم أخذوك وعاقوك. (١/ ٤٦)
- بين القلب وبين الرب مسافة، وعليها قُطّاع تمنع وصول العمل إليه، من: كبر وإعجاب وإدلال، ورؤية العمل، ونسيان المنة، وعلل خفية لو استقصى في طلبها لرأى العجب. (١/ ٤٣٨)
- فلا إله إلا الله، كم في النفوس من عِلل وأغراض وحظوظ تمنع الأعمال أن تكون لله خالصة. (١/ ٤٣٧)
- روحانية وربّ الكعبة:
اجتمع وهيب بن الورد، وسفيان الثوري، ويوسف بن أسباط، فقال الثوري: قد كنت أكره موت الفجاءة قبل اليوم. وأما اليوم: فوددت أني ميت.
فقال له يوسف بن أسباط: ولم؟
فقال: لما أتخوف من الفتنة.
فقال يوسف: لكني لا أكره طول البقاء.
فقال الثوري: ولم تكره الموت؟
قال: لعلي أصادف يوما أتوب فيه وأعمل صالحا.
فقيل لوهيب: أي شيء تقول أنت؟
فقال: أنا لا أختار شيئا، أحبُّ ذلك إلي أحبه إلى الله.
فقبّل الثوري بين عينيه، وقال: روحانية ورب الكعبة. (٢/ ٢٠٦)
- السعيد كل السعيد، والموفق كل الموفق: من لم يلتفت عن ربه تبارك وتعالى يميناً ولا شمالاً، ولا اتخذ سواه ربّاً ولا وكيلاً، ولا حبيباً ولا مدبراً، ولا حكماً ولا ناصراً ولا رازقاً. (٣/ ٣٣٤)
- متى استقرت قدم العبد في منزلة الإخبات وتمكّن فيها ارتفعت همته، وعلت نفسه عن خطفات المدح والذم؛ فلا يفرح بمدح الناس، ولا يحزن لذمهم. هذا وصف من خرج عن حظ نفسه، وتأهل للفناء في عبودية ربه، وصار قلبه مُطّرَحَا لأشعة أنوار الأسماء والصفات، وباشر حلاوة الإيمان واليقين قلبه. (٢/ ٨)
- من مروءة المسلم مع نفسه:
لا يكشف عورته في الخلوة، ولا يتجشأ بصوت مزعج ما وجد إلى خلافه سبيلا، ولا يُخرج الريح بصوت وهو يقدر على خلافه، ولا يجشع ويَنهَمُ عند أكله وحده. (٢/ ٣٣٥)
- من ملأ قلبه من الرضا بالقدر: ملأ الله صدره غنى وأمنا وقناعة، وفرّغ قلبه لمحبته، والإنابة إليه، والتوكل عليه، ومن فاته حظّه من الرضا: امتلأ قلبه بضد ذلك، واشتغل عما فيه سعادته وفلاحه، فالرضا يفرّغ القلب لله، والسخط يفرغ القلب من الله. (٢/ ٢٠٢)
- وحدثني بعض أقارب شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- قال:
كان في بداية أمره يخرج أحيانا إلى الصحراء يخلو عن الناس، لقوة ما يرد عليه. فتبعته يوما فلما أصحر تنفس الصعداء ثم جعل يتمثل بقول الشاعر:
وأخرج من بين البيوت لعلني *** أحدث عنك النفس بالسر خاليا (٣/ ٦١)
- وقبيح بالعبد المُريد أن يتعرّض لسؤال العبيد، وهو يجد عند مولاه كل ما يريده. (٢/ ١٣١)
- ومن تأمل أقدار الربِّ تعالى، وجريانها في الخلق: علم أنها واقعة في أليق الأوقات بها. (٣/ ١٢٣)
- وحملة العرش أربعة: اثنان يقولان: سبحانك اللهم وبحمدك، لك الحمد على حلمك بعد علمك، واثنان يقولان: سبحانك اللهم وبحمدك، لك الحمد على عفوك بعد قدرتك؛ فما كل من قَدر عفا، ولا كل من عفا يعفو عن قُدرة، ولا كل من علم يكون حليما، ولا كل حليم عالم، فما قُرن شيء إلى شيء أزين من حلم إلى علم، ومن عفو إلى قدرة، ومن مُلك إلى حمد، ومن عزة إلى رحمة. (١/ ٥٩)
- تأثير آيات السكينة:
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- إذا اشتدت عليه الأمور: قرأ آيات السكينة.
وسمعته يقول في واقعة عظيمة جرت له في مرضه، تعجز العقول عن حملها -من محاربة أرواح شيطانية، ظهرت له إذ ذاك في حال ضعف القوة- قال: فلما اشتد علي الأمر، قلت لأقاربي ومن حولي: اقرءوا آيات السكينة، قال: ثم أقلع عني ذلك الحال، وجلست وما بي قُلبة.
وقد جربت أنا أيضا قراءة هذه الآيات عند اضطراب القلب بما يرد عليه؛ فرأيت لها تأثيرا عظيما في سكونه وطمأنينته. (٢/ ٤٧٢)
- القلب إذا قويت فيه الحياة لا ينام إذا نام البدن، وكمال هذه الحياة كان لنبينا ﷺ، ولمن أحيا الله قلبه بمحبته واتّباع رسالته على بصيرة من ذلك بحسب نصيبه منهما. (٣/ ٢٦٦)
- النفس لها ثلاثة أحوال:
الأمر بالذنب، ثم اللوم عليه والندم منه، ثم الطمأنينة إلى ربها والإقبال بكليتها عليه = وهذه الحال أعلى أحوالها وأرفعها، وهي التي يشمر إليها المجاهد، وما يحصل له من ثواب مجاهدته وصبره فهو لتشميره إلى درجة الطمأنينة إلى الله، فهو بمنزلة راكب القفار، والمهامه والأهوال ليصل إلى البيت فيطمئن قلبه برؤيته والطواف به. (١/ ٤٣٦)
- التوحيد: أول ما يدخل به في الإسلام، وآخر ما يخرج به من الدنيا، كما قال النبي ﷺ: "من كان آخر كلامه: لا إله إلا الله؛ دخل الجنة"، فهو أول واجب، وآخر واجب، فالتوحيد: أول الأمر وآخره. (٣/ ٤١٢)
- تالله لولا حجاب الغفلة والعوائد والهوى والمخالفات لذاق القلب أعظم الألم بتعلّقه بغير الحبيب الأول، ولذاق أعظم اللذة والسرور بتعلقه به. (٣/ ٣٥٦)
- التوبة غاية ونهاية كل مؤمن ومؤمنة:
التوبة هي نهاية كل سالك وكل ولي لله، وهي الغاية التي يجري إليها العارفون بالله وعبوديته، وما ينبغي له.
قال تعالى: (إِنّا عَرَضنَا الأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالأَرضِ وَالجِبالِ فَأَبَينَ أَن يَحمِلنَها وَأَشفَقنَ مِنها وَحَمَلَهَا الإِنسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلومًا جَهولًا - لِيُعَذِّبَ اللَّهُ المُنافِقينَ وَالمُنافِقاتِ وَالمُشرِكينَ وَالمُشرِكاتِ وَيَتوبَ اللَّهُ عَلَى المُؤمِنينَ وَالمُؤمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفورًا رَحيمًا) [الأحزاب: ٧٢-٧٣].
فجعل سبحانه التوبة غاية كل مؤمن ومؤمنة. (١/ ١٥٣)
- قال ابن عطاء:
من ألزم نفسه آداب السنة: نوّر الله قلبه بنور المعرفة.
لا مقام أشرف من مقام متابعة الحبيب ﷺ في أوامره وأفعاله وأخلاقه. (٢/ ٤٣٧)
- والوقوف عند مدح الناس وذمِّهم علامة انقطاع القلب، وخُلُوُّه من الله، وأنه لم تباشره روح محبته ومعرفته، ولم يذق حلاوة التعلق به والطمأنينة إليه. (٢/ ٩)
- السالك مسافر إلى ربه، سائر إليه على مدى أنفَاسه، لا ينتهي مسيره إليه ما دام نفَسه يصحبه. (٢/ ٦)
- فبين العبد وبين السعادة والفلاح:
قوة عزيمة، وصبر ساعة، وشجاعة نفس، وثبات قلب. والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. (٢/ ١٠)
- والأدب ثلاثة أنواع:
أدب مع الله سبحانه، وأدب مع رسوله صلى الله عليه وسلم وشرعه، وأدب مع خلقه
فالأدب مع الله ثلاثة أنواع:
أحدها: صيانة معاملته أن يشوبها بنقيصة
الثاني: صيانة قلبه أن يلتفت إلى غيره
الثالث: صيانة إرادته أن تتعلق بما يمقتك عليه
قال أبو علي الدقاق: العبد يصل بطاعة الله إلى الجنة، ويصل بأدبه في طاعته إلى الله، وقال: رأيت من أراد أن يمد يده في الصلاة إلى أنفه فقبض على يده. (٢/ ٣٥٦)
- سئل الحسن البصري رحمه الله عن: أنفع الأدب؟
فقال: التفقه في الدين، والزهد في الدنيا، والمعرفة بما لله عليك. (٢/ ٣٥٦)
- وقد أمر الله سبحانه وتعالى في كتابه بالصبر الجميل، والصفح الجميل، والهجر الجميل
فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول:
الصبر الجميل: هو الذي لا شكوى فيه ولا معه.
والصفح الجميل: هو الذي لا عتاب معه.
والهجر الجميل: هو الذي لا أذى معه. (٢/ ١٦٠)
- ويُحكى عن امرأة من العابدات أنها عثرت فانقطعت إصبعها، فضحكت.
فقال لها بعض من معها: أتضحكين، وقد انقطعت إصبعك؟
فقالت: أخاطبك على قدر عقلك، حلاوة أجرها أنستني مرارة ذكرها. (٢/ ١٦٧)
- واللَّهُ يُحِبُّ مِنْ عَبدِهِ: أن يَشهَدَ نِعَمَهُ، ويَعتَرِفَ لَهُ بِهَا، ويُثنِيَ عَلَيهِ بِهَا، ويُحِبُّهُ عَلَيهَا، لا أن يَفنَىٰ عَنهَا، ويَغِيبَ عَن شُهُودِهَا.
وقِيلَ: الشُّكرُ قَيْدُ النِّعَمِ المَوجُودَةِ، وصَيْدُ النِّعَمِ المَفقُودَةِ.
وشُكرُ العَامَّةِ: عَلَى المَطعَمِ والمَشرَبِ والمَلبَسِ، وقُوتِ الأبدَانِ.
وشُكرُ الخَاصَّةِ: عَلَى التَّوحِيدِ والإيمَانِ وقُوتِ القُلُوبِ. (٢/ ٢٣٥)
- قال الإمام أحمد بن حنبل:
الزهد على ثلاثة أوجه:
الأول: ترك الحرام، وهو زهد العوام
والثاني: ترك الفضول من الحلال، وهو زهد الخواص
والثالث: ترك ما يشغل عن الله، وهو زهد العارفين. (٢/ ١٤)
- النوم بين صلاة الصبح وطلوع الشمس:
ومن المكروه عندهم النوم بين صلاة الصبح وطلوع الشمس، فإنه وقت غنيمة، وللسير ذلك الوقت عند السالكين مزية عظيمة، حتى لو ساروا طول ليلهم لم يسمحوا بالقعود عن السير ذلك الوقت حتى تطلع الشمس، فإنه: أول النهار ومفتاحه، ووقت نزول الأرزاق، وحصول القسم، وحلول البركة، ومنه ينشأ النهار، وينسحب حكم جميعه على حكم تلك الحصة، فينبغي أن يكون نومها كنوم المضطر. (١/ ٤٧٥)
- الأدب مع الله تعالى:
الأدب مع الله تبارك وتعالى: هو القيام بدينه، والتأدب بآدابه ظاهرا وباطنا، ولا يستقيم لأحد قط الأدب مع الله إلا بثلاثة أشياء: معرفته بأسمائه وصفاته، ومعرفته بدينه وشرعه، وما يحب وما يكره، ونفسٌ مستعدة قابلة ليِّنة، متهيئة لقبول الحق علما وعملا وحالا. والله المستعان. (٢/ ٣٦٥)
- ولا شيء أروى لقلب المُحِب من عطف محبوبه عليه، ولا شيء أشدّ لِلَهِيْبِه وحَرِيْقه من إعراض محبوبه عنه، ولهذا كان عذاب أهل النار باحتجاب ربهم عنهم أشدُّ عليهم مما هم فيه من العذاب الجسماني، كما أن نعيم أهل الجنة برؤيته تعالى وسماع خطابه ورضاه وإقباله أعظم من نعيمهم الجسماني. (٣/ ٦٤)
- فما طابت الدنيا إلا بمعرفة الله ومحبته، ولا الجنة إلا برؤيته ومشاهدته، فنعيم المُحب دائم، وإن مُزج بالآلام أحيانا، فلو عرف المشغولون بغير الحق سبحانه ما فيه أهل محبته وذكره ومعرفته من النعيم لتقطعت قلوبهم حسرات، ولعلموا أن الذي حصّلوه لا نسبة له إلى ما ضيعوه وحُرِمُوه. (٣/ ٢٩٢)
- المؤمن لا تتم له لذة بمعصية أبداً، ولا يكمل بها فرحه، بل لا يباشرها إلا والحزن مخالط لقلبه، ولكن سُكر الشهوة يحجبه عن الشعور به، ومتى خلى قلبه من هذا الحزن، واشتدت غبطته وسروره فليتهم إيمانه، ولْيبك على موت قلبه، فإنه لو كان حيا لأحزنه ارتكابه للذنب، وغاظه وصعب عليه. (١/ ١٩٩)
- الدين كله خُلق؛ فمن زاد عليك في الخُلق: زاد عليك في الدين. (٢/ ٢٩٤)
- وحاصل هذا كله أن الله سبحانه، أمر العباد أن يكونوا مع مراده الديني منهم، لا مع مراد أنفسهم؛ فأهل طاعته آثروا الله ومراده على مرادهم، فاستحقوا كرامته، وأهل معصيته آثروا مرادهم على مراده، وعلم سبحانه منهم أنهم لا يؤثرون مراده ألبتة، وإنما يؤثرون أهواءهم ومرادهم، فأمرهم ونهاهم، فظهر بأمره ونهيه من القدر الذي قدّر عليهم من إيثارهم هوى أنفسهم ومرادهم على مرضاة ربهم ومراده، فقامت عليهم بالمعصية حجة عدله، فعاقبهم بظلمهم. (١/ ٢٣٤)
- الاستشفاء والرقية بسورة الفاتحة:
وأما شهادة التجارب بذلك فهي أكثر من أن تذكر، وذلك في كل زمان، وقد جربت أنا من ذلك في نفسي وفي غيري أمورا عجيبة، ولا سيما مدة المقام بمكة، فإنه كان يعرض لي آلام مزعجة، بحيث تكاد تقطع الحركة مني، وذلك في أثناء الطواف وغيره، فأبادر إلى قراءة الفاتحة، وأمسح بها على محل الألم فكأنه حصاة تسقط، جربت ذلك مرارا عديدة، وكنت آخذ قدحا من ماء زمزم فأقرأ عليه الفاتحة مرارا، فأشربه فأجد به من النفع والقوة ما لم أعهد مثله في الدواء، والأمر أعظم من ذلك، ولكن بحسب قوة الإيمان، وصحة اليقين، والله المستعان. (١/ ٨٠)
- فإذا اضطرب القلب وقلق فليس له ما يطمئن به سوى ذكر الله. (٢/ ٤٨٠)
- وَأَمَّا الدَّارُ: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ حُسْنَهَا وَبَهَاءَهَا، وَسِعَتَهَا وَنَعِيمَهَا، وَبَهْجَتَهَا وَرُوحَهَا وَرَاحَتَهَا، فِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، فِيهَا مَا تَشْتَهِي الْأَنْفُسُ، وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ، فَهِيَ الْجَامِعَةُ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْأَفْرَاحِ وَالْمَسَرَّاتِ، الْخَالِيَةُ مِنْ جَمِيعِ الْمُنَكِّدَاتِ وَالْمُنَغِّصَاتِ، رَيْحَانَةٌ تَهْتَزُّ، وَقَصْرٌ مُشَيَّدٌ، وَزَوْجَةٌ حَسْنَاءُ، وَفَاكِهَةٌ نَضِيجَةٌ.
فَتِرْحَالُنَا أَيُّهَا الصَّادِقُونَ الْمُصَدِّقُونَ إِلَى هَذِهِ الدَّارِ بِإِذْنِ رَبِّنَا وَتَوْفِيقِهِ وَإِحْسَانِهِ.
وَتِرْحَالُ الْكَاذِبِينَ الْمُكَذِّبِينَ إِلَى الدَّارِ الَّتِي أُعِدَّتْ لِمَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ وَلِقَائِهِ، وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ. (٣/ ٢٦٣)
- تعييرك لأخيك بذنبه أعظم إثماً من ذنبه وأشدّ من معصيته، لما فيه من صولة الطاعة، وتزكية النفس، وشكرها، والمناداة عليها بالبراءة من الذنب، وأن أخاك باء به. (١/ ١٩٦)
- الرضا بالمقدور من سعادة ابن آدم، وسخطه من شقاوته، كما في المسند والترمذي من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سعادة ابن آدم: استخارة الله عز وجل، ومن سعادة ابن آدم: رضاه بما قضى الله، ومن شقوة ابن آدم: سخطه بما قضى الله، ومن شقاوة ابن آدم ترك استخارة الله". (٢/ ٢٠١)
- وكلما كان العبد حسن الظن بالله، حسن الرجاء له، صادق التوكل عليه، فإن الله لا يخيب أمله فيه البتة؛ فإنه سبحانه لا يخيب أمل آمل، ولا يضيع عمل عامل. (١/ ٤٦٩)
- ومتى وصل اليقين إلى القلب: امتلأ نورا وإشراقا، وانتفى عنه كل ريب وشك وسخط وهم وغم؛ فامتلأ محبة لله، وخوفا منه، ورضا به، وشكرا له، وتوكلا عليه، وإنابة إليه؛ فهو مادة جميع المقامات والحامل لها. (٢/ ٣٧٥)
- والأنس بالله حالةٌ وجدانيّةٌ، وهي من مقامات الإحسان تقوى بثلاثة أشياء: دوام الذِّكر، وصدق المحبّة، وإحسان العمل.
وقوّة الأنس وضعفه على حسب قوّة القرب، وكلّما كان القلب من ربِّه أقرب كان أنسُه به أقوى، وكلّما كان أبعدَ كانت الوحشة بينه وبين ربِّه أشدّ. (3/ 496)
- فلأهل الذُّنوب ثلاثةُ أنهارٍ عظامٍ يتطهَّرون بها في الدُّنيا، فإن لم تَفِ بطهرهم طُهِّروا في نهر الجحيم يوم القيامة: نهرُ التّوبة النَّصوح، ونهرُ الحسنات المستغرقة للأوزار المحيطة بها، ونهرُ المصائب العظيمة المكفِّرة. فإذا أراد الله بعبد خيرًا أدخله أحدَ هذه الأنهار الثَّلاثة، فورد القيامةَ طيِّبًا طاهرًا، فلم يحتَجْ إلى النَّهر الرَّابع. (1/ 481)
- فليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده وأقرب إلى نجاته من تدبُّر القرآن وإطالة التأمُّل له، وجمع الفكر على معاني آياته. (2/ 84)
- والشُّكر معه المزيد أبدًا، لقوله تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7]، فمتى لم تر حالك في مزيدٍ فاستقبل الشُّكر. (2/ 592)
- علاج الرياء والكِبر:
القلب يعرض له مرضان عظيمان، إن لم يتداركهما تراميا به إلى التَّلَف ولا بدَّ؛ وهما: الرِّياء، والكبر. فدواء الرِّياء بـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}، ودواء الكبر بـ {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}. وكثيرًا ما كنتُ أسمع شيخَ الإسلام ابن تيميّة قدّس الله روحَه يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} تدفع الرِّياء، {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} تدفع الكبرياء.
فإذا عوفي من مرض الرِّياء بـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}، ومن مرض الكبر والعُجْب بـ {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، ومن مرض الضَّلال والجهل بـ {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} = عوفي من أمراضه وأسقامه، ورَفَل في أثواب العافية، وتمَّت عليه النِّعمة، وكان من المنعَم عليهم غيرِ المغضوب عليهم ــ وهم أهلُ فساد القصد الذين عرفوا الحقّ وعدَلوا عنه ــ والضّالِّين، وهم أهلُ فساد العلم الذين جهلوا الحقَّ ولم يعرفوه. (1/ 87)
- فوائد مجالسة الصالحين
وقيل: مجالسة العارف تدعوك من ستٍّ إلى ستٍّ: من الشكِّ إلى اليقين، ومن الرياء إلى الإخلاص، ومن الغفلة إلى الذِّكر، ومن الرَّغبة في الدُّنيا إلى الرَّغبة في الآخرة، ومن الكبر إلى التواضع، ومن سوء الطويَّة إلى النصيحة. (4/ 294)
- والإيمان أساسه الصِّدق، والنِّفاق أساسه الكذب، فلا يجتمع كذبٌ وإيمانٌ إلَّا وأحدهما محاربٌ الآخرَ. (2/ 628)
- فليس للقلب أنفعُ من معاملة النّاس باللُّطف. فإنّ مُعامِله بذلك: إمّا أجنبيٌّ فيكسِب مودَّتَه ومحبّته، وإمّا صاحبٌ وحبيبٌ فيستدِيمُ صحبتَه ومحبتَه، وإمّا عدوٌّ ومُبغِضٌ فتُطفِئ بلطفك جمرتَه، وتَستكفي شرَّه، ويكون احتمالُك لمَضَضِ لطفك به دون احتمالك لضررِ ما ينالك من الغِلظة عليه والعُنْفِ به. (3/ 344)
- تعرّف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة:
فالأعمالُ تشفَع لصاحبها عند الله، وتذكِّر به إذا وقَع في الشّدائد. قال تعالى عن ذي النُّون: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات: 143 - 144].
وفي "المسند" عنه صلى الله عليه وسلم: "إنّ ما تذكرون من جلال الله من التَّسبيح والتَّكبير والتَّحميد يتعاطفن حول العرش، لهنّ دويٌّ كدويِّ النَّحل، يذكِّرن بصاحبهنّ. أفلا يحبُّ أحدكم أن يكون له من يُذكِّر به؟".
ولهذا من رجَحَت حسناتُه على سيِّئاته أفلَحَ ولم يعذَّب، ووُهِبَت له سيِّئاتُه لأجل حسناته.
ولأجل هذا يُغفَر لصاحب التَّوحيد ما لا يُغفَر لصاحب الإشراك. (1/ 507)
- وقال حاتم الأصمُّ: لا تغترَّ بمكانٍ صالحٍ، فلا مكان أصلح من الجنّة ولقي آدم فيها ما لقي. ولا تغترَّ بكثرة العبادة، فإنَّ إبليس بعد طول العبادة لقي ما لقي. ولا تغترَّ بكثرة العلم، فإنَّ بَلْعام بن باعورا لقي ما لقي وكان يعرف الاسم الأعظم. ولا تغترَّ بلقاء الصالحين ورؤيتهم، فلا شخص أصلح من النبيِّ صلى الله عليه وسلم ولم ينتفع بلقائه أعداؤه والمنافقون. (2/ 183)
- أفضلَ العبادة العملُ على مرضاة الرّبِّ تعالى في كلِّ وقتٍ بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته. فأفضلُ العبادات في وقت الجهاد: الجهاد، وإن آل إلى ترك الأوراد من صلاة اللّيل وصيام النّهار، بل ومن ترك إتمام صلاة الفرض كما في حالة الأمن. (1/ 135)
- قال الربيع بن أنسٍ: علامة حبِّ الله: كثرة ذكره، فإنَّك لا تحبُّ شيئًا إلَّا أكثرت من ذكره. وعلامة الدِّين: الإخلاص لله. وعلامة الشُّكر: الرِّضا بقدر الله والتسليم لقضائه. (2/ 543)
- فلو فُرِضت لذّات أهلُ الدُّنيا بأجْمَعِها حاصلةً لرجلٍ لم يكن لها نسبةٌ إلى لذّة جمعيّة القلب على الله، وفرحه به، وأُنْسِه بقربه، وشوقِه إلى لقائه. وهذا أمرٌ لا يصدِّق به إلّا من ذاقه. فإنّما يصدِّقك مَن أشرَقَ فيه ما أشرقَ فيك. ولله درُّ القائل:
أيا صاحبي ما ترى نارَهم *** فقال: تُرينيَ ما لا أرى
سقاك الغرام ولم يسقني *** فأبصرتَ ما لم أكن مبْصِرَا. (4/ 16)
- فالوقت منقضٍ بذاته، مُتَصرِّمٌ بنفسه. فمن غفل عن نفسه تصرَّمتْ أوقاته، وعظم فَواته، واشتدّتْ حسراته. فكيف حاله إذا علم عند تحقُّق الفوت مقدارَ ما أضاع، وطلب الرُّجعى فحِيلَ بينه وبين الاسترجاع، وطلب تناول الفائت؟
وكيف يردُّ الأمس في اليوم الجديد؟ وأنّى له التّناوشُ من مكانٍ بعيدٍ؟ ومُنِع ممّا يحبُّه ويرتضيه، وعلم أنّ ما اقتناه ليس ممّا ينبغي للعاقل يقتنيه، وحِيلَ بينه وبين ما يشتهيه. (3/ 429)
- حياة القلب والعقل:
وحياة العقل هي صحَّة الإدراك، وقوَّة الفهم وجودته، وتحقيق الانتفاع بالشّيء والتضرُّر به. وهو نورٌ يخصُّ الله به من يشاء من خلقه، وبحسب تفاوت الناس في قوَّة ذلك النُّور وضعفه ووُجوده وعدمه يقع تفاوت أذهانهم وأفهامهم وإدراكاتهم. ونسبته إلى القلب كنسبة النُّور الباصر إلى العين.
ومن تجريبات السالكين التي جرَّبوها فألْفَوها صحيحةً أنَّ مَن أدمن مِن قول: «يا حيُّ يا قيُّوم، لا إله إلا أنت» أورثه ذلك حياة القلب والعقل.
وكان شيخ الإسلام ابن تيميَّة شديدَ اللهج بها جدًّا، وقال لي يومًا: لهذين الاسمين ــ وهما الحيُّ القيُّوم ــ تأثير عظيم في حياة القلب، وكان يشير إلى أنَّهما الاسم الأعظم، وسمعته يقول: من واظب على أربعين مرَّةً كلَّ يومٍ بين سُنَّة الفجر وصلاةِ الفجر: «يا حيُّ يا قيُّوم، لا إله إلا أنت، برحمتك أستغيث» = حصلت له حياة القلب، ولم يَمُت قلبُه. (2/ 78)
- وقوّة الأنس وضعفه على حسب قوّة القرب، وكلّما كان القلب من ربِّه أقرب كان أنسُه به أقوى، وكلّما كان أبعدَ كانت الوحشة بينه وبين ربِّه أشدّ. (3/ 496)
- الذَّنبَ بمنزلة شُرب السَّمِّ، والتَّوبةُ هي ترياقه ودواؤه، والطَّاعةُ هي الصِّحّة والعافية. (1/ 457)
- حقيقة نعمة الله تعالى على العبد:
مَنْ لَمْ يَرَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِلَّا فِي مَأْكَلِهِ وَمَلْبَسِهِ، وَعَافِيَةِ بَدَنِهِ، وَقِيَامِ وَجْهِهِ بَيْنَ النَّاسِ، فَلَيْسَ لَهُ نَصِيبٌ مِنْ هَذَا النُّورِ الْبَتَّةَ، فَنِعْمَةُ اللَّهِ بِالْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ، وَجَذْبِ عَبْدِهِ إِلَى الْإِقْبَالِ عَلَيْهِ، وَالتَّنَعُّمِ بِذِكْرِهِ، وَالتَّلَذُّذِ بِطَاعَتِهِ هُوَ أَعْظَمُ النِّعَمِ، وَهَذَا إِنَّمَا يُدْرَكُ بِنُورِ الْعَقْلِ، وَهِدَايَةِ التَّوْفِيقِ. (1/ 220)
- اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ حَيَاةَ الْبَدَنِ بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، فَحَيَاةُ الْقَلْبِ بِدَوَامِ الذِّكْرِ، وَالْإِنَابَةِ إِلَى اللَّهِ، وَتَرْكِ الذُّنُوبِ، وَالْغَفْلَةِ الْجَاثِمَةِ عَلَى الْقَلْبِ، وَالتَّعَلُّقِ بِالرَّذَائِلِ وَالشَّهَوَاتِ الْمُنْقَطِعَةِ عَنْ قَرِيبٍ يُضْعِفُ هَذِهِ الْحَيَاةَ... (4/ 169)
- وَالَّذِي شَاهَدْنَاهُ نَحْنُ وَغَيْرُنَا وَعَرَفْنَاهُ بِالتَّجَارِبِ أَنَّهُ مَا ظَهَرَتِ الْمَعَازِفُ وَآلَاتُ اللَّهْوِ فِي قَوْمٍ، وَفَشَتْ فِيهِمْ، وَاشْتَغَلُوا بِهَا، إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْعَدُوَّ، وَبُلُوا بِالْقَحْطِ وَالْجَدْبِ وَوُلَاةِ السُّوءِ، وَالْعَاقِلُ يَتَأَمَّلُ أَحْوَالَ الْعَالَمِ وَيَنْظُرُ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. (2/ 160)
- الْمُتَوَكِّلُ الْمَغْبُونُ فِي تَوَكُّلِهِ
وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُتَوَكِّلِينَ يَكُونُ مَغْبُونًا فِي تَوَكُّلِهِ، وَقَدْ تَوَكَّلَ حَقِيقَةَ التَّوَكُّلِ وَهُوَ مَغْبُونٌ؛ كَمَنْ صَرَفَ تَوَكُّلَهُ إِلَى حَاجَةٍ جُزْئِيَّةٍ اسْتَفْرَغَ فِيهَا قُوَّةَ تَوَكُّلِهِ، وَيُمْكِنُهُ نَيْلُهَا بِأَيْسَرِ شَيْءٍ، وَتَفْرِيغُ قَلْبِهِ لِلتَّوَكُّلِ فِي زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ، وَنُصْرَةِ الدِّينِ، وَالتَّأْثِيرِ فِي الْعَالَمِ خَيْرًا؛ فَهَذَا تَوَكُّلُ الْعَاجِزِ الْقَاصِرِ الْهِمَّةِ.
كَمَا يَصْرِفُ بَعْضُهُمْ هِمَّتَهُ وَتَوَكُّلَهُ، وَدُعَاءَهُ إِلَى وَجَعٍ يُمْكِنُ مُدَاوَاتُهُ بِأَدْنَى شَيْءٍ، أَوْ جُوعٍ يُمْكِنُ زَوَالُهُ بِنِصْفِ رَغِيفٍ، أَوْ نِصْفِ دِرْهَمٍ، وَيَدَعُ صَرْفَهُ إِلَى نُصْرَةِ الدِّينِ، وَقَمْعِ الْمُبْتَدِعِينَ، وَزِيَادَةِ الْإِيمَانِ، وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (2/ 402 - 403)
- التصديق بالوعيد
ومدارُ السّعادة وقطبُ رحاها على التّصديق بالوعيد، فإذا تعطَّل من قلبه التّصديقُ بالوعيد خرِبَ خرابًا لا يرجى معه فلاحٌ البتّة. والله تعالى أخبر أنّه إنّما تنفع الآياتُ والإنذارُ لمن صدَّق بالوعيد وخاف عذاب الآخرة، فهؤلاء هم المقصودون بالإنذار والمنتفعون بالآيات، دون مَن عداهم. قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ} [هود: 103]. وقال: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ} [النازعات: 45]. وقال: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45].
وأخبر تعالى أنّ أهل النّجاة في الدُّنيا والآخرة هم المصدِّقون بالوعيد الخائفون منه، فقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم: 13 - 14]. (1/ 222)
- مراقبة الله تعالى
المراقبة: دوام علم العبد وتيقُّنه باطِّلاع الحقِّ سبحانه على ظاهره وباطنه، فاستدامته لهذا العلم واليقين هي المراقبة، وهي ثمرة علمه بأنَّ الله سبحانه رقيبٌ عليه، ناظرٌ إليه، سامعٌ لقوله، مطَّلعٌ على عمله كلَّ وقتٍ وكلَّ لحظةٍ. والغافل عن هذا بمعزلٍ عن حال أهل البدايات، فكيف بحال المريدين؟ فكيف العارفين؟! (2/ 305)
- من أخلاق السلف الصالح
وما رأيت أحدًا قطُّ أجمعَ لهذه الخصال من شيخ الإسلام ابن تيميّة قدّس الله روحه، وكان بعض أصحابه الأكابر يقول: ودِدتُ أنِّي لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه.
وما رأيته يدعو على أحدٍ منهم قطُّ، وكان يدعو لهم.
وجئتُ يومًا مبشِّرًا له بموتِ أكبرِ أعدائه وأشدِّهم عداوةً وأذًى له، فنهَرَني وتنكَّر لي واسترجع، ثمّ قام من فورِه إلى بيت أهله فعزّاهم، وقال: أنا لكم مكانه، ولا يكون لكم أمرٌ تحتاجون فيه إلى مساعدةٍ إلّا وساعدتُكم فيه. ونحو هذا الكلام. فَسُرُّوا به، ودَعَوا له، وعظّموا هذه الحالَ منه. فرحمه الله ورضي عنه. (3/ 95)
- خلق التغافل
قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ فَسَأَلَتْ حَاتِمًا عَنْ مَسْأَلَةٍ؟ فَاتَّفَقَ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا صَوْتٌ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ فَخَجِلَتْ -يعني خرج منها ريح- .
فَقَالَ حَاتِمٌ: ارْفَعِي صَوْتَكِ. فَأَوْهَمَهَا أَنَّهُ أَصَمُّ. فَسُرَّتِ الْمَرْأَةُ بِذَلِكَ. وَقَالَتْ: إِنَّهُ لَمْ يَسْمَعِ الصَّوْتَ. فَلُقِّبَ بِحَاتِمٍ الْأَصَمِّ وَهَذَا التَّغَافُلُ هُوَ نِصْفُ الْفُتُوَّةِ. (3/ 93)
- شجرة المحبة في قلب المؤمن
إِذَا غُرِسَتْ شَجَرَةُ الْمَحَبَّةِ فِي الْقَلْبِ، وَسُقِيَتْ بِمَاءِ الْإِخْلَاصِ، وَمُتَابَعَةِ الْحَبِيبِ، أَثْمَرَتْ أَنْوَاعَ الثِّمَارِ. وَآتَتْ أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا. أَصْلُهَا ثَابِتٌ فِي قَرَارِ الْقَلْبِ. وَفَرْعُهَا مُتَّصِلٌ بِسِدْرَةِ الْمُنْتَهَى.
لَا يَزَالُ سَعْيُ الْمُحِبِّ صَاعِدًا إِلَى حَبِيبِهِ لَا يَحْجُبُهُ دُونَهُ شَيْءٌ {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: ١٠]. (3/ 369)
- وَأَدَبُ الْمَرْءِ: عُنْوَانُ سَعَادَتِهِ وَفَلَاحِهِ. وَقِلَّةُ أَدَبِهِ: عُنْوَانُ شَقَاوَتِهِ وَبَوَارِهِ؛ فَمَا اسْتُجْلِبَ خَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِمِثْلِ الْأَدَبِ، وَلَا اسْتُجْلِبَ حِرْمَانُهُمَا بِمِثْلِ قِلَّةِ الْأَدَبِ. (3/ 162)
- من عرف الله بأسمائه وصفاته وأفعاله: أحبه لا محالة:
وإله العالمين الحقُّ هو الذي دعت إليه الرُّسل وعرَّفوه بأسمائه وصفاته وأفعاله فوق سماواته على عرشه، بائنٌ من خلقه، موصوفٌ بكلِّ كمال، منزَّهٌ عن كلِّ نقصٍ، لا مثال له ولا شريك ولا ظهير، ولا يشفع عنده أحدٌ إلا بإذنه، {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3]، غنيٌ بذاته عن كلِّ ما سواه، وكلُّ ما سواه فقيرٌ إليه بذاته. (4/ 320)
- من أنواع الشرك
ومن أنواعه: طلبُ الحوائج من الموتى، والاستغاثةُ بهم، والتّوجُّهُ إليهم. وهذا أصلُ شرك العالم، فإنَّ الميِّتَ قد انقطع عملُه، وهو لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا، فضلًا لمن استغاث به وسأله قضاء حاجته، أو سأله أن يشفع له إلى الله فيها. وهذا من جهله بالشَّافع والمشفوع عنده. (1/ 533)
- من حِكَم سجود السهو
وَهَذَا هو السِّرُّ فِي سَجْدَتَيِ السَّهْوِ، تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ فِي وَسْوَسَتِهِ لِلْعَبْدِ، وَكَوْنِهِ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُضُورِ فِي الصَّلَاةِ. وَلِهَذَا سَمَّاهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "الْمُرْغِمَتَيْنِ". (2/ 206)