ومن ذلك إقسامُهُ - سبحانه - بالضُّحَى {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى: 2] على إنعامه على رسوله صلى الله عليه وسلم، وإكرامه له، وإعطائه ما يرضيه، وذلك متضمِّنٌ لتصديقه له، فهو يُقْسِم على صحَّةِ نُبَوَّته، وعلى جزائه في الآخرة، فهو قَسَمٌ على النُّبوَّة والمَعَاد.
وأقسم بآيتين عظيمتين من آياته؛ دالَّتَين على ربوبيته، وحكمته، ورحمته، وهما الليل والنَّهار.
فتأمَّلْ مطابقةَ هذا القَسَم - وهو نورُ الضُّحَى الذي يوافي بعد ظلام الليل - للمُقْسَم عليه؛ وهو نورُ الوحي الذي وَافَاهُ بعد احتباسِهِ عنه، حتَّى قال أعداؤُه: "وَدَّع محمدًا ربُّهُ". فأقسَمَ بضوء النَّهار بعد ظلمة الليل على ضوء الوحي ونوره، بعد ظلمة احتباسه واحتجابه.
وأيضًا؛ فإنَّ الذي فَلَقَ ظلمةَ الليل عن ضوءِ النَّهار؛ هو الذي فَلَقَ ظلمة الجهل والشرك بنور الوحي والنُّبوَّة، فهذان للحِسِّ، وهذان للعقل.
وأيضًا؛ فإنَّ الذي اقتضت رحمتُهُ أن لا يترك عبادَهُ في ظلمة الليل سرمدًا، بل هداهم بضوء النَّهار إلى مصالحهم ومعايشهم = لا يليق به أن يتركهم في ظلمة الجهل والغَيِّ، بل يهديهم بنور الوحي والنُّبوَّة إلى مصالحهم في دنياهم وآخرتهم.
فتأمَّلْ حُسْنَ ارتباطِ المُقْسَم به بالمُقْسَم عليه، وتأمَّلْ هذه الجزالةَ والرَّوْنَقَ الذي على هذه الألفاظ، والجلالةَ التي على معانيها.
ونفَى - سبحانه - أن يكون ودَّعَ نبيَّهُ أو قَلَاهُ، فالتوديع: التَّرْكُ، والقِلَى: البُغْضُ، فما تَرَكَهُ منذ اعتنى به وأكرمه، ولا أبغَضَهُ منذ أحبَّهُ.
وأطلق - سبحانه - أنَّ الآخرة خيرٌ له من الأُولَى، وهذا يَعُمُّ كلَّ أحواله، وأنَّ كلَّ حالةٍ يُرقّيه إليها هي خيرٌ له ممَّا قبلها، كما أنَّ الدارَ الآخرة خيرٌ له ممَّا قبلها.
ثُمَّ وَعَدَهُ بما تَقَرُّ به عَيْنُهُ، وتفرَحُ به نفسُهُ، وينشرحُ به صدرُهُ، وهو أن يعطيه فَيُرضِيه؛ وهذا يَعُمُّ ما يعطيه من القرآنِ، والهُدَى، والنَّصْرِ، وكثرةِ الأتْبَاع، ورَفْع ذِكْرِهِ، وإعلاءِ كلمتِه، وما يعطيه بعد مماته، وما يعطيه في موقف القيامة، وما يعطيه في الجَنَّة.
وأمَّا ما يغترُّ به الجُهَّالُ، من أنَّه لا يرضَى وواحدٌ من أُمَّته في النَّار، أو لا يرضَى أن يدخل أحدٌ من أُمَّته النَّار = فهذا منِ غرور الشيطان لهم، ولَعِبهِ بهم، فإنَّه -صلوات الله وسلامه عليه - يرضى بما يرضَى به ربُّهُ تبارك وتعالى، وهو - سبحانه - يُدخِل النَّارَ من يستحقُّها من الكفار، والعُصَاة، والمنافقين من هذه الأُمَّة وغيرها ، ثُمَّ يَحُدُّ لرسوله حَدًّا يشفع فيهم، ورسولُهُ أَعْرَفُ به وبحقِّهِ من أن يقول: لا أرضى أن تُدخِلَ أحدًا من أُمَّتي النَّار، أو تَدَعَهُ فيها، بل رَبُّهُ تبارك وتعالى يأذن له، فيشفع فيمن شاء اللهُ أن يشفع فيه، ولا يشفع في غير من أذِنَ له، ورضيَهُ تعالى.
ثُمَّ ذكَّرهُ - سبحانه - بنعَمِهِ عليه؛ من إيوائه بعد يُتْمِهِ، وهدايتِهِ بعد الضلالة، وإغنائه بعد الفقر، فكان محتاجًا إلى من يُؤْوِيهِ، ويَهْدِيهِ، ويُغْنِيهِ، فآواه ربُّهُ وهدَاهُ وأغناه.
فأمَرهُ - سبحانه - أن يقابل هذه النِّعَمَ الثلاثةَ بما يليق بها من الشُّكْر؛ فنهَاهُ أن يقْهَرَ اليتيمَ، وأن يَنْهَرَ السائلَ، وأن يكتم النِّعْمةَ، بل يحدِّث بها. فأوصاه - سبحانه - باليتامى، والفقراء، والمتعلِّمين.
قال مجاهد، ومقاتل: "لا تحقر اليتيمَ، فقد كنتَ يتيمًا".
وقال الفرَّاء: "لا تقهَرْهُ على ماله، فتذهب بحَقِّهِ لِضَعْفِهِ".
وكذلك كانت العرب تفعل في أمر اليتامى، تأخذ أموالهم وتظلمهم، فغَلَّظَ الخطابَ في أمر اليتيم، وكذلك من لا ناصر له يُغلَّظ في أمره، وهو نهيٌ لجميع المكلَّفِين.
{وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ}؛ قال أكثر المفسِّرين: هو سائل المعروف والصدقة؛ لا تنهره إذا سأَلكَ، فقد كنتَ فقيرًا؛ فإمَّا أن تُطعِمه، وإمَّا أن تردَّهُ ردًّا لينًا.
وقال الحسن: "أَمَا إنَّه ليس بالسائل الذي يأتيك، ولكن طالب العلم".
وهذا قول يحيى بن آدم، قال: "إذا جاءك طالبُ العلم فلا تنهره".
والتحقيق: أنَّ الآية تتناول النَّوعَين.
وقوله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}؛ قال مجاهد: "بالقرآن".
قال الكلبي: "يعني: أَظْهِرْها، والقرآن أعظَمُ ما أنعم الله به عليه، فأمره أن يُقْرِئَهُ ويعلِّمَهُ".
وروى أبو بِشْر، عن مجاهد: "حَدِّثْ بالنُّبوَّة التي أعطاك الله".
وقال الزجَّاجُ: "وبلِّغْ ما أُرسلْتَ به، وحدِّث بالنُّبوَّة التي آتاك، وهي أجلُّ النِّعَم".
وقال مقاتل: "اشكُرْ هذه النِّعَمَ التي ذُكِرَتْ في هذه السورة".
والتحقيق: أنَّ النِّعَم تعُمُّ هذا كلَّه، فأُمِر أن لا ينهر سائلَ المعروفِ والعلمِ، وأن يحدِّثَ بِنعَم الله عليه في الدنيا والدِّين.
التبيان في أيمان القرآن (1/ 110 - 116)