القصيدة البائية في الحث على غض البصر والتحذير من فضول النظر

يا راميًا بسِهام اللَّحظ مجتهدًا … أنت القتيلُ بما تَرْمي فلا تُصِبِ

وباعثَ الطَّرْف يرتادُ الشِّفَاءَ له … توَفِّه إنَّه يَرْتَدُّ بالعَطَبِ

ترجو الشفاءَ بأحداقٍ بها مَرَضٌ … فهل سمعت ببُرْءٍ جاءَ من عَطَبِ

ومُفْنِيًا نفسَه في إثْرِ أقبحِهِمْ … وصفًا للطخ جمال فيه مستلبِ

وواهبًا عُمْرَه في مثل ذا سفهًا … لو كنتَ تعرفُ قدْر العمر لم تَهَبِ

وبائعًا طيبَ عيشٍ ما له خَطَرٌ … بطيْف عيش من الآلام منتهبِ

غُبِنْتَ واللهِ غُبْنًا فاحشًا فلو اسـ … ـتَرْجَعْتَ ذا العقدَ لم تُغْبَنْ ولم تَخبِ

وواردًا صفوَ عيش كلُّه كَدَرٌ .. أمامَكُ الوِرْدُ صفوًا ليس بالكذب

وحاطبَ اللَّيلِ في الظَّلماء منتصبًا … لكلِّ داهيةٍ تُدْني من العَطَب

شاب الصِّبا والتَّصابي بَعْدُ لم يَشِبِ … وضاعَ وقتُك بين اللَّهوِ واللَّعِبِ

وشمسُ عمرك قد حان الغروبُ لها … والفيء في الأفق الشرقيِّ لم يغبِ

وفاز بالوصلِ من قد فازَ وانْقشعَتْ … عن أفقه ظُلُماتُ اللَّيلِ والسُّحُب

كم ذا التخلف والدنيا قد ارتحلتْ … ورسْلُ ربِّك قد وافتْكَ في الطَّلَبِ

ما في الديار وقد سارتْ ركائِبُ مَنْ … تهواه للصَّبِّ من سكنى ولا أَرَبِ

فأَفْرِش الخدَّ ذيَّاك التُّرَابَ وقل … ما قاله صاحبُ الأشواق في الحِقَبِ

ما رَبْعُ مَيَّةَ محفوفًا يطيف به … غَيْلان أشهى له من رَبْعِكَ الخرِب

ولا الخدودُ وإن أُدْمِينَ من ضَرَج … أشهى إلى ناظرِي من خدِّكَ التَّرِبِ

منازلًا كان يهواها ويألفُها … أيامَ كان منالُ الوصل عن كَثَبِ

وكلما جليت تلك الرُّبوعُ له … يهوي إليها هُوِيَّ الماءِ في صَبَبِ

أحيا له الشَّوْقُ تَذْكارَ العهودِ بها … فلو دعا القلبُ للسُّلْوانِ لم يُجِبِ

هذا وكم منزلٍ في الأرض يألفُهُ … وما له في سواها الدَّهْرَ مِنْ رَغَبِ

ما في الخيام أخو وجدٍ يريحُك إن … بَثَثْتَهُ بعضَ شأن الحبِّ فاغتربِ

وأَسْرِ في غَمَرَات الليلِ مهتديًا … بنفحةِ الطِّيب لا بالنَّار والحَطَبِ

وعادِ كلَّ أخي جُبْن ومَعْجَزَةٍ … وحارب النفسَ لا تُلْقِيكَ في الحَرَبِ

وخذ لنفسِكَ نورًا تستضيءُ به … يوم اقتسام الورى الأنوارَ بالرُّتَبِ

فالجسرُ ذو ظلماتٍ ليسَ تقطعُهُ … إلا بنور يُنَجِّي العبدَ في الكُرَبِ


بدائع الفوائد - ط عطاءات العلم (2/ 818 - 819)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله