التفكّر في البحار

ومن آياته وعجائب مصنوعاته: البحارُ المكتنِفةُ لأقطار الأرض، التي هي خُلْجَانٌ من البحر الأعظم المحيط بجميع الأرض، حتى إنَّ المكشوفَ من الأرض والجبال والمدن بالنسبة إلى الماء كجزيرةٍ صغيرةٍ في بحرٍ عظيم، وبقيَّةُ الأرض مغمورةٌ بالماء.

ولولا إمساكُ الرَّبِّ تبارك وتعالى له بقدرته ومشيئته وحبسُه الماءَ لطَفَحَ على الأرض وعَلاها كلَّها. هذا طبعُ الماء.

ولهذا حار عقلاءُ الطَّبائعيِّين في سبب بروز هذا الجزء من الأرض، مع اقتضاء طبيعة الماء للعلوِّ عليه وأن يَغْمُرَه، ولم يجدوا ما يُحِيلون عليه ذلك إلا الاعترافَ بالعناية الأزليَّة والحكمة الإلهيَّة التي اقتضت ذلك ليعيش الحيوانُ الأرضيُّ في الأرض. وهذا حقٌّ، ولكنَّه يوجبُ الاعترافَ بقدرة الله وإرادته ومشيئته، وعلمه وحكمته، وصفات كماله. ولا محيصَ عنه.

وفي «مسند الإمام أحمد» عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما مِن يومٍ إلا والبحرُ يستأذنُ ربَّه أن يُغْرِق بني آدم».

وهذا أحدُ الأقوال في قوله عز وجل: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} [الطور: 6]: أنه المحبوس. حكاه ابنُ عطيَّة وغيرُه.

قالوا: «ومنه: ساجورُ الكلب؛ وهي القلادةُ من عودٍ أو حديدٍ التي تمسِكُه. ولذلك لولا أنَّ الله سبحانه يحبسُ البحرَ ويمسِكُه لفاض على الأرض»؛ فالأرض في البحر كبيتٍ في جملة الأرض.

وإذا تأمَّلتَ عجائبَ البحر وما فيه من الحيوانات على اختلاف أجناسها، وأشكالها، ومقاديرها، ومنافعها ومضارِّها، وألوانها، حتى إنَّ فيها حيوانًا أمثال الجبال لا يقومُ له شيء، حتى إنَّ فيه من الحيوانات ما يُرى ظهورُها فيُظنُّ أنها جزيرة، فينزلُ الرُّكَّابُ عليها، فتُحِسُّ بالنَّار إذا أُوقِدَت، فتتحرَّك، فيُعْلَمُ أنه حيوان.

وما من صنفٍ من أصنافِ حيوان البرِّ إلا وفي البحر أمثالُه، حتى الإنسانُ والفَرسُ والبقرُ وأضعافُها، وفيه أجناسٌ لا يُعْهَدُ لها نظيرٌ في البرِّ أصلًا.

هذا مع ما فيه من الجواهر واللؤلؤ والمرجان؛ فترى اللؤلؤةَ كيف أُودِعَت في كِنٍّ كالبيت لها ــ وهي الصَّدَفة ــ تَكُنُّها وتحفظها، ومنه: «اللؤلؤ المكنون»، وهو الذي في صَدَفِه لم تمسَّه الأيدي.

وتأمَّل كيف نبتَ المرجانُ في قَعْرِه في الصَّخرة الصمَّاء تحت الماء على هيئة الشجر.

هذا مع ما فيه من العَنبر وأصناف النَّفائس التي يقذفُها البحرُ وتُستخرَجُ منه.

ثمَّ انظر إلى عجائب السُّفن وسَيْرها في البحر، تَشُقُّه وتَمْخَرُه بلا قائدٍ يقودُها ولا سائقٍ يسوقُها، وإنما قائدُها وسائقُها الرِّياحُ التي يسخِّرها الله لإجرائها، فإذا حُبِسَ عنها القائدُ والسَّائقُ ظلَّت راكدةً على وجه الماء.

قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [الشورى: 32 - 33]، وقال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 14].

فما أعظمَها من آيةٍ وأبينَها من دلالة! ولهذا يكرِّرُ سبحانه ذِكرَها في كتابه كثيرًا.

وبالجملة؛ فعجائبُ البحر وآياتُه أعظمُ وأكثرُ من أن يحصيها إلا الله سبحانه؛ وقال الله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} [الحاقة: 11 - 12].


مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (2/ 580 - 583)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله