قواعد وضوابط التفسير عند الإمام ابن القيم في بدائع الفوائد

بسم الله الرحمن الرحيم

 الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى من استن بسنته واهتدى بهديه واقتفى أثره إلى يوم الدين أما بعد:

فلا شك أن أعظم العلوم والمعارف هي تلك المتعلقة بالقرآن العظيم فهما واستنباطا وتدبرا فعلوم القرآن عي رأس العلوم وأساسها وغيرها تابع لها خادم لمقاصدها ولا شك أن من أعظم علومه فهم معاني كلامه وتدبر ما فيه من أنواع الهداية التي أنزلها الله لعباده.

وقد ندب الله عباده إلى هذا الأمر الجليل في آيات من كتابه فقال: (أفلا يتدبرون القرآن) (أفلم يدبروا القول) (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته) (إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون) (كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون) في آيات كثيرة.

ولا ريب أن من أحسن ما يُعين على فهم كلام الله وتدبر معانيه: الاعتناء بالقواعد والضوابط الجامعة في التفسير التي استخرجها العلماء؛ لأنها تجمع المتفرق وترد الفروع إلى أصولها قال شيخ الإسلام ابن تيمية [١] رحمه الله: (لابد أن يكون مع الإنسان أصول كلية ترد إليها الجزئيات؛ ليتكلم بعلم وعدل ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت وإلا فيبقى في كذب وجهل في الجزئيات وجهل وظلم في الكليات فيتولد فساد عظيم) اه

من أجل ذلك اعتنى العلماء رحمهم الله بتدوين القواعد المعينة على تفسير كلام الله وفهمه والاستنباط منه وذلك في كتب مفردة [2] أو أثناء كلامهم على الآيات تفسيرا واستنباطا سواء في كتب خاصة بالتفسير أو غيرها.

وقد تفاوت العلماء في ذلك تفاوتا كبيرا بحسب ما آتاهم الله من الفهم في كتابه والغوص إلى أسراره وقد ضرب الإمام شمس الدين أبي عبد الله محمد ابن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية في هذا المضمار بنصيب وافر وقد وصفه بالتبحر في التفسير وعلوم القرآن؛ فقال الحافظ ابن رجب تلميذه: (وتفنن في علوم الإسلام وكان عارفا بالتفسير لا يجارى فيه) وقال: (ولا رأيت أوسع منه علما ولا أعرف بمعاني القرآن والحديث والسنة) [3].

ومن أكثر الكتب التي تعرض فيها ابن القيم للتفسير والتأصيل فيه كتابه (بدائع الفوائد) فقد فسر فيه آيات كثيرة جدا وقد صنعت لها فهرسا وأفرد فيه تفسير سورة الكافرون والمعوذتين وساق جزءا للإمام أحمد في تفسير آيات من القرآن

وتشوق فيه إلى تأليف تفسير لكتاب الله على نمط تفسير المعوذتين وكذلك تشوف إلى تأليف كتاب في أصول التفسير.

فرأيت أن أجمع القواعد والضوابط التفسيرية [4] التي نثرها هذا الإمام في ثنايا كتابه هذا إذ لي عناية خاصة بهذا الكتاب فقد قرأته أكثر من مرة.

وقد اعتمدت في العزو إليه على طبعتين طبعة دارعالم الفوائد عدد صفحاتها (١٦٧٦) والإشارة إليها بـ: ع والطبعة المنيرية عدد صفحاتها نحو (١٠٠٠) والإشارة إليها بـ: م

 وقد جمعت منه أربعا وعشرين قاعدة ولا أدعي أنه لم يتفني شيئا من القواعد وحسبي أني قد بذلت جهدي وإن كان جهد المقلِّ والحمد لله حق حمده.

 

كتبه/ علي بن محمد بن حسين العمران

٥ / رجب / ١٤٢٣ ه

 

القاعدة الأولى : لا يجوز تحريف كلام الله انتصارا لقاعدة نحوية [5]

وقد ضرب ابن القيم على ذلك مثالا فقال: (قال تعالى عن عيسى عليه الصلاة والسلام: (إن كنت قلته فقد علمته) المائدة ١٦ فهذا شرط دخل على ماضي اللفظ وهو ماضي المعنى قطعا؛ لأن المسيح إما أن يكون هذا الكلام قد صدر منه بعد رفعه إلى السماء أو يكون حكاية ما يقوله يوم القيامة وعلى التقديرين فإنما تعلق الشرط وجزاؤه بالماضي.

وغلط على الله من قال: إن هذا القول وقع منه في الدنيا قبل رفعه والتقدير: إن أكن أقول هذا فإنك تعلمه وهذا تحريف للآية؛ لأن هذا الجواب إنما صدر منه بعد سؤال الله له عن ذلك والله لم يسأله وهو بين أظهر قومه ولا اتخذوه وأمه إلهين إلا بعد رفعه بمئين من السنين فلا يجوز تحريف كلام الله انتصارا لقاعدة نحوية هدم مائة أمثالها أسهل من تحريف معنى الآية.

وقال ابن السراج في أصوله: يجب تأويلهما بفعلين مستقبلين تقديرهما: إن ثبت في المستقبل أني قلته في الماضي يثبت أنك علمته وكل شيء تقرر في الماضي كان ثبوته في المستقبل فيحسن التعليق عليه وهذا الجواب أيضا ضعيف جدا ولا ينبيء عنه اللفظ.

وإذا ظهر فساد الجوابين فالصواب أن يقال: جملة الشرط والجزاء تارة تكون تعليقا محضا غير متضمن جوابا لسائل هل كان كذا ولا يتضمن لنفي قول من قال قد كان كذا فهذا يقتضي الاستقبال وتارة يكون مقصودة ومضمنه جواب سائل: هل وقع كذا أو رد قوله: قد وقع كذا فإذا علق الجواب هنا على شرط لم يلزم أن يكون مستقبلا لا لفظا ولا معنى بل لا يصح فيه الاستقبال بحالك من يقول لرجل: هل أعتقت عبدك ؟ فيقول: إن كنت قد أعتقته فقد أعتقه الله فما للاستقبال هنا معنى قط وكذلك إذا قلته لمن قال: صحبت فلانا فيقول: إن كنت صحبته فقد أصبت بصحبته خيرا وكذلك إذا قلت له: هل أذنبت ؟ فيقول: إن كنت قد أذنبت فإني قد تبت إلى الله واستغفرته وكذلك إذا قال: هل قلت لفلان كذا ؟ وهو يعلم أنه علم بقولهله فيقول: إن قلته فقد علمته فقد عرفت أن هذه المواضع كلها مواضع ماض لفظا ومعنى ليطابق السؤال الجواب ويصح التعليق الخبري لا الوعدي فالتعليق الوعدي يستلزم الاستقبال وأما التعليق الخبري فلا يستلزمه) اهـ

القاعدة الثانية: ما تقدم من الكلم في اللسان فتقديمه على حسب تقدم المعاني في الجنان [6]

 توضيح القاعدة:

قال ابن القيم رحمه الله: (وهذا الأصل يجب الاعتناء به لعظم منفعته في كتاب الله وحديث رسوله إذ لا بد من الوقوف على الحكمة في تقديم ما قدم وتأخير ما أخر نحو: (السميع والبصير) و(الظلمات والنور) و (الليل والنهار) و(الجن والإنس) في الأكثر وفي بعضها: الإنس والجن وتقديم (السماء على الأرض) في الذكر وتقديم الأرض عليها في بعض الآي ونحو: (سميع عليم) ولم يجيء: عليم سميع وكذلك: (عزيز حكيم) و: (غفور رحيم) وفي موضع واحد: (الرحيم الغفور) إلى غير ذلك مما لا يكاد ينحصر وليس شيء من ذلك يخلو عن فائدة وحكمة؛ لأنه كلام الحكيم الخبير) اه

وتتقدم المعاني بأحد خمسة أشياء:

 إما بالزمان.

وإما بالطبع.

وإما بالرتبة.

وإما بالسبب.

وإما بالفضل والكمال.

وربما كان ترتب الألفاظ بحسب الخفة والثقل لا بحسب المعنى كقولهم ربيعة ومضر وكان تقديم مضر أولى من جهة الفضل ولكن آثروا الخفة.

والأمثلة التي ذكرها المؤلف كثيرة نذكر بعضا منها:

قال ابن القيم رحمه الله: (أما ما تقدم بتقدم الزمان؛ فكعاد وثمود والظلمات والنور فإن الظلمة سابقة للنور في المحسوس والمعقول وتقدمها في المحسوس معلوم بالخبر المنقول وتقدم الظلمة المعقولة معلوم بضرورة العقل قال سبحانه: (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لاتعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة) النحل ٧٨ فالجهل ظلمة معقولة وهي متقدمة بالزمان على نور العلم..).

قال: (ومن هذا الباب تقدم العزيز على الحكيم؛ لأنه عز فلما عز حكم وربما كان هذا من تقدم السبب على المسبب.

قلت: علق ابن القيم [7] هنا بقوله: (أما تقديم العزيز على الحكيم فإن كان من الحكم وهو الفصل والأمر فما ذكره من المعنى صحيح وإن كان من الحكمة وهي: كمال العلم والإرادة المتضمنين اتساق صنعه وجريانه على أحسن الوجوه وأكملها ووضعه الأشياء مواضعها وهو الظاهر من هذا الاسم فيكون وجه التقديم أن العزة كمال القدرة والحكمة كمال العلم وهو سبحانه الموصوف من كل صفة كمال بأكملها وأعظمها وغايتها فتقدم وصف القدرة لأن متعلقه أقرب إلى مشاهدة الخلق وهو مفعولاته تعالى وآياته وأما الحكمة فمتعلقها بالنظر والفكر والاعتبار غالبا وكانت متأخرة عن متعلق القدرة) اهـ

قال: ومثله كثير في القرآن نحو: (يحب التوابين ويحب المتطهرين)؛ لأن التوبة سبب الطهارة وكذلك: (كل أفاك أثيم)؛ لأن الإفك سبب الإثم وكذلك: (كل معتد أثيم).

وقال: (ومن المقدم بالرتبة: (يأتوك رجالا وعلى كل ضامر)؛ لأن الذي يأتي راجلا يأتي من المكان القريب والذي يأتي على الضامر يأتي من المكان البعيد على أنه قد روي عن ابن عباس أنه قال: (وددت أني حججت راجلا لأن الله قدم الرجالة على الركبان في القرآن الكريم) [8] فجعله ابن عباس من باب تقدم الفاضل على المفضول والمعنيان موجودان، وربما قدم الشيء لثلاثة معان وأربعة وخمسة وربما قدم لمعنى واحد من الخمسة.

ومما قدم للفضل والشرف: (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم) وقوله: (النبيين والصديقين) ومنه: تقديم السميع على البصير وسميع على بصير ومنه: تقديم الجن على الإنس في أكثر المواضع؛ لأن الجن تشتمل على الملائكة وغيرهم مما اجتن عن الأبصار.

وأما تقديم السماء على الأرض فبالرتبة أيضا وبالفضل والشرف.

وأما تقديم الغفور على الرحيم فهو أولى بالطبع لأن المغفرة سلامة والرحمة غنيمة والسلامة تطلب قبل الغنيمة.

وأما تقديم المال على الولد؛ فلم يطرد هذا التقديم في القرآن الكريم بل قد جاء مقدما كذلك في قوله: (وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم) وقوله: (إنما أموالكم وأولادكم فتنة) وقوله: (لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله).

وجاء ذكر البنين مقدما كما في قوله: (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها) وقوله: (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة).

فأما تقديم الأموال في تلك المواضع الثلاثة فلأنه ينتظمها معنى واحد وهو: التحذير من الاشتغال بها والحرص على تحصيلها حتى يفوته حظه من الله والدار الآخرة فنهى في موضع عن الالتهاء بها وأخبر في موضع أنها فتنة وأخبر في موضع آخر أن الذي يقرب عباده إليه إيمانهم وعملهم الصالح لا أموالهم ولا أولادهم ففي ضمن هذا النهي عن الاشتغال بها عما يقرب إليه..

وأما تقديمهم على الأموال في تينك الآيتين فلحكمة باهرة وهي: أن براءة متضمنة لوعيد من كانت تلك الأشياء المذكورة فيها أحب إليه من الجهاد في سبيل الله ومعلوم أن تصور المجاهد فراق أهله وأولاده وآبائه وإخوانه وعشيرته تمنعه من الخروج عنهم أكثر مما يمنعه مفارقته ماله فإن تصور مع هذا أن يقتل فيفارقهم فراق الدهر نفرت نفسه عن هذه أكثر وأكثر ولا يكاد عند هذا التصور يخطر له مفارقة ماله بل يغيب بمفارقة الأحباب عن مفارقة المال فكان تقديم هذا الجنس أولى من تقديم المال.

وتأمل هذا الترتيب البديع في تقديم ما قدم وتأخير ما أخر = يطلعك على عظمة هذا الكلام وجلالته)

القاعدة الثالثة: جرت عادة القرآن بتهديد المخاطبين وتحذيرهم بما يذكره من صفاته التي تقتضي الحذر والاستقامة [9] .

كقوله: (فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعملوا أن الله عزيز حكيم) وقوله (من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعا بصيرا) والقرآن الكريم مملوء من هذا وعلى هذا فيكون في ضمن ذلك: إني أسمع ما يردون به عليك وما يقابلون به رسالاتي وأبصر ما يفعلون..)

القاعدة الرابعة: ضوابط في الإفراد والجمع في القرآن:

أولا: في لفظ السماء والأرض [10]

قال: (فإن الكلام متى اعتمد به على السماء المحسوسة التي هي السقف وقصد به إلى ذاتها دون معنى الوصف صح جمعها جمع السلامة؛ لأن العدد قليل وجمع السلامة بالقليل أولى؛ لما تقدم من قربه من التثنية القريبة من الواحد ومتى اعتمد الكلام على الوصف ومعنى العلا والرفعة جرى اللفظ مجرى المصدر الموصوف به في قولك: (قوم عدل وزور)

وأما الأرض فأكثر ما تجيء مقصودا بها معنى التحت والسفل دون أن يقصد ذواتها وأعدادها وحيث جاءت مقصودا بها الذات والعدد أتى بلفظ يدل على التعدد [11] كقوله: (ومن الأرض مثلهن).

وفرق ثان: وهو أن الأرض لا نسبة لها إلى السماوات وسعتها بل هي بالنسبة إليها كحصاة في صحراء فهي وإن تعددت وتكررت فهي بالنسبة إلى السماء كالواحد القليل فاختير لها اسم الجنس.

وفرق ثالث: أن الأرض هي دار الدنيا التي بالإضافة إلى الآخرة كما يدخل الإنسان إصبعه في اليم فما تعلق بها هو مثال الدنيا من الآخرة والله سبحانه لم يذكر الدنيا إلا مقللا لها محقرا لشأنها وأما السماوات فليست من الدنيا هذا على أحد القولين في الدنيا فإنه اسم للمكان فإن السماوات مقر ملائكة الرب تعالى ومحل دار جزائه ومهبط ملائكته ووحيه فإذا اعتمد التعبير عبر عنها بلفظ الجمع إذ المقصود ذواتها لا مجرد العلو والفوق وأما إذا أريد الوصف الشامل للسماوات وهو معنى العلو والفوق أفردوا ذلك بحسب ما يتصل به من الكلام والسياق.

فتأمل قوله: (أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا) كيف أفردت هنا لما كان المراد الوصف الشامل والفوق المطلق ولم يرد سماء معينة مخصوصة.

وكذا قال الله تعالى: (وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء) يونس ٦١ بخلاف قوله في سبأ: (عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض) سبأ ٣ فإن قبلها ذكر سبحانه سعة ملكه ومحله وهو السماوات كلها والأرض ولما لم يكن في سورة يونس ما يقتضي ذلك أفردها إرادة للجنس.

وتأمل كيف أتت مجموعة في قوله تعالى: (وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم) الأنعام ٣ فإنها أتت مجموعة هنا لحكمة ظاهرة وهي: تعلق الظرف بما في اسمه تبارك وتعالى من معنى الإلهية فالمعنى: وهو الإله وهو المعبود في كل واحدة من السماوات ففي كل واحدة من هذا الجنس هو المألوه المعبود فذكر الجمع هنا أبلغ وأحسن من الاقتصار على لفظ الجنس..

وتأمل كيف جاءت مفردة في قوله: (فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون) الذاريات ٢٣ إرادة لهذين الجنسين أي: رب كل ما علا وكل ما سفل فلما كان المراد عموم ربوبيته أتى بالاسم الشامل لكل ما يسمى سماء وكل ما يسمى أرضا وهو أمر حقيقي لا يتبدل ولا يتغير وإن تبدلت عين السماء والأرض.

فانظر كيف جاءت مجموعة في قوله: (يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض) الجمعة ١ في جميع الصور لما كان المراد الإخبار عن تسبيح سكانها على كثرتهم وتباين مراتبهم لم يكن بد من جمع محلهم.

ونظير هذا جمعها في قوله: (وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون) الأنبياء ١٩، وكذلك جاءت في قوله (تسبح له السماوات السبع) الإسراء ٤٤ مجموعة إخبارا بأنها تسبح له بذواتها وأنفسها على اختلاف عددها وأكد هذا المعنى بوصفها بالعدد ولم يقتصر على السماوات فقط بل قال: السبع.

وانظر كيف جاءت مفردة في قوله: (وفي السماء رزقكم وما توعدون) الذاريات ٢٢ فالرزق المطر وما وعدنا به الجنة وكلاهما في هذه الجهة لا أنهما في كل واحدة من السماوات فكان لفظ الإفراد أليق بها ثم تأمل كيف جاءت مجموعة في قوله: (قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله) النمل ٦٥ لما كان المراد نفي علم الغيب عن كل من هو في واحدة من السماوات أتى بها مجموعة.

وتأمل كيف لم يجيء في سياق الإخبار بنزول الماء منها إلا مفردة حيث وقعت لما لم يكن المراد نزوله من ذات السماء بنفسها بل المراد الوصف وهذا باب قد فتحه الله لي ولك فلجه وانظر إلى أسرار الكتاب وعجائبه وموارد ألفاظه جمعا وإفرادا وتقديما وتأخيرا إلى غير ذلك من أسراره فلله الحمد والمنة لا يحصى أحد من خلقه ثناء عليه) اهـ.

ثانيا: في ذكر الرياح

والقاعدة في ذلك: أنها حيث كانت في سياق الرحمة أتت مجموعة وحيث وقعت في سياق العذاب أتت مفردة [12].

قال: (وسر ذلك أن رياح الرحمة مختلفة الصفات والمهاب والمنافع وإذا هاجت منها ريح أنشأ لها ما يقابلها ما يكسر سورتها ويصدم حدتها فينشأ من بينهما ريح لطيفة تنفع الحيوان والنبات فكل ريح منها في مقابلها ما يعدلها ويرد سورتها فكانت في الرحمة ريحا وأما في العذاب فإنها تأتي من وجه واحد وصمام واحد لا يقوم لها شيء ولا يعارضها غيرها حتى تنتهي إلى حيث أمرت لا يرد سورتها ولا يكسر شرتها فتمتثل ما أمرت به وتصيب ما أرسلت إليه.

ولهذا وصف سبحانه الريح التي أرسلها على عاد بأنها عقيم فقال: (أرسلنا عليهم الريح العقيم) الذاريات ٤١ وهي التي لا تلقح ولا خير فيها والتي تعقم ما مرت عليه.

ثم تأمل كيف اطرد هذا إلا في قوله في سورة يونس: (هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف) يونس ٢٢ فذكر ريح الرحمة الطيبة بلفظ؛ الإفراد لأن تمام الرحمة هناك إنما تحصل بوحدة الريح لا باختلافها فإن السفينة لا تسير إلا بريح واحدة من وجه واحد تسيرها فإذا اختلفت عليها الرياح وتصادمت وتقابلت فهو سبب الهلاك فالمطلوب هناك ريح واحدة لا رياح وأكد هذا المعنى بوصفها بالطيب دفعا لتوهم أن تكون ريحا عاصفة بل هي مما يفرح بها لطيبها؛ فلينزه الفطن بصيرته في هذه الرياض المونقة المعجبة التي ترقص القلوب لها فرحا ويغتذي بها عن الطعام والشراب والحمد لله الفتاح العليم فمثل هذا الفصل يعض عليه بالنواجذ وتثنى عليه الخناصر فإنه يشرف بك على أسرار عجائب تجتنيها من كلام الله والله الموفق للصواب) اهـ.

ثم ذكر المؤلف رحمه الله أمثلة أخرى مما في القرآن من أسرار الجمع والإفراد مثل:

جمع الظلمات وإفراد النور

وجمع سبل الباطل وإفراد سبيل الحق

وجمع الشمائل وإفراد اليمين [13]

ومجيىء المشرق والمغرب تارة مجموعين وتارة مثنين وتارة مفردين [14]

القاعدة الخامسة: الإكتفاء عن غير الأهم بذكر الأهم؛ لدلالته عليه فأحدهما مذكور صريحا والآخر ضمنا [15] .

قال ابن القيم رحمه الله: (ولذلك أمثلة في القرآن يحذف منها الشيء للعلم بموضعه فمنها قوله تعالى: (وإذ قلنا) البقرة ٣٤ (وإذ نجيناكم) البقرة ٤٩ (وإذ فرقنا) البقرة ٥٠ وهو كثير جدا بواو العطف من غير ذكر عامل يعمل في (إذ)؛ لأن الكلام في سياق تعداد النعم وتكرار الأقاصيص فيشير بالواو العاطفة إليها كأنها مذكورة في اللفظ لعلم المخاطب بالمراد.

ولما خفي هذا على بعض ظاهرية النحاة قال: إن إذ زائدة هنا وليس كذلك.

ومن هذا الباب الواو المتضمنة معنى رب؛ فإنك تجدها في أول الكلام كثيرا إشارة منهم إلى تعداد المذكور بعدها من فخر أو مدح أو غير ذلك فهذه كلها معان مضمرة في النفس وهذه الحروف عاطفة عليها وربما صرحوا بذلك المضمر كقول ابن مسعود: (دع ما في نفسك وإن أفتوك عنه وأفتوك).

ومن هذا الباب حذف كثير من الأجوبة في القرآن لدلالة الواو عليها لعلم المخاطب أن الواو عاطفة ولا يعطف بها إلا على شيء كقوله تعالى: (فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابت الجب) يوسف ١٥ وكقوله تعالى: (حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها) الزمر ٧١ وهذا الباب واسع في اللغة) اهـ.

القاعدة السادسة وهي قريبة من سابقتها:

الاستغناء بأحد المذكورين عن الآخر لكونه تبعا له ومعنى من معانيه فإذا ذكر أغنى عن ذكره لأنه يفهم منه [16] .

قال ابن القيم: (ومنه في أحد الوجوه: قوله تعالى: (إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين) فاستغنى عن خبر الأعناق بالخبر عن أصحابها.

ومنه في أحد الوجوه: قوله تعالى: (والله ورسوله أحق أن يرضوه) المعنى: والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك فاستغنى بإعادة الضمير إلى الله إذ إرضاؤه هو إرضاء رسوله فلم يحتج أن يقول: يرضوهما.

ومنه مما لم يذكره ابن القيم: قوله تعالى: (والنخل والزرع مختلفا أكله) الأنعام ١٤١.

القاعدة السابعة: قد يكون ترك العطف هنا من بديع الكلام لشدة ارتباطه بما قبله ووقوعه منه موقع التفسير حتى كأنه هو [17].

ومثاله: (في قوله تعالى: (أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين) يونس٢ كيف لم يعطف فعل القول بأداة عطف؛ لأنه كالتفسير لتعجبهم والبدل من قوله تعالى: (أكان للناس عجبا) فجرى مجرى قوله: (ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيها مهانا) الفرقان ٦٩ فلما كان مضاعفة العذاب بدلا وتفسيرا ل(أثاما) لم يحسن عطفه عليه.

وزعم بعض الناس: أن من هذا الباب قول عمر رضي الله عنه في الحديث الصحيح: (لا يغرنك هذه التي أعجبها حسنها حب رسول الله لها) [18] فقال: المعنى أعجبها حسنها وحب رسول الله وليس الأمر كذلك ولكن قوله: (حب رسول الله) بدل من قوله: (هذه) وهو من بدل الاشتمال والمعنى: لا يغرنك حب رسول الله لهذه التي قد أعجبها حسنها ولا عطف هناك ولا حذف وهذا واضح بحمد الله.

القاعدة الثامنة: إذا كان الوجهان صحيحين في العربية واختص القرآن بأحدهما في موضع دون موضع كان لابد لذلك الاختصاص من فائدة [19].

مثاله: قوله تعالى (فأخرجنا به من كل الثمرات) ف(من) ههنا لبيان الجنس لا للتبعيض والمجرور في موضع المفعول لا في موضع الظرف وإنما تريد الثمرات نفسها إلا أنه أخرج منها شيئا وأدخل من لبيان الجنس كله ولو قال: (أخرجنا به من الثمرات كلها) لذهب الوهم إلى أن المجرور في موضع ظرف وأن مفعول (فأخرجنا) فيما بعد ولم يتوهم ذلك مع تقديم (كل) لعلم المخاطبين أن (كلا) إذا تقدمت تقتضي الإحاطة بالجنس وإذا تأخرت وكانت توكيدا اقتضت الإحاطة بالمؤكد خاصة جنسا شائعا كان أو معهودا معروفا.

وأما قوله تعالى: (كلي من كل الثمرات) ولم يقل: (من الثمرات كلها)؛ ففيها الحكمة التي في الآية قبلها ومزيد فائدة وهو: أنه تقدمها في النظم قوله تعالى: (ومن ثمرات النخيل والأعناب) النحل ٦٧ فلو قال بعدها: (كلي من الثمرات كلها) لذهب الوهم إلى أنه يريد الثمرات المذكورة قبل هذا أعني: ثمرات النخيل والأعناب؛ لأن اللام إنما تنصرف إلى المعهود فكان الإبتداء ب(كل) أحصن للمعنى وأجمع للجنس وأرفع للبس وأبدع في النظم فتأمله.

وإذا قطعت عن الإضافة وأخبر عنها فحقها أن تكون ابتداء ويكون خبرها جمعا ولا بد من مذكورين قبلها؛ لأنها إن لم تذكر قبلها جملة ولا أضيفت إلى جملة بطل معنى الإحاطة فيها ولم يعقل لها معنى وإنما وجب أن يكون خبرها جمعا؛ لأنها اسم في معنى الجمع فتقول:كل ذاهبون إذا تقدم ذكر قوم؛ لأنك معتمد في المعنى عليهم وإن كنت مخبرا عن (كل) فصارت بمنزلة قولك: الرهط ذاهبون والنفر منطلقون؛ لأن الرهط والنفر اسمان مفردان ولكنهما في معنى الجمع والشاهد لما بيناه قوله سبحانه: (وكل في فلك يسبحون) الأنبياء ٣٣ (كل إلينا راجعون) الأنبياء ٩٣ (وكل كانوا ظالمين) الأنفال ٥٤.

وإن كانت مضافة إلى ما بعدها في اللفظ لم تجد خبرها إلا مفردا؛ للحكمة التي قدمتها قبل وهي: أن الأصل إضافتها إلى النكرة المفردة فتقول: كل إخوتك ذاهب أي كل واحد منهم ذاهب.) اهـ.

ثم أورد المؤلف سؤالا قد يناقض ما أصله في هذه القاعدة وهو: أنه قد ورد في القرآن: (كل يعمل على شاكلته) الإسراء ٨٤ (كل كذب الرسل) ق ١٤، وهذا يناقض ما تقدم.

قيل: إن في هاتين الآيتين قرينة تقتضي تخصيص المعنى بهذا اللفظ دون غيره أما قوله تعالى: (قل كل يعمل على شاكلته) فلأن قبلها ذكر فريقين مختلفين ذكر مؤمنين وظالمين فلو قال: يعملون وجمعهم في الإخبار عنهم لبطل معنى الاختلاف فكان لفظ الإفراد أدل على المعنى المراد كأنه يقول: كل فهو يعمل على شاكلته.

وأما قوله: (كل كذب الرسل) فلأنه ذكر قرونا وأمما وختم ذكرهم بذكر قوم تبع فلو قال: كل كذبوا و(كل) إذا أفردت إنما تعتمد على أقرب المذكورين إليها فكان يذهب الوهم إلى أن الإخبار عن قوم تبع خاصة بأنهم كذبوا الرسل فلما قال: (كل كذب) علم أنه يريد كل فريق منهم؛ لأن إفراد الخبر عن (كل) حيث وقع إنما يدل على هذا المعنى كما تقدم ومثله: (كل آمن بالله) البقرة ٢٨٥.

القاعدة التاسعة: أن الألف واللام إذا دخلت على اسم موصوف اقتضت أنه أحق بتلك الصفة من غيره [20].

ومثاله: تعريف الصراط في قوله تعالى: (اهدنا الصراط المستقيم) فإنه لو قال: اهدنا صراطا مستقيما؛ لكان الداعي إنما يطلب الهداية إلى صراطٍ ما مستقيم على الإطلاق وليس المراد ذلك بل المراد الهداية إلى الصراط المعين الذي نصبه الله تعالى لأهل نعمته وجعله طريقا إلى رضوانه وجنته وهو دينه الذي لا دين له سواه فالمطلوب أمر معين في الخارج والذهن لا شيء مطلق منكر واللام هنا للعهد العلمي الذهني وهو أنه طلب الهداية إلى سر معهود قد قام في القلوب معرفته والتصديق به وتميزه عن سائر طرق الضلال فلم يكن بد من التعريف..

ألا ترى أن قولك: جالس فقيها أو عالما ليس كقولك جالس الفقيه أو العالم ولا قولك: أكلت طيبا كقولك: أكلت الطيب ألا ترى إلى قوله: (أنت الحق ووعدك الحق وقولك الحق) ثم قال: (ولقاؤك الحق والجنة حق والنار حق) [21] فلم يدخل الألف واللام على الأسماء المحدثة وأدخلها على اسم الرب تعالى ووعده وكلامه.

فإن قيل: لم جاء منكرا في قوله لنبيه: (ويهديك صراطا مستقيما) الفتح ٢ وقوله تعالى: (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم) الشورى ٥٢ وقوله تعالى: (واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم) الأنعام ٨٧ وقوله تعالى: (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم) الأنعام ١٦١ .

فالجواب عن هذه المواضع بجواب واحد وهو: أنها ليست في مقام الدعاء والطلب وإنما هي في مقام الإخبار من الله تعالى عن هدايته إلى صراط مستقيم وهداية رسوله إليه ولم يكن للمخاطبين عهد به ولم يكن معروفا لهم فلم يجيء معرفا بلام العهد المشيرة إلى معروف في ذهن المخاطب قائم في خلده ولا تقدمه في اللفظ معهود تكون اللام معروفة إليه وإنما تأتي لام العهد في أحد هذين الموضعين أعني: أن يكون لها معهود ذهني أو ذكر لفظي وإذ لا واحد منهما في هذه المواضع فالتنكير هو الأصل..) اهـ.

القاعدة العاشرة: السر في جمع القرآن بين هذين الوصفين: (الهدى والنصر) في كثير من المواضع [22] .

وهو: أن هذين الأصلين بهما كمال السعادة والفلاح فإن الهدى هو: العلم بالله تعالى ودينه والعمل بمرضاته وطاعته فهو العلم النافع والعمل الصالح والنصر هو: القدرة التامة على تنفيذ دينه بالحجة والبيان والسيف والسنان فهو النصر بالحجة واليد؛ قهر القلوب المخالفين له بالحجة وقهر أبدانهم باليد وهو سبحانه كثيرا ما يجمع بين هذين الأصلين؛ إذ بهما تمام الدعوة وظهور دينه على الدين كله كقوله تعالى: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله) التوبة ٣٣ في موضعين في سورة براءة وفي سورة الصف وقال تعالى: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) الحديد ٢٥ فهذا الهدى ثم قال: (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد) فهذا النصر فذكر الكتاب الهادي والحديد الناصر.

وقال تعالى (ألم الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان) آل عمران ١ ٤ فذكر إنزال الكتاب الهادي والفرقان وهو النصر الذي يفرق بين الحق والباطل.

وسر اقتران النصر بالهدى: أن كلا منهما يحصل به الفرقان بين الحق والباطل ولهذا سمى تعالى ما ينصر به عباده المؤمنين فرقانا كما قال تعالى: (إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يون التقى الجمعان) الأنفال٤١ فذكر الأصلين ما أنزله على رسوله يوم الفرقان وهو يوم بدر وهو اليوم الذي فرق الله تعالى فيه بين الحق والباطل بنصر رسوله ودينه وإذلال أعدائه وخزيهم ومن هذا قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين) الأنبياء ٤٨ فالفرقان نصره له على فرعون وقومه والضياء والذكر التوراة هذا هو معنى الآية..

ثم رد رحمه الله على من فسر الآية بغير ذلك

 

القاعدة الحادية عشرة: الطريقة المعهودة في القرآن الكريم هي: أن أفعال الإحسان والرحمة والجود تضاف إلى الله سبحانه وتعالى فيذكر فاعلها منسوبة إليه ولا يبني الفعل معها للمفعول فإذا جيء بأفعال العدل والجزاء والعقوبة = حذف وبني الفعل معها للمفعول = أدبا في الخطاب وإضافة إلى الله تعالى أشرف قسمي أفعاله [23] .

فمنه قوله: (صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم) فإنه ذكر النعمة فأضافها إليه ولم يحذف فاعلها ولما ذكر الغضب حذف الفاعل وبنى الفعل للمفعول فقال: (المغضوب عليهم) وقال في الإحسان: (الذين أنعمت عليهم) .

ونظيره: قول إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه: (الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين) الشعراء ٧٨ ٨٠ فنسب الخلق والهداية والإحسان بالطعام والسقي إلى الله تعالى ولما جاء إلى ذكر المرض قال: (وإذا مرضت) ولم يقل: أمرضني وقال: (فهو يشفين) .

ومنه: قوله تعالى حكاية عن مؤمني الجن: (وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا) الجن ١٠، فنسبوا إرادة الرشد إلى الرب وحذفوا فاعل إرادة الشر وبنوا الفعل للمفعول .

ومنه: قول الخضر عليه الصلاة والسلام في السفينة: (فأردت أن أعيبها) فأضاف العيب إلى نفسه وقال في الغلامين: (فأراد ربك أن يبلغا أشدهما) الكهف ٨٢ .

ومنه: قوله تعالى: (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) البقرة ١٨٧ فحذف الفاعل وبناه للمفعول وقال: (وأحل الله البيع وحرم الربا) البقرة ٢٧٥؛ لأن في ذكر الرفث ما يحسن منه أن لا يقترن بالتصريح بالفاعل .

ومنه: (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير) المائدة ٣ وقوله: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا) الأنعام ١٥١ إلى آخرها.

ومنه: وهو ألطف من هذا وأدق معنى قوله: (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم) النساء ٣٣ إلى آخرها ثم قال: (وأحل لكم ما وراء ذلكم) النساء ٢٤ وتأمل قوله: (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم) النساء ١٦ كيف صرح بفاعل التحريم في هذا الموضع وقال في حق المؤمنين: (حرمت عليكم الميتة والدم) .

وذكر ابن القيم رحمه الله هذه القاعدة في موضع آخر من الكتاب [24] وذكر أمثلة أخرى فقال: (وتأمل طريقة القرآن في إضافة الشر تارة إلى سببه ومن قام به كقوله: (والكافرون هم الظالمون) البقرة ٢٥٤ وقوله: (والله لا يهدي القوم الفاسقين) المائدة ١٠٨ وقوله: (فبظلم من الذين هادوا) النساء ١٦٠، وقوله: (ذلك جزيناهم ببغيهم) الأنعام ١٤٦ وقوله: (وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين) الزخرف ٧٦ وهو في القرآن أكثر من أن يذكر هاهنا عشر معشاره وإنما المقصود التمثيل .

وتارة بحذف فاعله كقول الخضر في السفينة: (فأردت أن أعيبها) الكهف ٧٩ وفي الغلامين: (فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك) الكهف ٨٢ ومثله قوله: (ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان) الحجرات ٧ فنسب هذا التزيين المحبوب إليه وقال: (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين) آل عمران ١٤ فحذف الفاعل المزين .

وهذا كثير في القرآن الكريم ذكرنا منه أمثلة كثيرة في كتاب الفوائد المكية وبينا هناك السر في مجيء (الذين آتيناهم الكتاب) البقرة ١٢١ (الذين أوتوا الكتاب) البقرة ١٠١ والفرق بين الموضعين وأنه حيث ذكر الفاعل كان من آتاه الكتاب واقعا في سياق المدح وحيث حذفه كان من أوتيه واقعا في سياق الذم أو منقسما وذلك من أسرار القرآن الكريم .

ومثله: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) فاطر ٣٢ وقال: (فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى) الأعراف ١٦٩ وبالجملة فالذي يضاف إلى الله تعالى كله خير وحكمة ومصلحة وعدل) اهـ بتصرف.

القاعدة الثانية عشرة: أن الفعل المعدى بالحروف المتعددة لا بد أن لا يكون له مع كل حرف معنى زائد على معنى الحرف الآخر [25]

وقد شرح ابن القيم هذه القاعدة فقال: (وهذا بحسب اختلاف معاني الحروف فإن ظهر اختلاف الحرفين ظهر الفرق نحو: رغبت عنه ورغبت فيه وعدلت إليه وعدلت عنه وملت إليه وعنه وسعيت إليه وسعيت به .

وأن تفاوت معنى الأدوات عسر الفرق نحو: قصدت إليه وقصدت له وهديته إلى كذا وهديته لكذا وظاهرية النحاة يجعلون أحد الحرفين بمعنى الآخر وأما فقهاء أهل العربية فلا يرتضون هذه الطريقة بل يجعلون للفعل معنى مع الحرف ومعنى مع غيره فينظرون إلى الحرف وما يستدعي من الأفعال فيشربون الفعل المتعدى به معناه هذه طريقة إمام الصناعة سيبويه رحمه الله تعالى وطريقة حذاق أصحابه = يضمنون الفعل معنى الفعل لا يقيمون الحرف مقام الحرف .

وهذه قاعدة شريفة جليلة المقدار تستدعي فطنة ولطافة في الذهن وهذا نحو قوله تعالى: (عينا يشرب بها عباد الله) الإنسان ٦ فإنهم يضمنون (يشرب) معنى (يروي) فيعدونه بالباء التي تطلبها فيكون في ذلك دليل على الفعلين؛ أحدهما بالتصريح به والثاني بالتضمن والإشارة إليه بالحرف الذي يقتضيه مع غاية الإختصار وهذا من بديع اللغة ومحاسنها وكمالها) .

ومن هذا قوله تعالى: (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه) الحج ٢٥ وفعل الإرادة لا يتعدى بالباء ولكن ضمن معنى: يهم فيه بكذا وهو أبلغ من الإرادة فكان في ذكر الباء إشارة إلى استحقاق العذاب عند الإرادة وإن لم تكن جازمة وهذا باب واسع لو تتبعناه لطال الكلام فيه ويكفي المثالان المذكوران .

 فإذا عرفت هذا ففعل الهداية متى عدي بـ: (إلى) تضمن الإيصال إلى الغاية المطلوبة فأتى بحرف الغاية ومتى عدي بـ: (اللام) تضمن التخصيص بالشيء المطلوب فأتى باللام الدالة على الاختصاص والتعيين فإذا قلت: هديته لكذا فهم معنى: ذكرته له وجعلته له وهيأته ونحو هذا وإذا تعدى بنفسه تضمن المعنى الجامع لذلك كله وهو التعرف والبيان والإلهام فالقائل إذا قال: (اهدنا الصراط المسقيم) هو طالب من الله أن يعرفه إياه ويبينه له ويلهمه إياه ويقدره عليه فيجعل في قلبه علمه وإرادته والقدرة عليه فجرد الفعل من الحرف وأتى به مجردا معدى بنفسه ليتضمن هذه المراتب كلها ولو عدي بحرف تعين معناه وتخصص بحسب معنى الحرف فتأمله فإنه من دقائق اللغة وأسرارها) اهـ.

 

القاعدة الثالثة عشرة: كثير من الاختلاف بين السلف في التفسير هو من باب اختلاف التنوع لا التضاد [26]

ومن أمثلة ذلك: اختلافهم في تفسير (الصراط المستقيم) فإن الناس قد تنوعت عباراتهم فيه وترجمتهم عنه بحسب صفاته ومتعلقاته وحقيقته شيء واحد وهو: طريق الله الذي نصه لعباده على ألسن رسله وجعله موصلا لعباده إليه ولا طريق لهم إليه سواه بل الطرق كلها مسدودة إلا هذا وهو: إفراده بالعبودية وإفراد رسوله بالطاعة فلا يشرك به أحدا في عبوديته ولا يشرك برسوله أحدا في طاعته فيجرد التوحيد ويجرد متابعة الرسول .

فقل ما شئت من العبارات التي هذا أحسنها وقطب رحاها وهي معنى قول من قال: علوم وأعمال ظاهرة وباطنة مستفادة من مشكاة النبوة ومعنى قول من قال: متابعة رسول الله ظاهرا وباطنا علما وعملا ومعنى قول من قال: الإقرار لله بالوحدانية والإستقامة على أمره .

وأما ما عدا هذا من الأقوال كقول من قال: الصلوات الخمس وقول من قال: حب أبي بكر وعمر وقول من قال: هو أركان الإسلام الخمس التي بني عليها فكل هذه الأقوال تمثيل وتنويع لا تفسير مطابق له بل هي جزء من أجزائه وحقيقته الجامعة ما تقدم .

وقد ضرب ابن القيم رحمه الله مثالا آخر على هذه القاعدة عند تفسيره لقوله تعالى: (ومن شر غاسق إذا وقب) [27] فقال بعد أن ذكر معنيين للغاسق إذا وقب: (عن أبي سلمة عن عائشة قالت أخذ النبي بيدي فنظر إلى القمر فقال: (يا عائشة استعيذي بالله من شر هذا فإن هذا هو الغاسق إذا وقب) [28] قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح وهذا أولى من كل تفسير فيتعين المصير إليه .

قيل: هذا التفسير حق ولا يناقض التفسير الأول بل يوافقه ويشهد بصحته فإن الله تعالى قال: (وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة) الإسراء ١٢ فالقمر هو آية الليل وسلطانه فهو أيضا غاسق إذا وقب كما أن الليل غاسق إذا وقب والنبي أخبر عن القمر بأنه غاسق إذا وقب وهذا خبر صدق وهو أصدق الخبر ولم ينف عن الليل اسم الغاسق إذا وقب وتخصيص النبي له بالذكر لا ينفي شمول الاسم لغيره.

ونظير هذا: قوله في المسجد الذي أسس على التقوى وقد سئل عنه فقال: (هو مسجدي هذا) [29] ومعلوم أن هذا لا ينفي كون مسجد قباء مؤسسا على التقوى مثل ذاك .

ونظيره أيضا: قوله في علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم أجمعين: (اللهم هؤلاء أهل بيتي) [30] فإن هذا لا ينفي دخول غيرهم من أهل بيته في لفظ أهل البيت ولكن هؤلاء أحق من دخل في لفظ أهل بيته .

ونظير هذا قوله: (ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ولكن المسكين الذي لا يسأل الناس شيئا ولا يفطن له فيتصدق عليه) [31] وهذا لا ينفي اسم المسكنة عن الطواف بل ينفي اختصاص الاسم به وتناول المسكين لغير السائل أولى من تناوله له.

ونظير هذا قوله: (ليس الشديد بالصرعة ولكن الذي يملك نفسه عند الغضب) [32] فإنه لا يقتضي نفي الاسم عن الذي يصرع الرجال ولكن يقتضي أن ثبوته للذي يملك نفسه عند الغضب أولى ونظيره الغسق والوقوب وأمثال ذلك = فكذلك قوله في القمر: (هذا هو الغاسق إذا وقب) لا ينفي أن يكون الليل غاسقا بل كلاهما غاسق .

القاعدة الرابعة عشرة: إذا ذكر سبحانه ما يوجبه ويحرمه يذكره بلفظ الأمر والنهي وهو الأكثر أو بلفظ الإيجاب والكتابة والتحريم [33] .

 نحو: (كتب عليكم الصيام) البقرة ٨٣ (حرمت عليكم الميتة) المائدة ٣ (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم) الأنعام ١٥١ وفي الحج أتى بهذا النظم الدال على تأكد الوجوب من عشرة أوجه.. وذكرها .

القاعدة الخامسة عشرة: ليس في القرآن حرف زائد بل كل لفظة لها فائدة متجددة زائدة على أصل التركيب [34] .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية [35]: (ولا يذكر فيه أي في القرآن لفظا زائدا إلا لمعنى زائد وإن كان فى ضمن ذلك التوكيد و ما يجيء من زيادة اللفظ في مثل قوله: (فبما رحمة من الله لنت لهم) و قوله: (عما قليل ليصبحن نادمين) وقوله: (قليلا ما تذكرون) فالمعنى مع هذا أزيد من المعنى بدونه فزيادة اللفظ لزيادة المعنى و قوة اللفظ لقوة المعنى) اهـ.

أما الذين أطلقوا القول أن في القرآن حرف زائد؛ فإما أن يريدوا أنه لا معنى له وأنه حشو في الكلام .

فهذا القول حينئذ باطل مردود فليس في القرآن حشو ولا كلام لا معنى له وهذا مما يصان عنه كلام البلغاء فكيف بكلام الله تعالى ؟!

وإما أن يريدوا بذلك: أن أصل المعنى حاصل بدونه وأن حذفه لا يؤثر على المعنى فهذا القول معناه صحيح لكن يمنع منه = أدبا مع القرآن وإنكارا للعبارة فقط [36] .

 القاعدة السادسة عشرة: في اقتران السلام على المرسلين بتسبيح الله تعالى لنفسه سر عظيم من أسرار القرآن يتضمن الرد على كل مبطل ومبتدع [37] .

 وشرح ابن القيم القاعدة بقوله: (فإنه نزه نفسه تنزيها مطلقا كما نزه نفسه عما يقول خلقه فيه ثم سلم على المرسلين وهذا يقتضي سلامتهم من كل ما يقول المكذبون لهم المخالفون لهم وإذا سلموا من كل ما رماهم به أعداؤهم؛ لزم سلامة كل ما جاءوا به من الكذب والفساد وأعظم ما جاءوا به التوحيد ومعرفة الله ووصفه بما يليق بجلاله مما وصف به نفسه على ألسنتهم وإذا سلم ذلك من الكذب والمحال والفساد فهو الحق المحض وما خالفه هو الباطل والكذب المحال وهذا المعنى بعينه في قوله: (قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى) فإنه يتضمن حمده بما له من نعوت الكمال وأوصاف الجلال والأفعال الحميدة والأسماء الحسنى وسلامة رسله من كل عيب ونقص وكذب وذلك يتضمن سلامة ما جاءوا به من كل باطل فتأمل هذا السر في اقتران السلام على رسله بحمده وتسبيحه فهذا يشهد لكون السلام هنا من الله تعالى كما هو في آخر الصافات) .

القاعدة السابعة عشرة: صيغة (تبارك) في القرآن مختصة بالله تعالى ولا تضاف إلى غيره [38]

قال رحمه الله: (البركة نوعان؛ أحدهما: بركة هي فعله تبارك وتعالى والفعل منها بارك ويتعدى بنفسه تارة وبأداة على تارة وبأداة في تارة والمفعول منها مبارك وهو ما جعل كذلك فكان مباركا بجعله تعالى .

والنوع الثاني: بركة تضاف إليه إضافة الرحمة والعزة والفعل منها (تبارك) ولهذا لا يقال لغيره ذلك ولا يصلح إلا له عز وجل فهو سبحانه المبارك وعبده ورسوله كما قال المسيح عليه السلام: (وجعلني مباركا أينما كنت) مريم ٣١ فمن بارك الله فيه وعليه فهو المبارك وأما صفته (تبارك)؛ فمختصة به تعالى كما أطلقها على نفسه بقوله: (تبارك الله رب العالمين) الأعراف ٥٤ (تبارك الذي بيده الملك) (تبارك الله أحسن الخالقين) المؤمنون١٤ (وتبارك الذي له ملك السموات والأرض وما بينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون) الزخرف ٨٥ (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده) الفرقان ١، (تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك) الفرقان ١٠ (تبارك الذي جعل في السماء بروجا) الفرقان ٦١ أفلا تراها كيف اطردت في القرآن جارية عليه مختصة به لا تطلق على غيره) اهـ.

القاعدة الثامنة عشرة: أن الثناء على الله عامة ما يجيء مضافا إلى أسمائه الحسنى الظاهرة دون الضمير إلا أن يتقدم ذكر الاسم الظاهر فيجيء بعده المضمر [39] .

وهذا نحو قول المصلي: (الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين إياك نعبد) الفاتحة ١ ٥ وقوله في الركوع: (سبحان ربي العظيم) وفي السجود: (سبحان ربي الأعلى) وفي هذا من السر: أن تعليق الثناء بأسمائه الحسنى هو لما تضمنت معانيها من صفات الكمال ونعوت الجلال فأتى بالاسم الظاهر الدال على المعنى الذي يثنى به ولأجله عليه تعالى ولفظ الضمير لا إشعار له بذلك .

ولهذا إذا كان ولا بد من الثناء عليه بخطاب المواجهة أتى بالاسم الظاهر مقرونا بميم الجمع الدالة على جمع الأسماء والصفات نحو قوله في رفع رأسه من الركوع: (اللهم ربنا لك الحمد) وربما اقتصر على ذكر الرب تعالى لدلالة لفظه على هذا المعنى فتأمله فإنه لطيف المنزع جدا .

القاعدة التاسعة عشرة: من شروط القول الصحيح في التفسير: أن يكون له سلف فيه وتساعد عليه اللغة [40] .

قال رحمه الله تطبيقا لهذه القاعدة: (فإن قيل: فما تقولون في القول الذي ذهب إليه بعضهم: أن المراد به القمر إذا خسف واسود وقوله (وقب) أي: دخل في الخسوف أو غاب خاسف ؟

قيل: هذا القول ضعيف ولا نعلم به سلفا والنبي لما أشار إلى القمر وقال: (هذا الغاسق إذا وقب) [41] لم يكن خاسفا إذ ذاك وإنما كان وهو مستنير ولو كان خاسفا لذكرته عائشة وإنما قالت: نظر إلى القمر وقال: (هذا هو الغاسق) ولو كان خاسفا لم يصح أن يحذف ذلك الوصف منه فإن ما أطلق عليه اسم الغاسق باعتبار صفة لا يجوز أن يطلق عليه بدونها لما فيه من التلبيس .

وأيضا: فإن اللغة لا تساعد على هذا فلا نعلم أحدا قال: الغاسقُ القمرُ في حال خسوفه وأيضا فإن الوقوب لا يقول أحد من أهل اللغة: إنه الخسوف وإنما هو الدخول من قولهم: وقبت العين إذا غارت ومنه: الوقب للثقب الذي يدخل فيه المحور وتقول العرب: وقب يقب وقوبا إذا دخل) اهـ.

القاعدة العشرون: إذا وقع اللفظان في القرآن متقابلان وهو كثير فهو دليل على أنهما متغايران [42] .

وقد ضرب ابن القيم رحمه الله مثلا لذلك في تفسيره لقوله: (من الجنة والناس) فقال: (لا يلزم من إطلاق اسم الرجل على الجني أن يطلق عليه اسم الناس وذلك لأن الناس والجنة متقابلان وكذلك الإنس والجن فالله تعالى يقابل بين اللفظين كقوله: (يا معشر الجن والإنس) الرحمن ٣٣ وهو كثير في القرآن .

وكذلك قوله: (من الجنة والناس) الناس ٦ يقتضي أنهما متقابلان فلا يدخل أحدهما في الآخر بخلاف الرجال والجن فإنهما لم يستعملا متقابلين فلا يقال: الجن والرجال كما يقال: الجن والإنس وحينئذ فالآية أبين حجة عليهم في أن الجن لا يدخلون في لفظ الناس؛ لأنه قابل بين الجنة والناس فعلم أن أحدهما لا يدخل في الآخر فالصواب القول الثاني وهو أن قوله: (من الجنة والناس) بيان للذي يوسوس وأنهما نوعان: إنس وجن فالجني يوسوس في صدور الإنس والإنسي أيضا يوسوس إلى الإنسي فالموسوس نوعان: إنس وجن فإن الوسوسة هي: الإلقاء الخفي في القلب وهذا مشترك بين الجن والإنس وإن كان إلقاء الإنسي ووسوسته إنما هي بواسطة الأذن والجني لا يحتاج إلى تلك الواسطة؛ لأنه يدخل في ابن آدم ويجري منه مجرى الدم.) اهـ.

القاعدة الحادية والعشرون: أكثر ألفاظ القرآن الدالة على معنيين فصاعدا هي من استعماله في حقيقته الواحدة المتضمنة للأمرين جميعا وليس من استعمال اللفظ المشترك في معنييه كليهما أو استعمال اللفظ في حقيقة ومجازه [43] .

ومثال ذلك قوله: (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل) فُسر بالزوال وفُسر الدلوك بالغروب وحُكيا قولين في كتب التفسير وليسا بقولين بل اللفظ يتناولهما معا فإن الدلوك هو: الميل ودلوك الشمس ميلها ولهذا الميل مبدأ ومنتهى فمبدأه الزوال ومنتهاه الغروب فاللفظ متناول لهما بهذا الاعتبار لا يتناول المشترك لمعنييه ولا اللفظ لحقيقته ومجازه.

ومثاله أيضا ما تقدم من تفسير الغاسق بالليل والقمر وأن ذلك ليس باختلاف بل يتناولهما لتلازمهما فإن القمر آية الليل ونظائره كثيرة .

ومن ذلك: قوله عز وجل: (قل ما يعبأبكم ربي لولا دعاؤكم) قيل: لولا دعاؤكم إياه وقيل: دعاؤه إياكم إلى عبادته فيكون المصدر مضافا إلى المفعول وعلى الأول مضافا إلى الفاعل وهو الأرجح من القولين وعلى هذا فالمراد به نوعا الدعاء وهو في دعاء العبادة أظهر أي: ما يعبأ بكم ربي لولا أنكم تعبدونه وعبادته تستلزم مسألته فالنوعان داخلان فيه .

ومن ذلك: قوله تعالى: (وقال ربكم ادعوني أستحب لكم) فالدعاء يتضمن النوعين وهو في دعاء العبادة أظهر ولهذا عقبة بقوله: (إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) الدعاء هو العبادة فسر الدعاء في الآية بهذا وهذا وقد روى سفيان عن منصور عن ذر عن يُسيع الكندي عن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله يقول على المنبر: (إن الدعاء هو العبادة) ثم قرأ: (ادعوني أستحب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين)) رواه الترمذي [44] وقال: حديث حسن صحيح.

القاعدة الثانية والعشرون: لا يجوز أن يحمل كلام الله عز وجل ويفسر بمجرد الاحتمال النحوى الإعرابي الذي يحتمله تركيب الكلام ويكون الكلام به له معنًى ما [45] .

قال ابن القيم رحمه الله: (وهذا أمر ينبغي أن يتفطن له وهو مقام غلط فيه أكثر المعربين للقرآن فإنهم يفسرون الآية ويعربونها بما يحتمله تركيب تلك الجملة ويفهم من ذلك التركيب أي معنًى اتفق وهذا غلط عظيم يقطع السامع بأن مراد القرآن غيره وإن احتمل ذلك التركيب هذا المعنى في سياق آخر وكلام آخر فإنه لا يلزم أن يحتمله القرآن .

مثل قول بعضهم في قراءة من قرأ: (والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا) بالجر: أنه قَسَم ؟!

ومثل قول بعضهم في قوله تعالى: (وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام): إن المسجد مجرور بالعطف على الضمير المجرور في به ؟!

ومثل قول بعضهم في قوله تعالى: (لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما انزل من قبلك والمقيمين الصلاة): إن (المقيمين) مجرور بواو القسم ؟!

ونظائر ذلك أضعاف أضعاف ما ذكرنا وأوهى بكثير بل للقرآن عرف خاص ومعان معهودة لا يناسبه تفسيره بغيرها ولا يجوز تفسيره بغير عرفة والمعهود من معانية فإن نسبة معانية إلى المعاني كنسبة ألفاظه إلى الألفاظ بل أعظم فكما أن ألفاظه ملوك الألفاظ وأجلها وأفصحها ولها من الفصاحة أعلى مراتبها التي يعجز عنها قدر العالمين فكذلك معانية أجل المعاني وأعظمها وأفخمها فلا يجوز تفسيره بغيرها من المعاني التي لا تليق به بل غيرها أعظم منها وأجل وأفخم فلا يجوز حمله على المعاني القاصرة بمجرد الاحتمال النحوي الإعرابي فتدبر هذه القاعدة ولتكن منك على بال فإنك تنتفع بها في معرفة ضعف كثير من أقوال المفسرين وزيفها وتقطع أنها ليست مراد المتكلم تعالى بكلامه) اهـ بتصرف.

القاعدة الثالثة والعشرون: من شأن براهين القرآن أنها إذا أبرزت في أي صورة ظهرت في غاية الصحة والبيان [46]

ذكر ابن القيم هذه القاعدة عند شرحه لقوله تعالى: (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنه الله على الكافرين) البقرة ٨٩

قال: (فهذه حجة أخرى على اليهود في تكذيبهم بمحمد فإنهم كانوا يحاربون جيرانهم من العرب في الجاهلية ويستنصرون عليهم بالنبي قبل ظهوره فيفتح لهم وينصرون فلما ظهر النبي كفروا به وجحدوا نبوته فاستفتاحهم به وجحد نبوته مما لا يجتمعان فإن كان استفتاحهم به لأنه نبي كان جحد نبوته محالا وإن كان جحد نبوته كما يزعمون حقا كان استفتاحهم به باطلا فإن كان استفتاحهم به حقا فنبوته حق وإن كانت نبوته كما يقولون باطلا فاستفتاحهم به باطل وهذا مما لا جواب لأعدائه عنه البتة ويمكن تقريرها على صورة عديد..) .

وذكر عشر صور في الاحتجاج ثم قال: (والمادة الحق يمكن إبرازها في الصورة المتعددة وفي أي قالب أفرغت وصورة أبرزت ظهرت صحيحة وهذا شأن مواد براهين القرآن في أي صورة أبرزتها ظهرت في غاية الصحة والبيان والحمد لله المان بالهدى على عباده المؤمنين) اهـ.

القاعدة الرابعة والعشرون: الحجة في كتاب الله يراد بها نوعان؛ أحدهما: الحجة الحق الصحيحة والثانية: مطلق الاحتجاج بحق أو بباطل [47] .

مثال الأولى: قوله: (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه) وقوله: (قل فلله الحجة البالغة) .

ومثال الثانية: قوله: (فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله) وقوله: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم إلا ان قالوا ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين) وقوله: (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه) وقوله: (والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم) .

والظن أن الحجة في كتاب الله لا ترد إلا في الحجة الصحيحة الحق = جعل أكثر الناس يقولون: إن الاستثناء في قوله: (إلا الذين ظلموا منهم) منقطع ووجهه: أن الظالم لا حجة له فاستثناؤه مما ذكر قبله منقطع وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية [48]: ليس الاستثناء بمنقطع بل هو متصل على بابه وإنما أوجب لهم أن حكموا بانقطاعه ما ذكرناه من الظن السابق .

وهذا آخر ما أمكن استخراجه من القواعد التفسيرية من كتاب (بدائع الفوائد) للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى وليس بآخر ما يمكن .

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


(١) مجموع الفتاوى: ١٩ / ٢٠٣

(2) وذلك مثل: قاعد التفسير للفخر ابن تيمية، والتيسير في قاعد علم التفسير للكافيجي وأصول التفسير لابن تيمية وغيره

(3) الذيل على طبقات الحنابلة: ٢ / ٤٤٨ وانظر: الشذرات: ٣ / ١٦٨ وطبقات المفسرين: ٢ / ٩٣

(4) تشمل أيضا قواعد الترجيح

(5) بدائع الفوائد: ١ / ٧٨ـ٨٠ ط عالم الفوائد و: ١ / ٤٥ ٤٦ ط المنيرية

(6) البدائع: ١ / ١٠٧ـ١٤٢ ط ع و: ١ / ٦١ ٨١ ط م

(7) تعليق ابن القيم هنا هو على الإمام أبي القاسم السهيلي الأندلسي فقد ذكر الوجه المتقدم في كتابه (نتائج الفكر): ص / ٢٦٠

(8) أخرجه ابن جرير: ٩ / ١٣٥ ١٣٦ وابن أبي حاتم: ٨ / ٢٤٨٨

(9) البدائع: ١ / ١٢٨ ط ع و: ١ / ٧٣ ط م

(10) المصدر نفسه: ! / ١٩٩ ٢٠٦ ط ع و: ١/ ١١٤ ١١٧ ط م

(11) في نسخة: البعد والمثبت أصح

(12) البدائع: ١ / ٢٠٦٢٠٨ ط ع و: ١ / ١١٨ ١١٩ ط م

(13) انظر لهذه الثلاث: البدائع: ١ / ٢٠٨٢١١ ط ع و: ١ / ١١٩١٢٠ ط م.

(14) السابق: ١ / ٢١١٢١٥ ط ع و: ١ / ١٢١١٢٣ ط م

(15) السابق: ١ / ٣٦٠٣٦١ ط ع و: ١ / ٢٠٨ ط م

(16) البداائع: ٣ / ٨٨١٨٨٢ ط ع و: ٣ / ٣٠ ٣١ ط م

(17) البدائع: ١ / ٣٦٥ ط ع و: ١ / ٢١١ ط م

(18) أخرجه البخاري رقم (١٤٦٨) ومسلم رقم (٢٤٧٩)

(19) البدائع: ١ / ٣٦٧ ٣٧٢ ط ع و: ١ / ٢١٢ ٢١٥ ط م

(20) البدائع: ٢ / ٤١١ ط ع و: ٢ / ١٢ ط م

(21) أخرجه البخاري رقم (١١٢٠) ومسلم رقم (٧٦٩)

(22) البدائع: ٢ / ٤١٤٤١٦ ط ع و: ٢ / ١٤ ١٥ ط م

(23) البدائع: ٢ / ٤٢٠٤٢١ ٧٢٤ ٧٢٥ ط ع و: ٢ / ١٨ ١٩ ٢١٤ ٢١٥ ط م

(24) ٢ / ٧٢٤٧٢٥ ط ع و: ٢ / ٢١٤ ٢١٥ ط م

(25) البدائع: ٢ / ٤٢٣٤٢٥ طع و: ٢ / ٢٠ ٢١ ط م

(26) البدائع: ٢ / ٤٥٢٤٥٣ ط ع و: ٢ / ٤٠ ٤١ ط م

(27) ٢ / ٧٢٨٧٣١ ٧٥٢٧٥٤ ط ع و: ٢ / ٢١٦ ٢١٨ ٢٣١ ٢٣٢ ط م

(28) أخرجه الترمذي رقم (٣٣٦٦) وأحمد: ٦ /٦١ والحاكم: ٢ /٥٤٠ والحديث صححه الترمذي والحاكم وحسنه الحافظ فب الفتح: ٨ / ٦١٣

(29) أخرجه مسلم رقم (١٣٩٨)

(30) أخرجه أحمد: ٢٨ / ١٩٥ وابن حبان: ١٥ / ٤٣٢

(31) أخرجه البخاري رقم (١٤٧٦) ومسلم رقم (١٠٣٩)

(32) أخرجه البخاري رقم (٦١١٤) ومسلم رقم (٢٦٠٩)

(33) البدائع: ٢ / ٤٥٩٤٦٠ ط ع و: ٢ / ٤٤ ٤٥ ط م

(34) البدائع: ٢ / ٦٢٨ ٧٤٨ ط ع و: ٢ / ١٥١ ٢٢٨ ٢٢٩ ط م

(35) مجموع الفتاوى: ١٦ / ٥٣٧

(36) انظر: البحر المحيط: ١ / ٤٦٠ للزركشي

(37) البدائع: ٢ / ٦٥٨٦٥٩ طع و: ٢ ١٧١ ١٧٢ طم ز

(38) البدائع: ٢ / ٦٨٠٦٨١ ط ع و: ٢ /١٨٥ ١٨٦ ط م

(39) البدائع: ٢ / ٦٩١٦٩٢ ط ع و: ٢ /١٩٣ ط م

(40) البدائع: ٢ /٧٣١٧٣٢ ط ع و: ٢ / ٢١٨ ط م

(41) تقدم تخريجه

(42) السابق: ٢ / ٨٠٧٨٠٨ ط ع و: ٢ / ٢٦٥ ٢٦٦ ط م

(43) البدائع: ٣ / ٨٣٦٨٣٨ طع و: ٣ / ٣ ٤ ط م

(44) رقم (٢٩٦٩) وأبو داود رقم (١٤٧٩) وصححه ابن حبان والحاكم

(45) البدائع: ٣ / ٨٧٦٨٧٧ ط ع و: ٣ / ٢٧ ٢٨ طم

(46) البدائع: ٤ / ١٥٦٦ ط ع و: ٤ / ١٤٨ ط م

(47) البدائع: ٤ / ١٦٠٩ طع و: ٤ / ١٧٣ ط م

(48) انظر: الجواب الصحيح: ٣ / ٦٨ ٧٢

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله