سلسلة الفوائد المنتقاة من كتب ابن القيم: الطب وحفظ الصحة

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فهذه فوائد في الطب وحفظ الصحة انتقيتها من كتاب زاد المعاد في هدي خير العباد ﷺ، وقد آثرت أن تكون مختصرة بقدرٍ تحصل معه الفائدة. وأسأل الله عز وجل أن ينفع بها الجميع.

 *نايف بن علي العوفي

العَشاء بلا إفراط ولا تفريط:

وكان ﷺ يأمر بالعَشاء، ولو بكفٍّ من تمر، ويقول: "ترك العشاء مهرمة" ذكره الترمذي في جامعه وابن ماجه في سننه.

وذكر أبو نعيم عنه أنه: "كان ينهى عن النوم على الأكل، ويذكر أنه يقسي القلب".

ولهذا في وصايا الأطباء لمن أراد حفظ الصحة أن يمشي بعد العشاء خطوات ولو مائة خطوة، ولا ينام عقبه، فإنه مضر جدا، وقال مسلموهم: أو يصلي عقيبه ليستقر الغذاء بقعر المعدة، فيسهل هضمه، ويجود بذلك. (٤/ ٢٠٥)

 

وينبغي أن لا يداوم على أكل اللحم، فإنه يورث الأمراض الدموية والامتلائية، والحميات الحادة، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إياكم واللحم فإن له ضراوة كضراوة الخمر) ذكره مالك في الموطأ عنه، وقال أبقراط: لا تجعلوا أجوافكم مقبرة للحيوان. (٤/ ٣٥٢)

 

ويذكر عن القاسم بن عبد الرحمن، أنه قال: قال رسول الله ﷺ: "استشفوا بالحِلبة".

وقال بعض الأطباء: لو علم الناس منافعها لاشتروها بوزنها ذهبا. (٤/ ٢٧٨)

وينبغي تجنب شرب الماء المثلوج عقيب الحمام والجماع والرياضة والطعام الحار، ولأصحاب السعال، ووجع الصدر، وضعف الكبد، وأصحاب الأمزجة الباردة. (٤/ ٣٥٩)

 

والماء العذب نافع للمرضى والأصحاء والبارد منه أنفع وألذ، ولا ينبغي شربه على الريق، ولا عقيب الجماع ولا الانتباه من النوم، ولا عقيب الحمام ولا عقيب أكل الفاكهة وقد تقدم.

وأما على الطعام، فلا بأس به إذا اضطر إليه بل يتعين ولا يكثر منه بل يتمصصه مصا، فإنه لا يضره البتة بل يقوي المعدة، وينهض الشهوة ويزيل العطش. (٤/ ٣٨٥)

 

ولم يكن يأكل طعامًا في وقت شدَّة حرارته، ولا طبيخًا بائتًا يسخَّن له بالغد، ولا شيئًا من الأطعمة العَفِنة والمالحة كالكواميخ* والمخلَّلات والملوحات. وكلُّ هذه الأنواع ضارٌّ مولِّدٌ لأنواعٍ من الخروج عن الصِّحَّة والاعتدال.

*الكواميخ: نوع من أنواع الأُدُم. (٤/ ٣١٩)

 

من هدي النبي ﷺ في الطعام والشراب:

ولم يكن من هديه ﷺ أن يشرب على طعامه فيفسده، ولا سيما إن كان الماء حارا أو باردا، فإنه ردي جدا. قال الشاعر:

لا تكن عند أكل سخن وبرد *** ودخول الحمام تشرب ماء

فإذا ما اجتنبت ذلك حقا *** لم تخف ما حييت في الجوف داء

 (٤/ ٣٢٢)

 

وفي الصَّحيح أنَّه قال في مرض موته: "وارأساه". وكان يعصِبُ رأسه في مرضه، وعصبُ الرَّأس ينفع في وجع الشَّقيقة وغيرها من أوجاع الرَّأس. (٤/ ١٢١)

 

فأما المطعم والمشرب، فلم يكن من عادته ﷺ حبس النفس على نوع واحد من الأغذية، لا يتعداه إلى ما سواه، فإن ذلك يضر بالطبيعة جدا وقد يتعذر عليها أحيانا. فإن لم يتناول غيره ضعف أو هلك، وإن تناول غيره لم تقبله الطبيعة واستضر به. فقصرها على نوع واحد دائما، ولو أنه أفضل الأغذية، خطر مضر.

بل كان يأكل ما جرت عادة أهل بلده بأكله، من اللحم والفاكهة والخبز والتمر وغيره مما ذكرناه في هديه في المأكول. (٤/ ٣١١)

 

الحِمية من أنفع الأدوية:

وقال زيد بن أسلم: حَمى عمر مريضا له حتى إنه من شدة ما حَمَاه كان يمص النّوى. وبالجملة: فالحمية من أكبر الأدوية قبل الداء، فتمنع حصوله. وإذا حصل فتمنع تزايده وانتشاره. (٤/ ١٤٨)

*الحِمية: الامتناع أو الإقلال من الطعام ونحوه مما يضر المريض وغيره.

 

ومن أنفع علاجات السِّحر: الأدوية الإلهيَّة. بل هي أدويته النَّافعة بالذَّات، فإنَّه من تأثيرات الأرواح الخبيثة السُّفليَّة، ودفعُ تأثيرها يكون بما يعارضها ويقاومها من الأذكار والآيات والدَّعوات الَّتي تُبطل فعلها وتأثيرها، وكلَّما كانت أقوى وأشدَّ كانت أبلغ في النُّشرة، وذلك بمنزلة التقاء جيشين مع كلٍّ منهما عُدَّته وسلاحه، فأيُّهما غلب الآخرَ قهَرَه، وكان الحكم له. (٤/ ١٨٢)

 

وكان علاجه صلى الله عليه وسلم للمرض ثلاثة أنواعٍ:

أحدها: بالأدوية الطَّبيعيَّة.

والثَّاني: بالأدوية الإلهيَّة.

والثَّالث: بالمركَّب من الأمرين. (٤/ ٢٨)

 

‌‌دُهْن: روى الترمذي في كتاب «الشَّمائل» من حديث أنس بن مالكٍ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكثِر دهنَ رأسه وتسريحَ لحيته، ويُكثر القناع، كأنَّ ثوبه ثوب زيَّاتٍ.

الدُّهن يسدُّ مسامَّ البدن، ويمنع ما يتحلَّل منه. وإذا استعمل بعد الاغتسال بالماء الحارِّ حسَّن البدن ورطَّبه. وإن دُهِن به الشَّعر حسَّنه وطوَّله، ونفع من الحصَّة، ودفعَ أكثر الآفات عنه.

وفي «الترمذي» من حديث أبي هريرة مرفوعًا: «كلُوا الزَّيت، وادَّهِنوا به». وسيأتي إن شاء الله.

والدُّهن في البلاد الحارَّة كالحجاز ونحوه من آكد أسباب حفظ الصِّحَّة وإصلاح البدن، وهو كالضَّروريِّ لهم. وأمَّا البلاد الباردة فلا يحتاج إليه أهلها. (٤/ ٤٤٩)

 

ومن تدبر أغذيته صلى الله عليه وسلم وما كان يأكله، وجده لم يجمع قط بين لبن وسمك، ولا بين لبن وحامض، ولا بين غذاءين حارين، ولا باردين، ولا لزجين، ولا قابضين، ولا مسهلين، ولا غليظين، ولا مرخيين، ولا مستحيلين إلى خلط واحد، ولا بين مختلفين كقابض ومسهل، وسريع الهضم وبطيئه، ولا بين شوي وطبيخ، ولا بين طري وقديد، ولا بين لبن وبيض، ولا بين لحم ولبن، ولم يكن يأكل طعاما في وقت شدة حرارته، ولا طبيخا بائتا يسخن له بالغد، ولا شيئا من الأطعمة العفنة والمالحة، كالكوامخ والمخللات، والملوحات، وكل هذه الأنواع ضار مولد لأنواع من الخروج عن الصحة والاعتدال.

وكان يُصلح ضرر بعض الأغذية ببعض إذا وجد إليه سبيلا، فيكسر حرارة هذا ببرودة هذا، ويبوسة هذا برطوبة هذا، كما فعل في القثاء والرطب، وكما كان يأكل التمر بالسمن، وهو الحيس، ويشرب نقيع التمر يلطف به كيموسات الأغذية الشديدة. (٤/ ٢٠٥)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله