وقوله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى: «إني خلقتُ عبادي حنفاء، فاجتالتهم الشياطين، وحرّمتْ عليهم ما أحللتُ لهم»، يتضمن أصلين عظيمين مقصودين لأنفسهما، ووسيلة تعين عليهما:
أحدهما: عبادته وحده لا شريك له.
والثاني: أنه إنما يُعبد بما شرعه وأحبَّه وأمر به.
وهذان الأصلان هما المقصود الذي خُلِق له الخلق، وضدهما الشرك والبدع، فالمشرك يعبد مع الله غيره، وصاحب البدعة يتقرّب إلى الله بما لم يأمر به ولم يشرعه ولا أحبه.
وجعل سبحانه حِلّ الطيبات مما يُستعان به على ذلك، ويُتَوسّل به إليه.
فمدار الدين على هذين الأصلين وهذه الوسيلة.
فأخبر سبحانه أن الشياطين اقتطعت عباده عن هذا المقصود، وعن هذه الوسيلة؛ فأمرتهم أن يشركوا به ما لم ينزل به سلطانًا، وهذا يتناول الإشراك بالمعبود الحق، بأن يُعبد معه غيره، والإشراك بعبادته الحقّة، بأن يُعبد بغير شرعه.
وكثيرًا ما يجتمع الشركان: فيَعبد المشركُ معه غيره بعبادة لم يشرع سبحانه أن يتعبّد له بها، وقد ينفرد أحد المشركين فيشرك به غيره في نفس العبادة التي شرعها، أو يعبده وحده بعبادة شركية لم يشرعها، أو يتوسّل إلى عبادته بتحريم ما أحله.
وقد ذمّ الله سبحانه المشركين على هذين النوعين في كتابه في سورة الأنعام والأعراف وغيرهما، يذكر فيها ذمّهم على ما حرموه من المطاعم والملابس، وذمّهم على ما أشركوا به من عبادة غيره، أو على ما ابتدعوه من عبادته بما لم يشرعه.
وفي «المسند»: «أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة»، فهي حنيفية في التوحيد وعدم الشرك، سمحة في العمل وعدم الآصار والأغلال، بتحريم كثير من الطيبات الحلال.
فيُعبَد سبحانه بما أحبَّه، ويُستعان على عبادته بما أحلّه، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51].
وهذا هو الذي فطر الله عليه خلقه، وهو محبوب لكل أحد، مستقر سنته في كل فطرة، فإنه يتضمن التوحيد وإخلاص القصد والحب لله وحده، وعبادته وحده بما يحب أن يُعبد به، والأمر بالمعروف الذي تحبّه القلوب، والنهي عن المنكر الذي تبغضه وتنفر منه، وتحليل الطيبات النافعة، وتحريم الخبائث الضارة.
شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل - ط عطاءات العلم (2/ 452 - 454)