قوله: «وأيّ حكمة في تسليط أعدائه على أوليائه يسومونهم سوء العذاب؟»
فكم لله في ذلك من حِكَم باهرة:
منها: حصول محبوبه من عبودية الصبر والجهاد وتحمّل الأذى فيه، والرضا عنه في السراء والضراء، والثبات على عبوديته، وطاعته مع قوة المعارِض وغلبته وشوكته، وتمحيص أوليائه من أحكام البشرية ودواعي الطباع ببذل نفوسهم له، وأذى أعدائه لهم، وتميّز الصادق من الكاذب، ومَن يريد الله ويعبده على جميع الحالات ممن يعبده على حرف، ولتحصل لهم مرتبة الشهادة التي هي من أعلى المراتب، ولا شيء أبرّ عند الحبيب من بذل محبة نفسه في مرضاته، ومجاهدة عدوّه.
فلله كم في هذا التسليط من نعمة ورحمة وحكمة.
وإذا شئت أن تعلم ذلك فتأمل الآيات من أواخر آل عمران من قوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} إلى قوله: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} إلى قوله: {كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 137 - 179]، فكان هذا التمييز من بعض حِكَم ذلك التسليط.
ولولا ذلك التسليط لم تظهر فضيلة الصبر والعفو والحلم وكظم الغيظ.
ولا حلاوة النصر والظفر والقهر؛ فإن الأشياء يَظهر حُسْنُها بأضدادها، ولولا ذلك التسليط لم يستوجب الأعداء المَحْق والإهانة والكَبْت.
فاستخرج ذلك التسليط من القوة إلى الفعل ما عند أوليائه؛ فاستحقوا كرامتهم عليه، وما عند أعدائه؛ فاستحقوا عقوبتهم عليه، فكان هذا التسليط مما أظهر حكمته وعزته ورحمته ونعمته في الفريقين، وهو العزيز الحكيم.
شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل - ط عطاءات العلم (2/ 333 - 334)