الواجب الذي لا يتمُّ الإيمانُ بل لا يَحصُلُ مسمَّى الإيمان إلا به مقابلةُ النصوص بالتَّلقِّي والقبول، والإظهار لها، ودعوة الخلق إليها، لا تُقَابَل بالإعراض تارةً، وباللَّيِّ أخرى. قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}؛ فدَلّ هذا على أنه إذا ثبت لله ولرسوله في كل مسألة من المسائل حُكْمٌ طلبيٌّ أو خبريٌّ، فإنه ليس لأحد أن يَتَخَيَّر لنفسه غير ذلك الحكم فيذهب إليه، وأن ذلك ليس لمؤمن ولا مؤمنة أصلًا، فدلَّ على أن ذلك مُنافٍ للإيمان.
وقد حكى الشافعي - رضي الله عنه - إجماعَ الصحابةِ والتابعين ومَن بعدهم على أنّ من استبانت له سنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن له أن يَدَعَها لقول أحد.
ولا يستريب أحدٌ من أئمة الإسلام في صحَّة ما قال الشافعي - رضي الله عنه -. فإن الحجَّةَ الواجبَ اتباعُها على الخلق كافّةً إنما هو قول المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، وأما أقوال غيره فغايتها أن تكون سائغةَ الاتباع لا واجبةَ الاتباع، فضلًا عن أن تُعارَضَ بها النصوصُ، وتُقَدَّمَ عليها، عياذًا بالله من الخذلان.
وقال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}، فأخبر سبحانه أن الهداية إنما هي في طاعة الرسول لا في غيرها، فإنه معلَّق بالشرط؛ فينتفي بانتفائه، وليس هذا من باب دلالة المفهوم، كما يَغْلَطُ فيه كثير من الناس، ويظن أنه يحتاج في تقرير الدلالة منه إلى تقرير كون المفهوم حجة، بل هذا من الأحكام التي رُتِّبَتْ على شروط وعُلِّقتْ، فلا وجودَ لها بدون شروطها، إذ ما عُلِّقَ على الشرط فهو عدم عند عدمه؛ وإلا لم يكن شرطًا له. إذا ثبت هذا فالآية نصٌّ على انتفاء الهداية عند عدم طاعته.
وفي إعادة الفعل في قوله: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} دونَ الاكتفاء بالفعل الأول سرٌّ لطيف وفائدةٌ جليلة، سنذكرها عن قُربٍ إن شاء الله تعالى.
وقوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ}، الفعل للمخاطبين وأصله: تتولوا، فحذفت إحدى التاءين تخفيفًا. والمعنى: أنه قد حُمِّلَ أداءَ الرسالة وتبليغَها، وحُمّلتم طاعتَه والانقيادَ له والتسليمَ؛ كما ذكر البخاري في "صحيحه" عن الزهري قال: "من الله البيان، وعلى رسولِه البلاغ، وعلينا التسليم".
فإن تركتم أنتم ما حُمِّلْتُموه من الإيمان والطاعة، فعليكم لا عليه؛ فإنه لم يُحَمَّلْ طاعتَكُم وإيمانَكُم، وإنما حُمِّلَ تبليغَكم وأداءَ الرسالةِ إليكم. فإن تطيعوه فهو حظُّكم وسعادتُكم وهدايتُكم، وإن لم تطيعوه فقد أدَّى ما حُمِّل، وما على الرسول إلا البلاغ المبين، ليس عليه هداكم وتوفيقكم.
الرسالة التبوكية = زاد المهاجر إلى ربه - ط عطاءات العلم (1/ 39 - 41)