والعبد مفتقر إلى الهداية في كل لحظةٍ وَنَفَسٍ، في جميع ما يأتيه ويذره، فإنَّه بين أمور لا ينفكُّ عنها:
أحدُهَا أمور قد أتاها على غير وجه الهداية جهلًا، فهو محتاج إلى أن يطلب الهداية إلى الحق فيها.
أو يكون عارفًا بالهداية فيها، فأتاها على غير وجهها عمدًا، فهو محتاج إلى التوبة منها.
أو أمور لم يعرف وجه الهداية فيها علمًا ولا عملًا، ففاتته الهداية إلى علمها ومعرفتها، وإلى قصدها وإرادتها وعملها.
أو أمور قد هُدِي إليها من وجه دون وجه، فهو محتاج إلى تمام الهداية فيها.
أو أمور قد هُدِي إلى أصلها دون تفاصيلها، فهو محتاج إلى هداية التفصيل.
أو طريق قد هُدِي إليها، وهو محتاج إلى هداية أخرى فيها، فالهداية إلى الطريق شيءٌ والهداية في نفس الطريق شيءٌ آخر، ألا ترى أن الرجل يعرف أنَّ طريق البلد الفُلاني هو طريق كذا وكذا، ولكن لا يحسن أن يسلكه، فإن سلوكه يحتاج إلى هداية خاصة في نفس السلوك، كالسير في وقت كذا دون وقت كذا، وأخذ الماء في مفازة كذا مقدار كذا، والنزول في موضع كذا دون كذا، فهذه هداية في نفس السير قد يهملها من هو عارف بأن الطريق هي هذه، فيهلك وينقطع عن المقصود.
وكذلك أيضًا ثمَّ أمورٌ هو محتاج إلى أن يحصل له فيها من الهداية في المستقبل مثل ما حصل له في الماضي.
وأمور هو خال عن اعتقاد حق أو باطل فيها، فهو محتاج إلى هداية الصواب فيها.
وأمور يعتقد أنَّه فيها على هُدى وهو على ضلالة ولا يشعر، فهو محتاج إلى انتقاله عن ذلك الاعتقاد بهدايةٍ من الله.
وأمور قد فعلها على وجه الهداية، وهو محتاج إلى أن يَهدِيَ غيره إليها ويرشده وينصحه، فإهماله ذلك يُفوِّت عليه من الهداية بحسبه كما أن هدايته للغير وتعليمه ونصحه يفتح له باب الهداية، فإنَّ الجزاء من جنس العمل، فكلما هَدَى غيره وعلمه هداه الله وعلمه فيصير هاديًا مهديًا، كما في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي رواه الترمذي وغيره: "اللهم زَيِّنا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مُضلِّين، سلمًا لأوليائك، حربًا لأعدائك، نُحب بحبك من أحبك، ونعادي بعداوتك من خالفك ".
رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه - ط عطاءات العلم (1/ 6 - 10)