فرَّق الشَّارعُ بين أيّام رمضان نفسها وبين أيّام القضاء، فجعَل أيَّامَ رمضان محدودةَ الطَّرَفين لا يجوز تقديمها ولا تأخيرها، وأطلق أيّام قضائه فقال سبحانه: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة: 183 - 184]، فأطلق العدَّةَ ولم يوقِّتها. وهذا يدلُّ على أنّها تجزئ في أيِّ أيّامٍ كانت، ولم يجئ نصٌّ عن الله تعالى ولا عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا إجماعٌ على تقييدها بأيّامٍ لا تجزئ في غيرها. وليس في الباب إلّا حديثُ عائشة - رضي الله عنها -: كان يكون عليَّ الصَّومُ من رمضان، فلا أقضيه إلَّا في شعبان. الشُّغلُ برسول الله صلى الله عليه وسلم. ومعلومٌ أنَّ هذا ليس صريحًا في التَّوقيت بما بين الرَّمضانين كتوقيت أيَّام رمضان بما بين الهلالين، فاعتبارُ أحدهما بالآخر ممتنعٌ وجمعٌ بين ما فرَّق الله بينهما، فإنَّه جعَلَ أيّامَ رمضان محدودةً بحدٍّ لا تتقدَّم عنه ولا تتأخَّر، وأطلَق أيّامَ القضاء وأكَّد إطلاقها بقوله: (أُخَرَ)، وأفتى من أفتى من الصَّحابة بالإطعام لمن أخَّرها إلى رمضان آخر جبرًا لزيادة التّأخير عن المدَّة التي بين الرَّمضانين، ولا تخرج بذلك عن كونها قضاءً بل هي قضاءٌ، وإن فُعِلت بعد رمضان آخر فحكمُها في القضاء قبلَ رمضان وبعدَه واحدٌ بخلاف أيّام رمضان.
يوضِّح هذا: أنَّه لو أفطر يومًا من أيّام رمضان عمدًا بغير عذرٍ لم يتمكَّن أن يقيم مقامَه يومًا آخر مثلَه البتّة. ولو أفطر يومًا من أيّام القضاء قام اليومُ الذي بعده مقامه. وسرُّ الفرق: أنَّ المعذور لم يتعيَّن في حقِّه أيّامُ القضاء بل هو مخيَّرٌ فيها، وأيُّ يومٍ صامه قام مقام الآخر. وأمَّا غيرُ المعذور، فأيّامُ الوجوب متعيِّنةٌ في حقِّه لا يقوم غيرُها مقامَها.
مدارج السالكين (1/ 587 - 588 ط عطاءات العلم)