غاية ما ينتهي إليه من ادَّعى معارضة العقل للوحي أحد أمورٍ أربعةٍ

غاية ما ينتهي إليه من ادَّعى معارضة العقل للوحي أحد أمورٍ أربعةٍ لا بد له منها:

إمَّا تكذيبها وجحدها وإمَّا اعتقاد أن الرُّسل خاطبوا الخلق بها خطابًا جمهوريًّا لا حقيقة له، وإنما أرادوا منهم التخييل وضرب الأمثال.

وإمَّا اعتقاد أن المراد تأويلها وصرفها عن حقائقها وما تدل عليه إلى المجازات والاستعارات.

وإمَّا الإعراض عنها وعن فهمها وتدبرها، واعتقاد أنه لا يعلم ما أريد بها إلَّا الله.

فهذه أربع مقامات، وقد ذهب إلى كل مقامٍ منها طوائف من بني آدم.

المقام الأول: مقام التكذيب والجحد. وهؤلاء استراحوا من كُلفة النصوص والوقوع في التجسيم والتشبيه، وخلعوا رِبْقَة الإيمان من أعناقهم، وقالوا لسائر الطوائف: منكم إلى هذه النصوص، وأمَّا نحن فلسنا منها في شيءٍ؛ لأن عقولنا لمَّا عارضتها دفعنا في صدر من جاء بها، وقابلناه بالتكذيب.

المقام الثَّاني: مقام أهل التخييل. قالوا: إن الرُّسل لم يمكنهم مخاطبة الخلق بالحقِّ في نفس الأمر، فخاطبوهم بما يُخيل إليهم، وضربوا لهم الأمثال، وعبروا عن المعاني المعقولة بالأمور القريبة من الحسِّ، وسلكوا ذلك في باب الإخبار عن الله وأسمائه وصفاته واليوم الآخر، وأقرُّوا باب الطلب على حقيقته. ومنهم من سلك هذا المسلك في الطلب أيضًا، وجعل الأمر والنهي أمثالًا وإشاراتٍ ورموزًا. فهم ثلاث فرقٍ، هذه إحداها.

والثَّانية: سلكت ذلك في الخبر دون الأمر.

والثَّالثة: سلكت ذلك في الخبر عن الله وصفاته دون المعاد والجنة والنَّار.

وذلك كله إلحادٌ في أسماء الربِّ وصفاته ودينه واليوم الآخر، والملحد لا يتمكن من الردِّ على الملحد وقد وافقه في الأصل، وإن خالفه في فروعه. فلهذا استطال على هؤلاء الملاحدةُ كابن سينا وأتباعه غاية الاستطالة، وقالوا: القول في نصوص المعاد كالقول في نصوص الصفات. قالوا بل الأمر فيها أسهل من نصوص الصِّفات؛ لكثرتها وتنوُّعها وتعدُّد طرقها، وإثباتها على وجه يتعذر معه التأويل، فإذا كان الخطاب بها خطابًا جمهوريًّا فنصوص المعاد أولى.

قال: فإن قلتم نصوص الصِّفات قد عارضها ما يدل على انتفائها من العقل. قلنا: ونصوص المعاد قد عارضها من العقل ما يدل على انتفائه. ثم ذكر العقليات المعارضة للمعاد بما يعلم به العاقل أن العقليات المعارضة للصفات من جنسها أو أضعف منها.

المقام الثَّالث: مقام أهل التأويل، قالوا: لم يُرد منَّا اعتقاد حقائقها، وإنما أُريد منَّا تأويلها بما يخرجها عن ظاهرها وحقيقتها. فتكلفوا لها وجوه التأويلات المستكرَهة، والمجازات المستنكَرة، التي يعلم العقلاء أنها أبعد شيءٍ عن احتمال ألفاظ النصوص لها، وأنها بالتحريف أشبه منها بالتفسير.

والطَّائفتان اتفقتا على أن الرَّسول لم يُبيِّن الحقَّ للأُمة في خطابه لهم ولا أوضحه، بل خاطبهم بما ظاهره باطلٌ ومحال. ثم اختلفوا: فقال أصحاب التخييل: أراد منهم اعتقاد خلاف الحقِّ والصواب، وإن كان في ذلك مفسدة، فالمصلحة المترتبة عليه أعظم من المفسدة التي فيه. وقال أصحاب التأويل: بل أراد منَّا أن نعتقد خلاف ظاهره وحقيقته، ولم يُبيِّن لنا المراد تعريضًا لنا إلى حصول الثواب بالاجتهاد والبحث والنظر، وإعمال الفكر في معرفة الحقِّ بعقولنا، وصرف تلك الألفاظ عن حقائقها وظواهرها لننال ثواب الاجتهاد والسعي في ذلك. فالطَّائفتان متفقتان على أن ظاهر خطاب الرَّسول ضلالٌ وكفرٌ وباطلٌ، وأنه لم يُبيِّن الحقَّ، ولا هدى إليه الخلق.

المقام الرَّابع: مقام الما أدرية الذين يقولون: لا ندري معاني هذه الألفاظ، ولا ما أُريد منها، ولا ما دلت عليه. وهؤلاء ينسبون طريقتهم إلى السَّلف، وهي التي يقول المتأولون: إنها أسلم، ويحتجون عليها بقوله تعالى: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اَللَّهُ) [آل عمران: 7]. ويقولون هذا هو الوقف التَّام عند جمهور السَّلف، وهو قول أُبي بن كعبٍ وعبد الله بن مسعودٍ وعبد الله بن عباسٍ وعائشة وعروة بن الزبير، وغيرهم من السلف والخلف.

وعلى قول هؤلاء يكون الأنبياء والمرسلون لا يعلمون معاني ما أنزل الله عليهم من هذه النصوص ولا الصَّحابة ولا التَّابعون لهم بإحسانٍ، بل يقرؤون كلامًا لا يعقلون معناه.

ثم هم متناقضون أفحش تناقضٍ، فإنهم يقولون: تُجرى على ظاهرها، وتأويلها باطلٌ. ثم يقولون: لها تأويل لا يعلمه إلَّا الله.

وقول هؤلاء أيضًا باطلٌ، فإن الله سبحانه أَمَرَ بتدبُّر كتابه وتفهُّمه وتعقله، وأخبر أنه بيانٌ وهدًى وشفاءٌ لما في الصدور، وحاكمٌ بين النَّاس فيما اختلفوا فيه، ومن أعظم الاختلاف اختلافهم في باب الصِّفات والقدر والأفعال، واللفظ الذي لا يُعلم ما أراد به المتكلم لا يحصل به حكمٌ ولا هدًى ولا شفاءٌ ولا بيانٌ.

وهؤلاء طرَّقوا لأهل الإلحاد والزندقة والبدع أن يستنبطوا الحقَّ من عقولهم وآرائهم، فإن النفوس طالبة لمعرفة هذا الأمر أعظم طلبٍ، والمقتضى التَّام لذلك فيها موجودٌ، فإذا قيل لها: إن ألفاظ القرآن والسُّنَّة في ذلك لها تأويل لا يعلمه إلَّا الله، ولا يعلم أحدٌ معناها، وما أُريد بها، وما دلَّت عليه= فَرُّوا إلى عقولهم ونظرهم وآرائهم.

فسدَّ هؤلاء باب الهدى والرشاد، وفتح أولئك باب الزندقة والبدعة والإلحاد، وقالوا: قد أقررتم بأن ما جاءت به الرُّسل في هذا الباب لا يحصل منه علم بالحق ولا يهدي إليه، فهو في طريقتنا لا في طريقة الأنبياء، فإنَّا نحن نعلم ما نقوله ونثبته بالأدلة العقلية، والأنبياء لم يعلموا تأويل ما قالوه، ولا بيَّنوا مراد المتكلم به، وأصاب هؤلاء من الغلط على السمع ما أصاب أولئك من الخطأ في العقل.

وهؤلاء لم يفهموا مراد السلف بقولهم: لا يعلم تأويل المتشابه إلَّا الله. فإن التأويل في عُرْف السلف المراد به التأويل في مثل قوله تعالى: (هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ اُلَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَد جَّاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ) [الأعراف: 52] وقوله تعالى: (ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) [النساء: 58] وقول يوسف: (يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُءْيَايَ مِن قَبْلُ قَد جَّعَلَهَا رَبِّي حَقًّا) [يوسف: 100] وقول يعقوب: (وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ اِلْأَحَادِيثِ) [يوسف: 6] (وَقَالَ اَلَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَاَدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ) [يوسف: 45] وقال يوسف: (لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا) [يوسف: 37].

فتأويل الكلام الطلبي هو نفس فعل المأمور به وترك المنهي عنه كما قال ابن عُيينة: "السُّنَّة تأويل الأمر والنهي". وقالت عائشة: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في ركوعه وسجوده: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ. يتأوَّل القرآن".

وأمَّا تأويل ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر فهو نفس الحقيقة التي أخبر الله عنها، وذلك في حقِّ الله هو كُنْه ذاته وصفاته التي لا يعلمها غيره. ولهذا قال مالك وربيعة: "الاستواء معلومٌ، والكيف مجهولٌ". وكذلك قال ابن الماجشون والإمام أحمد وغيرهما من السلف: "إنَّا لا نعلم كيفية ما أخبر الله به عن نفسه، وإن كنَّا نعلم تفسيره ومعناه".

وقد فسَّر الإمام أحمد الآيات التي احتج بها الجهمية من المتشابه، وقال: إنهم تأوَّلُوها على غير تأويلها، وبيَّن معناها.

وكذلك الصَّحابة والتَّابعون فسَّروا القرآن، وعلموا المراد بآيات الصِّفات، كما علموا المراد من آيات الأمر والنهي، وإن لم يعلموا الكيفية؛ كما علموا معاني ما أخبر الله به في الجنة والنَّار، وإن لم يعلموا حقيقة كُنْهِه وكيفيته.

فمَن قال من السلف: إن تأويل المتشابه لا يعلمه إلَّا الله بهذا المعنى؛ فهو حقٌّ. وأمَّا من قال: إن التأويل الذي هو تفسيره وبيان المراد منه لا يعلمه إلَّا الله؛ فهذا غلطٌ، والصَّحابة والتَّابعون وجمهور الأمة على خلافه. قال مجاهد: "عرضت المصحف على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته أقفه عند كل آية وأسأله عنها". وقال عبد الله بن مسعود: "ما في كتاب الله آية إلَّا وأنا أعلم فيما أنزلت". وقال الحسن البصري: "ما أنزل الله آية إلَّا وهو يحب أن يُعلم ما أراد بها". وقال مسروق: "ما نسأل أصحاب محمدٍ عن شيءٍ إلَّا وعلمه في القرآن، ولكن علمنا قصر عنه". وقال الشعبي: "ما ابتدع قومٌ بدعةً إلَّا وفي كتاب الله بيانها".

والمقصود أن من ادَّعى معارضة العقل للسمع لا بد له أن يسلك أحد هذه المسالك الأربعة الباطلة، وأسلمها هذا المسلك الرَّابع، وقد علمتَ بطلانه. وإنما كان أقل بطلانًا لأنه لا يتضمن الخبر الكاذب على الله ورسوله، فإن صاحبه يقول: لا أفهم من هذه النصوص شيئًا، ولا أعرف المراد بها، وأصحاب تلك المسالك تتضمن أقوالهم تكذيب الله ورسوله، أو الإخبار عن النصوص بالتكذيب. وبالله التوفيق.


الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة - ط عطاءات العلم (1/ 564 - 572)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله