أوّل شواهد السّائر إلى الله والدّار الآخرة

فأوّل شواهد السّائر إلى الله والدّار الآخرة: أن يقوم به شاهدٌ من الدُّنيا وحقارتها، وقلّة وفائها، وكثرة جفائها، وخِسَّة شركائها، وسرعة انقضائها، ويرى أهلها وعشّاقها صَرْعى حولَها، قد بَدَّعتْ بهم، وعذَّبتْهم بأنواع العذاب، وأذاقتْهم أمرَّ الشّراب، أضحكتْهم قليلًا وأبكَتْهم طويلًا، سَقَتْهم كؤوسَ سُمِّها بعد كؤوس خمرها، فسَكِروا بحبِّها، وماتوا بهجرِها.

فإذا قام بالعبد هذا الشّاهد منها ترحَّلَ قلبه عنها، وسافر في طلب الدّار الآخرة، وحينئذٍ يقوم بقلبه شاهدٌ من الآخرة ودوامها، وأنّها الحيوان حقًّا، فأهلُها لا يرتحلون منها، ولا يَظْعَنون عنها، بل هي دار القرار، ومحطُّ الرِّحال، ومنتهى السّير، وأنّ الدُّنيا بالنِّسبة إليها كما قال النّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "ما الدُّنيا في الآخرة إلّا كما يجعل أحدُكم إصبعَه في اليمِّ، فلينظر بم تَرجِع؟". وقال بعض التّابعين: ما الدُّنيا في الآخرة إلّا أقلُّ من ذرّةٍ واحدةٍ في جبال الدُّنيا.

ثمّ يقوم بقلبه شاهدٌ من النّار، وتوقُّدِها واضطرامها، وبُعْدِ قَعْرِها، وشدّة حرِّها، وعظيم عذاب أهلها، فيشاهدهم وقد سِيقوا إليها سُودَ الوجوه، زُرْقَ العيون، والسّلاسل والأغلال في أعناقهم، فلمّا انتهوا إليها فُتِحت في وجوههم أبوابها، فشاهدوا ذلك المنظر الفظيع، وقد تقطّعت قلوبهم حسرةً وأسفًا، (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا) [الكهف: 53].

فيراهم شاهد الإيمان وهم إليها يُدفَعون، وأتى النِّداء من قِبَل الرحمن أن قِفُوهم إنهم مسؤولون، ثمّ قيل لهم: (هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ * اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الطور: 14 - 16].

فيراهم شاهد الإيمان وهم في الحميم على وجوههم يُسحَبون، وفي النّار كالحطب يُسْجَرون، (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ) [الأعراف: 41]، فبئس اللِّحاف وبئس الفراش، وإن يستغيثوا من شدّة العطش يُغاثوا بماءٍ يشوي الوجوه، فإذا شربوه قطَّع أمعاءهم في أجوافهم، وصَهَر ما في بطونهم، شرابُهم الحميم، وطعامهم الزّقُّوم (لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) [فاطر: 36 - 37].

فإذا قام بقلب العبد هذا الشّاهد انخلع من الذُّنوب والمعاصي، واتِّباع الهوى، ولبسَ ثيابَ الخوف والحذر، وأخصبَ قلبُه من مَطرِ أجفانه، وهان عليه كلُّ مصيبةٍ في غير دينه وقلبه.

وعلى حسب قوّة هذا الشّاهد يكون بُعْدُه من المعاصي والمخالفات، فيُذِيب هذا الشّاهدُ من قلبه الفضلاتِ والموادَّ المهلكة، ويَنْضَحُها ثمّ يُخرِجها، فيجد القلب لذّةَ العافية وسرورها.

فيقوم به بعد ذلك شاهدٌ من الجنّة، وما أعدَّ الله لأهلها فيها ممّا لا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمعتْ ولا خطَرَ على قلب بشرٍ، فضلًا عمّا وصفه لعباده على لسان رسوله من النّعيم المفصّل، الكفيل بأعلى أنواع اللّذّة، من المطاعم والمشارب، والملابس والصُّور، والبهجة والسُّرور، فيقوم بقلبه شاهدُ دارٍ قد جعل النّعيم المقيم الدّائم بحذافيره فيها، ترابُها المِسك، وحصباؤها الدُّرُّ، وبناؤها لَبِنُ الذّهب والفضّة وقَصَبُ اللُّؤلؤ، وشرابها أحلى من العسل، وأطيب رائحةً من المسك، وأبرد من الكافور، وألذُّ من الزّنجبيل، ونساؤها لو برزَ وجهُ إحداهنّ في هذه الدُّنيا لغلبَ على ضوء الشّمس، ولباسهم الحرير من السُّندس والإستبرق، وخَدَمُهم وِلدانٌ كاللُّؤلؤ المنثور، وفاكهتهم دائمةٌ، لا مقطوعةٌ ولا ممنوعةٌ، وغذاؤهم لحمُ طيرٍ ممّا يشتهون، وشرابهم عليه خمرةٌ لا فيها غَوْلٌ ولا هم عنها يُنزَفُون، وخضرتهم فاكهةٌ ممّا يتخيّرون، ومشاهدهم حورٌ عِينٍ كأمثال اللُّؤلؤ المكنون، فهم على الأرائك متّكئون، وفي تلك الرِّياض يُحبَرون، وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذُّ الأعين وهم فيها خالدون.

فإذا انضمَّ إلى هذا الشّاهد شاهدُ يومِ المزيد، والنّظر إلى وجه الرّبِّ جلّ جلاله، وسماعِ كلامه منه بلا واسطةٍ، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "بَيْنا أهل الجنّة في نعيمهم إذ سطَعَ لهم نورٌ، فرفعوا رؤوسهم، فإذا الرّبُّ تبارك وتعالى قد أشرفَ عليهم من فوقهم، وقال: يا أهل الجنّة، سلامٌ عليكم. ثمَّ قرأ قوله: (سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) [يس: 58]، ثمَّ يتوارى عنهم، وتبقى رحمته وبركته في ديارهم".

فإذا انضمّ هذا الشّاهد إلى الشاهد الذي قبله فهناك يسير القلب إلى ربِّه أسرعَ من سيرِ الرِّياح من مَهابِّها، فلا يلتفت في طريقه يمينًا ولا شمالًا.

هذا، وفوق ذلك شاهدٌ آخر تضمحلُّ فيه هذه الشّواهد، ويغيب العبد به عنها كلِّها، وهو شاهد جلالِ الرّبِّ تعالى وجمالِه وكماله، وعزِّه وسلطانه، وقيُّوميّته وعلوِّه فوق عرشه، وتكلُّمِه بكتبه وكلماتِ تكوينه، وخطابه لملائكته وأنبيائه.

فإذا شاهدَ بقلبه قيُّومًا قاهرًا فوقَ عباده، مستويًا على عرشه، منفردًا بتدبير مملكته، آمرًا ناهيًا، مرسلًا رسله، ومُنزِلًا كتبه، يرضى ويغضب، ويُثيب ويعاقب، ويعطي ويمنع، ويُعِزُّ ويُذِلُّ، ويحبُّ ويبغض، يرحم إذا اسْتُرحِم، ويغفر إذا استُغْفِر، ويُعطي إذا سْئل، ويجيب إذا دُعي، ويُقِيل إذا استُقِيل، أكبرُ من كلِّ شيءٍ، وأعظمُ من كلِّ شيءٍ، وأعزُّ من كلِّ شيءٍ، وأقدرُ من كلِّ شيءٍ، وأعلمُ من كلِّ شيءٍ، وأحكمُ من كلِّ شيءٍ، فلو كانت قوى الخلائق كلِّهم على واحدٍ منهم، ثمّ كانوا كلُّهم على تلك القوّة، ثمّ نُسِبَتْ تلك القوى إلى قوّتِه تعالى لكانت أقلَّ من قوّة البعوضة بالنِّسبة إلى قوّة الأسد، ولو قُدِّر جمالُ الخلق كلُّهم على واحدٍ منهم، ثمّ كانوا كلُّهم بذلك الجمال، ثمّ نُسِب إلى جمال الرّبِّ تعالى لكان دونَ سِراجٍ ضعيفٍ بالنِّسبة إلى عين الشّمس، ولو كان علمُ الأوّلين والآخرين على رجلٍ منهم، ثمّ كان كلُّ الخلق على ذلك، ثمّ نُسِب إلى علم الرّبِّ تعالى لكان كنَقْرِة عصفورٍ من البحر.

وهكذا سائر صفاته، كسمعه وبصره وسائر نعوت كماله، فإنّه يسمع ضجيجَ الأصوات باختلاف اللُّغات على تفنُّن الحاجات، فلا يَشْغَلُه سمعٌ عن سمعٍ، ولا تُغلِّطه المسائل، ولا يَتبرَّمُ بإلحاح المُلِحِّين، سواءٌ عنده من أسرَّ القولَ ومن جهر به، فالسِّرُّ عنده علانيةٌ، والغيب عنده شهادةٌ، يرى دبيبَ النّملة السّوداء على الصّخرة الصّمّاء في اللّيلة الظّلماء، ويرى عُروقَ نِيَاطِها ومجاريَ القُوتِ في أعضائها، يضع السّماوات على إصبعٍ من أصابع يده، والأرض على إصبعٍ، والجبالَ على إصبعٍ، والشّجر على إصبعٍ، والماء على إصبعٍ، ويقبض سماواتِه بإحدى يديه، والأرضين باليد الأخرى، والسّماوات السّبع في كفِّه كخَرْدلةٍ في كفِّ العبد. ولو أنّ الخلق كلَّهم من أوّلهم إلى آخرهم قاموا صفًّا واحدًا ما أحاطوا بالله عزّ وجلّ، لو كَشَفَ الحجابَ عن وجهه لأحرقَتْ سُبُحاتُه ما انتهى إليه بصره من خلقه.

فإذا قام بقلب العبد هذا الشّاهد اضمحلَّتْ فيه الشّواهد المتقدِّمة من غير أن تُعْدَم، بل تصير الغلبة والقهر لهذا الشّاهد، وتندرج فيه الشّواهد كلُّها، ومن هذا شاهدُه، فله سلوكٌ وسيرٌ خاصٌّ، ليس لغيره ممّن هو عن هذا في غفلةٍ أو معرفةٍ مجملةٍ.

فصاحبُ هذا الشّاهد سائرٌ إلى الله في يقظته ومنامه، وحركته وسكونه وفطرِه وصيامه، له شأنٌ وللنّاس شأنٌ، هو في وادٍ وهم في وادٍ.

خليليَّ لا واللهِ ما أنا منكما ... إذا عَلَمٌ من آلِ ليلى بَدَا ليا

والمقصود: أنّ العيان والكشف والمشاهدة في هذه الدّار إنّما يقع على الشّواهد والأمثلة العلميّة، وهو المثل الأعلى الذي ذكره سبحانه في ثلاثة مواضع من كتابه: في سورة النّحل والرُّوم وسورة الشُّورى، وهو ما يقوم بقلوب عابديه ومحبِّيه والمنيبين إليه من هذا الشّاهد، وهو الباعث لهم على العبادة والمحبّة والخشية والإنابة، وتفاوتُهم فيه لا ينحصر طرفاه، كلٌّ منهم له مقامٌ معلومٌ لا يتعدّاه. وأعظمُ النّاس حظًّا في ذلك معترفٌ بأنّه لا يُحصِي ثناءً عليه سبحانه، وأنّه فوقَ ما يُثنِي عليه المُثْنُون، وفوق ما يَحْمَدُه به الحامدون.

وما بلغَ المُهْدُونَ نحوَك مِدحةً ... وإن أَطْنبوا إلَّا الذي فيك أعظمُ

لك الحمدُ كلُّ الحمدِ لا مبدأٌ له ... ولا مُنتهى والله بالحمد أعلمُ


مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (4/ 147 - 153 ط عطاءات العلم)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله