لو عرف العبد كل شيء ولم يعرف ربّه فكأنه لم يعرف شيئًا

لو عرف العبد كل شيء ولم يعرف ربه فكأنه لم يعرف شيئًا، ولو نال كلَّ حظ من حظوظ الدنيا ولذّاتها وشهواتها، ولم يظفر بمحبة الله والشوق إليه والأنس به، فكأنه لم يظفر بلذة ولا نعيم ولا قرة عين، بل إذا كان القلب خاليًا من ذلك عادت تلك الحظوظ واللذات عذابًا له ولا بدَّ، فيصير مُعذَّبًا بنفس ما كان مُنعَّمًا به من جهتين: من جهة حسرة فَوْته، وأنه حِيلَ بينه وبينه، مع شدة تعلُّق روحه به، ومن جهة فَوْت ما هو خير له وأنفع وأدوم حيث لم يحصل له، فالمحبوب الحاصل فات، والمحبوب الأعظم لم يظفر به. وكل من عرف الله أحبَّه وأخلص العبادة له ولا بدَّ، ولم يُؤثِر عليه شيئًا من المحبوبات فمن آثر عليه شيئًا من المحبوبات؛ فقلبه مريض، كما أن المعدة إذا اعتادت أكل الخبيث، وآثرته على الطيب سقطت عنها شهوة الطيِّب، وتعوَّضت بمحبة غيره.

وقد يمرض القلب ويشتد مرضه، ولا يعرف به صاحبه؛ لاشتغاله وانصرافه عن معرفة صحته وأسبابها، بل قد يموت وصاحبه لا يشعر بموته، وعلامة ذلك أنه لا تُؤلِمه جراحات القبائح، ولا يُوجِعه جهله بالحق وعقائده الباطلة؛ فإن القلب إذا كان فيه حياة يألم بورود القبيح عليه، ويألم بجهله بالحق بحسب حياته، وما لِجُرحٍ بميّتٍ إيلامُ

وقد يشعر بمرضه، ولكن يشتد عليه تحمُّلُ مرارة الدواء والصبر عليها؛ فيُؤْثِرُ بقاءَ ألمه على مشقة الدواء، فإن دواءه في مخالفة الهوى، وذلك أصعب شيء على النفس، وليس لها أنفع منه.

وتارة يُوطِّن نفسه على الصبر، ثم ينفسخ عزمه، ولا يستمر معه؛ لضعف علمه وبصيرته وصبره، كمن دخل في طريق مَخُوفٍ مُفْضٍ إلى غاية الأمن، وهو يعلم أنه إن صبر عليه انقضى الخوف وأعقبه الأمن، فهو محتاج إلى قوة صبر، وقوة يقين بما يصير إليه، ومتى ضعف صبره ويقينه رجع من الطريق، ولم يتحمل مشقتها، ولا سيما إن عَدِمَ الرفيقَ، واستوحش من الوحدة، وجعل يقول: أين ذهب الناس؟ فلي بهم أسوة.

وهذه حال أكثر الخلق، وهي التي أهلكتهم؛ فالبصير الصادق لا يستوحش من قلة الرفيق ولا من فقده؛ إذا استشعر قلبه مرافقة الرعيل الأول، (الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) [النساء: 69]؛ فتفرُّدُ العبد في طريق طلبه دليل على صدق الطلب.

ولقد سئل إسحاق بن راهَوَيْه عن مسألة فأجاب عنها، فقيل له: إن أخاك أحمد بن حنبل يقول فيها بمثل قولك، فقال: ما ظننتُ أن أحدًا يوافقني عليها. ولم يستوحش بعد ظهور الصواب له من عدم الموافق؛ فإن الحق إذا لاح وتبيَّن لم يَحْتَجْ إلى شاهد يشهد به.

والقلب يُبْصِرُ الحقَّ كما تبصر العينُ الشمسَ؛ فإذا رأى الرائي الشمس لم يحتج ــ في علمه بها واعتقاده أنها طالعة ــ إلى من يشهد بذلك ويوافقه عليه.

وما أحسن ما قال أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة في كتاب «الحوادث والبدع»: حيث جاء الأمر بلزوم الجماعة: فالمراد به لزوم الحق واتّباعه، وإن كان المتمسِّك به قليلًا، والمخالف له كثيرًا؛ لأن الحق هو الذي كانت عليه الجماعة الأولى من عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، ولا نظر إلى كثرة أهل الباطل بعدهم.

قال عمرو بن ميمون الأوْدي: صحبتُ معاذًا باليمن، فما فارقته حتى واريته في التراب بالشام، ثم صحبت بعده أفقه الناس عبد الله بن مسعود، فسمعته يقول: عليكم بالجماعة؛ فإن يد الله على الجماعة، ثم سمعته يومًا من الأيام وهو يقول: سَيَلِي عليكم ولاةٌ يؤخِّرون الصلاة عن مواقيتها فصلوا الصلاة لميقاتها، فهي الفريضة، وصلوا معهم فإنها لكم نافلة، قال: قلت: يا أصحاب محمد! ما أدري ما تُحدِّثونا؟ قال: وما ذاك؟ قلت: تأمرني بالجماعة وتحضُّني عليها، ثم تقول: صلِّ الصلاة وحدك وهي الفريضة، وصلِّ مع الجماعة وهي نافلة؟ قال: يا عمرو بن ميمون! قد كنت أظنك من أفقه أهل هذه القرية؛ تدري ما الجماعة؟ قلت: لا، قال: إن جمهور الجماعة الذين فارقوا الجماعةَ، الجماعةُ ما وافق الحق، وإن كنتَ وحدك.

وفي طريق أخرى: فضرب على فخذي وقال: ويحك! إن جمهور الناس فارقوا الجماعة، وإن الجماعة ما وافق طاعة الله عز وجل.

قال نُعيم بن حماد: يعني إذا فسدت الجماعة، فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد وإن كنت وحدك؛ فإنك أنت الجماعة حينئذٍ. ذكره البيهقي وغيره.

وقال أبو شامة عن مبارك، عن الحسن البصري، قال: السنة ــ والذي لا إله إلا هو ــ بين الغالي والجافي، فاصبروا عليها رحمكم الله؛ فإن أهل السنة كانوا أقلّ الناس فيما مضى، وهم أقل الناس فيما بقي، الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف في إترافهم، ولا مع أهل البدع في بدعهم، وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم، فكذلك إن شاء الله فكونوا.

وكان محمد بن أسلم الطُّوسي ــ الإمام المتفق على إمامته مع رتبته ــ أتبع الناس للسنة في زمانه، حتى قال: ما بلغني سنةٌ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا عملت بها، ولقد حرصت على أن أطوف بالبيت راكبًا، فما مُكّنت من ذلك.

فسُئل بعض أهل العلم في زمانه عن السّواد الأعظم الذين جاء فيهم الحديث: "إذا اختلف الناس فعليكم بالسواد الأعظم": مَنِ السواد الأعظم؟ فقال: محمد بن أسلم الطُّوسي هو السواد الأعظم.

وصدق والله؛ فإن العصر إذا كان فيه إمامٌ عارف بالسنة داعٍ إليها، فهو الحجة، وهو الإجماع، وهو السوادُ الأعظم، وهو سبيل المؤمنين التي من فارقها واتبع سواها ولَّاه الله ما تولى، وأصلاه جهنّم، وساءت مصيرًا.


إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان (1/ 112 - 116ط عطاءات العلم)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله