أربع مواطن تبين مقدار تعلق القلب بالله

أحدها: عند أخذ مضجعه وتفرغ حواسه وجوارحه عن الشواغل، واجتماع قلبه على ما يحبه؛ فإنه لا ينام إلا على ذكر من يحبه وشغل قلبه به.

الموطن الثاني: عند انتباهه من النوم، فأول شيء يسبق إلى قلبه ذكر محبوبه؛ فإنه إذا استيقظ ورُدّت إليه روحه رُدّ معها إليه ذكر محبوبه الذي كان قد غاب عنه في النوم، والذي كان قد خالط روحه وقلبه، فلما ردت إليه الروح أسرع من الطرف رُدّ إليه ذكر محبوبه متصلاً بها، مصاحباً لها، فورد عليه قبل كل وارد، وهجم عليه قبل كل طارق، فإذا وردت عليه الشواغل والقواطع وردت على محل ممتليء بمحبة ما يحبه، فوردت على ساحته من ظاهرها، فإذا قضى وطره منها قضاه بمصاحبته لما في قلبه من الحب؛ فإنه قد لزمه ملازمة الغريم لغريمه ولذلك يسمى غراماً، وهو الحُب اللازم الذي لا يفارق: فسمع بمحبوه وأبصر به وبطش به ومشى به، فصار محبوبه في وجوده في محل سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشى بها. هذا مثل محبوبه في وجوده وهو غير متحد به، بل هو قائم بذاته مباين له.

وهذا المعنى مفهوم بين الناس لا ينكره منهم إلا غليظ الحجاب، أو قليل العلم، ضعيف العقل، يجد محبوبه قد استولى على قلبه وذكره، فيظن أنه هو نفس ذاته الخارجة قد اتحدت به أو حلت فيه، فينشأُ من قسوة الأول وكثافته غلظ حجاب، ومن قله علم الثاني ومعرفته وضعف تمييزه ضلال الحلول والاتحاد وضلال الإنكار والتعطيل والحرمان، ويخرج للبصير من بين فرث هذا ودم هذا لبن الفطرة الأُولى خالصاً سائغاً للشاربين.

الموطن الثالث: عند دخوله في الصلاة، فإنها محك الأحوال وميزان الإيمان، بها يوزن إيمان الرجل، ويتحقق حاله ومقامه ومقدار قربه من الله ونصيبه منه، فإنها محل المناجاة والقربة ولا واسطة فيها بين العبد وبين ربه، فلا شيء أقرّ لعين المحب ولا ألذّ لقلبه ولا أنعم لعيشه منها إن كان محباً؛ فإنه لا شيء آثر عند المحب ولا أطيب له من خلوته بمحبوبه ومناجاته له ومثوله بين يديه، وقد أقبل بقلبه على محبوبه، وكان قبل ذلك معذباً بمقاساة الأغيار ومواصلة الخلق والاشتغال بهم فإذا قام إلى الصلاة هرب من سوى الله إليه، وآوى عنده واطمأن بذكره، وقرت عينه بالمثول بين يديه ومناجاته، فلا شيء أهم إليه من الصلاة، كأنه في سجن وضيق وغم حتى تحضر الصلاة فيجد قلبه قد انفسخ وانشرح واستراح، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لبلال: "يا بلال، أرحنا بالصلاة"، ولم يقل: أرحنا منها، كما يقول المبطلون الغافلون.

وقال بعض السلف: ليس بمستكمل الإيمان من لم يزل في هم وغم حتى تحضر الصلاة فيزول همه وغمه، أو كما قال. فالصلاة قرة عيون المحبين وسرور أرواحهم، ولذة قلوبهم، وبهجة نفوسهم، يحملون هم الفراغ منها إذا دخلوا فيها كما يحمل الفارغ البطّال همها حتى يقضيها بسرعة، فَلَهُمْ فيها شأْن وللنفَّارين شأْن، يشكون إلى الله سوءَ صنيعهم بها إذا ائتموا بهم، كما يشكوا الغافل ، وللنقّارين شأن يشكون إلى الله سوء صنيعهم بها إذا ائتموا بهم كما يشكوا المعرض تطويل إمامه، فسبحان من فاضل بين النفوس وفاوت بينها هذا التفاوت العظيم.

وبالجملة فمن كان قرة عينه في الصلاة فلا شيء أحب إليه ولا أنعم عنده منها، ويودّ أَن لو قطع عمره بها غير مشتغل بغيرها، وإنما يسلِّى نفسه إذا فارقها بأنه سيعود إليها عن قرب فهو دائماً يثوب إليها ولا يقضى منها وطراً. فلا يزنُ العبد إيمانه ومحبته لله بمثل ميزان الصلاة، فإنها الميزان العادل، الذي وزنه غير عائل.

الموطن الرابع: عند الشدائد والأهوال، فإن القلب في هذا الموطن لا يذكر إلا أحب الأشياء إليه، ولا يهرب إلا إلى محبوبه الأعظم عنده. ولهذا كانوا يفتخرون بذكرهم من يحبونهم عند الحرب واللقاءِ، وهو كثير في أشعارهم كما قال:

ذكرتك والخطى يخطر بيننا ... وقد نهلت منى المثقفة السمر

وقال غيره:

ولقد ذكرتك والرماح كأنها ... أَشطان بئر في لبان الأَدهم

وقد جاءَ في بعض الآثار: يقول تبارك وتعالى: "إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو ملاق قرنه"، والسر في هذا- والله أعلم- أن عند مصائب الشدائد والأهوال يشتد خوف القلب من فوات أحب الأشياءِ إليه، وهي حياته التي لم يكن يؤثرها إلا لقربه من محبوبه، فهو إنما يحب حياته لتنعمه بمحبوبه، فإذا خاف فوتها بدر إلى قلبه ذكر المحبوب الذي يفوت بفوات حياته.

ولهذا- والله أعلم- كثيراً ما يعرض للعبد عند موته لَهَجُهُ بما يحبه وكثرة ذكره له، وربما خرجت روحه وهو يلهج به. وذكر ابن أبى الدنيا في كتاب "المحتضرين" عن زفر رحمه الله أنه جعل يقول عند موته: لها ثلاثة أخماس الصداق، لها ربع الصداق، لها كذا ومات، لامتلاءِ قلبه من محبة الفقه والعلم، وأيضاً فإنه عند الموت تنقطع شواغله وتبطل حواسه فيَظهر ما في القلب ويقوى سلطانه، فيبدو ما فيه من غير حاجب ولا مدافع، وكثيراً ما سمع من بعض المحتضرين عند الموت: شاه مات، وسمع من آخر بيت شعر لم يزل يغنى به حتى مات وكان مغنياً، وأخبرني رجل عن قرابة له أنه حضره عند الموت- وكان تاجراً يبيع القماش- قال: فجعل يقول: هذه قطعة جيدة هذه على قدرك، هذه مشتراها رخيص يساوى كذا وكذا حتى مات.

والحكاية في هذا كثيرة جداً، فمن كان مشغولاً بالله وبذكره ومحبته في حال حياته، وجد ذلك أحوج ما هو إليه عند خروج روحه إلى الله، ومن كان مشغولاً بغيره في حال حياته وصحته فيعسر عليه اشتغاله بالله وحضوره معه عند الموت ما لم تدركه عناية من ربه، ولأجل هذا كان جديراً بالعاقل أن يلزم قلبه ولسانه ذكر الله حيثما كان لأَجل تلك اللحظة التي إن فاتت شقي شقاوة الأبد. فنسأَل الله أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.


طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص: 306 - 309)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله