تفضيل "سُبحان الله وبحمده عَدد خلقه، ورِضا نَفسه، وزِنة عَرشه، ومِداد كلماته"

ومن هذا يُعرف جواب المسألة الثانية، وهي: تفضيل "سُبحان الله وبحمده عَدد خلقه، ورِضا نَفسه، وزِنة عَرشه، ومِداد كلماته" على مُجرّد الذّكر "سبحان الله" أضعافًا مُضاعفة، فإنّ ما يَقوم بقلب الذّاكر حين يقول: "سُبحان الله وبحمده عَدَد خلقه" من مَعرفته وتَنزيهه وتَعظيمه لله بهذا القدر المذكور من العدَد، أعظم ممّا يقوم بقلب القائل: "سبحان الله" فقط.
وهذا يُسمّى الذّكر المضاعف، وهو أعظم ثناءً من الذّكر المُفرد؛ فلهذا كان أفضل منه، وهذا إنما يَظهر بعدَ مَعرفة هذا الذّكر وفهمه.
فإن قَول المسبّح: "سبحان الله وبحمده عَدد خَلْقه " تَضمّن إنشاءً وإخبارًا:
تَضمّن إخبارًا عمّا يَستحقّه الربّ من التسبيح عَدَد كلّ مَخلوق كان، وهو كائن، إلى ما لا نهاية له، فتضمّن الإخبار عن تنزيهه وتعظيمه والثناء عليه هذا العدد العظيم، الذي لا يبلغه العادّون، ولا يُحصيه المُحصون.
وتضمّن إنشاء العبد لتسبيحٍ هذا شأنه، لا أنّ ما أتى به العبد من التسبيح هذا قدره وعدده، بل أخبر أن ما يَستحقه الربّ سبحانه وتعالى من التسبيح، هو: تَسبيح يَبلغ هذا العدد الذي لو كان في العدد ما يزيد لذكره، فإنّ تَجدّد المخلوقات لا يَنتهي عَداده، ولا يُحصى لحاصر.

وكذلك قَوله: "ورِضا نَفسه" وهو يَتضمّن أمرين عظيمين:
أحدهما: أن يكون المراد تَسبيحًا هو [في] العظَمة والجلال مُساوٍ لرضا نَفسه، كما أنّه في الأول مخبر عن تسبيح مساوٍ لعدد خلقه، ولا ريب أن رِضا نَفس الربّ أمر لا نِهاية له في العظمة والوَصف، والتسبيح ثناءٌ عليه سبحانه يتضمن التعظيم والتنزيه.
فإذا كانت أوصاف كماله ونُعوت جَلاله لا نِهاية لها ولا غاية، بل هي أعظم من ذلك وأجلّ، كان الثناء عليه بها كذلك، إذ هو تابع لها إخبارًا وإنشاءً. وهذا المعنى يَنتظم بالمعنى الأول من غير عَكس.
وإذا كان إحسانه وثَوابه وبَركته وخَيره لا مُنتهى له، وهو من مُوجبات رِضاه وثمرته فكيف بصفة الرّضا؟
وفي الأثر: "إذا باركت لم يكن لبركتي مُنتهى"، فكيف بالصفة التي صدرت عنها البركة؟
والرِّضا يَستلزم المحبّة والإحسان والجود والبر والعفو والصفح والمغفرة والرحمة.
والخلق يستلزم العلم والقدرة والإرادة والحياة والحكمة.
وكل ذلك داخل في رِضا نَفسه، وصِفة خلقه.
وقوله: "وزِنة عَرشه" فيه إثبات العرش، وإضافته إلى الرب سبحانه وتعالى، وأنه أثقل المخلوقات على الإطلاق، إذ لو كان شيءٌ أثقل منه لوُزن به التسبيح، وهذا يَردّ على من يقول: إن العرش، ليس بثقيل ولا خفيف. وهذا لم يَعرف العرش، ولا قَدَره حق قَدره.
فالتضعيف الأول: للعَدَد والكميّة.
والثاني: للصفة والكيفية.
والثالث: لِلْعِظم والثِّقَل وكِبَر المقدار.
وقوله: "ومِدَاد كلماته" هذا يَعمّ الأقسام الثلاثة ويَشملها، فإنّ مِدَاد كلماته سبحانه وتعالى لا نهاية لقدره، ولا لصفته، ولا لعدده.
قال تعالى: {لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف: 109].
وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان: 27].
ومعنى هذا أنّه لو فُرض البحر مِدادًا، وبَعده سَبعة أبحر تَمدّه، كلها مِدادًا، وجميع أشجار الأرض أقلامًا -وهو ما قام منها على ساق من النبات والأشجار المُثمرة، وغير المثمرة- والأقلام تَستمدّ بذلك المداد فتفنى البحار والأقلام، وكلمات الربّ لا تَفنى ولا تَنفد.
"فسبحان الله وبحمده عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته". فأين هذا من وَصْف من يَصفُه بأنه ما تَكلّم، ولا يَتكلّم، ولا يَقوم به كلام أصلًا؟

وقول من وَصَف كلامه بأنّه معنى واحد لا يَنقضي ولا يَتجزأ، ولا له بَعض ولا كل، ولا هو سُور وآيات، ولا حُروف وكلمات.
والمقصود أنّ في هذا التسبيح من صفات الكمال، ونُعوت الجلال ما يُوجب أن يكون أفضل من غيره، وأنه لو وَزن غيره لوَزن به، وزاد عليه.
وهذا بعض ما في هذه الكلمات من المعرفة بالله، والثناء عليه بالتنزيه والتعظيم، مع اقترانه بالحمد المتضمّن لثلاثة أصول:
أحدها: إثبات صفات الكمال له سبحانه، والثناء عليه.
والثاني: محبته والرضا به.
فإذا انضاف هذا الحمد إلى التسبيح والتنزيه على أكمل الوجوه، وأعظمها قدرًا وأكثرها عددًا، وأجزلها وصفًا، واستحضر العبد ذلك عند التسبيح، وقام بقلبه معناه: كان له من المزيّة والفضل ما ليس لغيره، وبالله التوفيق.


المنار المنيف في الصحيح والضعيف (1/ 17 - 20)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله