خصائص يوم الجمعة

وكان من هديه صلى الله عليه وسلم تعظيم هذا اليوم، وتشريفه، وتخصيصه بعبادات يختصَّ بها عن غيره.

وقد اختلف الفقهاء: هل هو أفضل أم يوم عرفة؟ على قولين، وهما وجهان لأصحاب الشافعي.

وكان - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في فجره بسورتي (الم تنزيل) و (هل أتى على الإنسان).

ويظنُّ كثير ممن لا علم عنده أنَّ المراد تخصيص هذه الصلاة بسجدة زائدة، ويسمُّونها سجدة الجمعة. وإذا لم يقرأ أحدهم هذه السورة استحبَّ قراءة سورة أخرى فيها سجدة. ولهذا كره من كره من الأئمة المداومةَ على قراءة هذه السورة في فجر الجمعة دفعًا لتوهُّم الجاهلين.

وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: إنما كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقرأ هاتين السورتين في فجر الجمعة لأنهما تضمَّنتا ما كان ويكون في يومها، فإنهما اشتملتا على خلق آدم وعلى ذكر المعاد وحشر الخليقة، وذلك يكون يوم الجمعة، فكان في قراءتهما في هذا اليوم تذكير للأمة بما كان فيه ويكون. والسجدة جاءت تبعًا، ليست مقصودةً حتى يقصد المصلِّي قراءتها حيث اتفقت. فهذه خاصَّة من خواصِّ يوم الجمعة.

الخاصَّة الثانية: استحباب كثرة الصلاة فيه على النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي ليلته، لقوله: «أكثِروا من الصلاة عليَّ يومَ الجمعة وليلةَ الجمعة».

ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيِّد الأنام، ويوم الجمعة سيِّد الأيام، فللصلاة عليه في هذا اليوم مزية ليست لغيره، مع حكمة أخرى وهي أنَّ كلَّ خير نالته أمته في الدنيا والآخرة فإنما نالته على يده، فجمع الله لأمته به بين خير الدنيا والآخرة. وأعظمُ كرامة تحصل لهم فإنها تحصل يوم الجمعة، فإنَّ فيه بعثهم إلى منازلهم وقصورهم في الجنة، وهو يوم المزيد لهم إذا دخلوا الجنة. وهو عيدٌ لهم في الدنيا، ويومٌ فيه يُسعفهم الله تعالى بطلباتهم وحوائجهم، ولا يردُّ سائلهم. وهذا كلُّه إنما عرفوه وحصل لهم بسببه وعلى يده، فمِن شكره وحمدِه وأداءِ القليل من حقِّه - صلى الله عليه وسلم - أن يُكثَر من الصلاة عليه في هذا اليوم وليلته.

الخاصَّة‌‌ الثالثة: صلاة الجمعة التي هي من آكد فروض الإسلام، ومن أعظم مجامع المسلمين. وهي أعظم من كلِّ مجمع يجتمعون فيه وأفرضه سوى مجمع عرفة. ومن تركها تهاونًا بها طبع الله على قلبه. وقربُ أهل الجنة يوم القيامة وسبقُهم إلى الزيارة يوم المزيد بحسب قربهم من الإمام يوم الجمعة وتبكيرهم إليها.

الخاصَّة‌‌ الرابعة: الأمر بالاغتسال في يومها ، وهو أمر مؤكَّد جدًّا.

ووجوبه أقوى من وجوبِ الوتر وقراءة البسملة في الصلاة، ووجوبِ الوضوء من مسِّ النساء، ووجوبِ الوضوء من مسِّ الذكر، ووجوبِ الوضوء من القهقهة في الصلاة، ووجوبِ الوضوء من الرُّعاف والحجامة والقيء، ووجوبِ الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهُّد الأخير، ووجوبِ القراءة على المأموم.

وللناس في وجوبه ثلاثة أقوال: النفي، والإثبات، والتفصيل بين من له رائحة يحتاج إلى إزالتها به، فيجب عليه؛ ومن هو مستغنٍ عنه، فيستحَبُّ له. والثلاثة لأصحاب أحمد.

الخاصَّة‌‌ الخامسة: التطيُّب فيه. وهو أفضل فيه من التطيُّب في غيره من أيام الأسبوع.

الخاصَّة‌‌ السادسة: السِّواك فيه. وله مزية على السِّواك في غيره.

الخاصَّة‌‌ السابعة: التبكير إلى الصلاة.

الخاصَّة الثامنة: أن يشتغل بالصلاة والذكر والقراءة حتى يخرج الإمام.

الخاصَّة‌‌ التاسعة: الإنصات للخطبة إذا سمعها وجوبًا في أصحِّ القولين، فإن تركه كان لاغيًا، ومَن لغا فلا جمعة له. وفي «المسند» مرفوعًا: «والذي يقول لصاحبه: أنصِتْ، فلا جمعة له».

الخاصَّة‌‌ العاشرة: قراءة سورة الكهف في يومها. فقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة سطَع له نورٌ من تحت قدمه إلى عَنانِ السَّماء يضيء به يوم القيامة، وغُفِر له ما بين الجمعتين». وذكره سعيد بن منصور من قول أبي سعيد الخدري، وهو أشبه.

الحادية عشر: أنه لا يكره فعلُ الصلاة فيه وقت الزوال عند الشافعي ومن وافقه، وهو اختيار شيخنا أبي العباس ابن تيمية. ولم يكن اعتماده على حديث ليث عن مجاهد عن أبي الخليل عن أبي قتادة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كره الصلاة نصف النهار إلا يوم الجمعة وقال: «إنَّ جهنَّم تُسْجَر إلا يوم الجمعة». وإنما كان اعتماده على أنَّ من جاء إلى الجمعة يستحَبُّ له أن يصلِّي حتى يخرج الإمام. وفي الحديث الصحيح: «لا يغتسل رجلٌ يوم الجمعة، ويتطهَّر ما استطاع من طُهرٍ، ويدَّهِن من دُهْنه، أو يمسُّ من طيب بيته، ثم يخرج فلا يفرِّق بين اثنين، ثم يصلِّي ما كُتِب له، ثم يُنْصِت إذا تكلَّم الإمامُ= إلا غُفِر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى». رواه البخاري.

فندَبه إلى صلاةِ ما كُتِب له، ولم يمنعه عنها إلا في وقت خروج الإمام.

ولهذا قال غير واحد من السلف، منهم عمر بن الخطاب، وتبعه عليه الإمام أحمد بن حنبل: خروجُ الإمام يمنع الصلاة، وخطبتُه تمنع الكلام. فجعلوا المانع من الصلاة خروجَ الإمام، لا انتصافَ النهار.

وأيضًا فإنَّ النَّاس يكونون في المسجد تحت السُّقوف ولا يشعرون بوقت الزوال، والرجل يكون متشاغلًا بالصلاة، ولا يدري بوقت الزوال، ولا يمكنه أن يخرج، ويتخطَّى رقابَ الناس، وينظر إلى الشمس، ويرجع؛ ولا يشرع له ذلك.

وحديث أبي قتادة هذا، قال أبو داود: «هو مرسل، أبو الخليل لم يسمع من أبي قتادة». والمرسل إذا اتصل به العملُ وعضَده قياس أو قولُ صحابي، أو كان مرسله معروفًا باختيار الشيوخ ورغبته عن الرواية عن الضعفاء والمتروكين ونحو ذلك، مما يقتضي قوتَه= عُمِل به.

وأيضًا فقد عضَده شواهد أُخَر، منها: ما ذكره الشافعي في «كتابه» فقال: وروي عن إسحاق بن عبد الله، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة نصفَ النهار حتى تزول الشمس إلا يوم الجمعة. هكذا رواه في كتاب «اختلاف الحديث». ورواه في «كتاب الجمعة»: حدثنا إبراهيم بن محمد عن إسحاق. ورواه أبو خالد الأحمر، عن شيخ من أهل المدينة يقال له: عبد الله، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.

وقد رواه البيهقي في «المعرفة» من حديث عطاء بن عجلان، عن أبي نضرة عن أبي سعيد وأبي هريرة قالا: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن الصلاة نصف النهار إلا يوم الجمعة». ولكن إسناده فيه مَن لا يُحتَجُّ به، قاله البيهقي. قال: ولكن إذا انضمَّت هذه الأحاديث إلى رواية أبي قتادة أخذت بعض القوة.

قال الشافعي - رحمه الله -: من شأن الناس: التهجيرُ إلى الجمعة والصلاةُ إلى خروج الإمام. قال البيهقي: الذي أشار إليه الشافعي موجود في الأحاديث الصحيحة، وهو أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رغَّب في التبكير إلى الجمعة، وفي الصلاة إلى خروج الإمام من غير استثناء. وذلك يوافق هذه الأحاديث التي أبيحت فيها الصلاةُ نصفَ النهار يوم الجمعة. ورُوِّينا الرخصةَ في ذلك عن طاوس والحسن ومكحول.

قلت: اختلف الناس في كراهة الصلاة نصف النهار على ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه ليس وقت كراهة بحال، وهذا مذهب مالك.

والثاني: أنه وقت كراهة في يوم الجمعة وغيره. وهذا مذهب أبي حنيفة والمشهور من مذهب أحمد.

والثالث: أنه وقت كراهة إلا يوم الجمعة فليس وقتَ كراهة فيه. وهذا مذهب الشافعي. والله أعلم.

الثانية عشر: قراءة (سورة الجمعة) و (المنافقين) أو (سبح) و (الغاشية) في صلاة الجمعة. فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بهنَّ في الجمعة. ذكره مسلم في «صحيحه».

وفيه أيضًا: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ فيها بـ (الجمعة) و (هل أتاك حديث الغاشية)، ثبت عنه ذلك كله.

ولا يستحَبُّ أن يقرأ من كلِّ سورة بعضَها، أو يقرأ إحداهما في الركعتين، فإنه خلاف السنَّة. وجُهَّال الأئمة يداومون على ذلك.

الثالثة عشر: أنه يوم عيد متكرِّر في الأسبوع. وقد روى أبو عبد الله بن ماجه في «سننه» من حديث أبي لُبابة بن عبد المنذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ يوم الجمعة سيِّد الأيام وأعظمها عند الله. وهو أعظم عند الله من يوم الأضحى ويوم الفطر. فيه خمس خلال: خلق الله عزَّ وجلَّ فيه آدم، وأهبَط الله فيه آدم إلى الأرض، وفيه توفَّى الله آدم، وفيه ساعة لا يسأل الله فيها العبدُ شيئًا إلا أعطاه ما لم يسأل حرامًا، وفيه تقوم الساعة. وما من ملَك مقرَّب ولا سماء ولا أرض ولا رياح ولا جبال ولا شجر إلا هُنّ يُشْفِقن من يوم الجمعة».

الرابعة عشر: أنه يستحَبُّ للرجل أن يلبس فيه أحسن ثيابه التي يقدر عليها. فقد روى الإمام أحمد في «مسنده» من حديث أبي أيوب قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من اغتسل يوم الجمعة، ومسَّ من طيبٍ إن كان له، ولبس من أحسن ثيابه، ثم خرج وعليه السكينة حتى يأتي المسجد، فيركع إن بدا له، ولم يؤذِ أحدًا، ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يصلِّي= كانت كفارةً لما بينهما».

وفي «سنن أبي داود» عن عبد الله بن سلام أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول على المنبر في يوم الجمعة: «ما على أحدكم لو اشترى ثوبَين ليوم الجمعة سوى ثوبَي مَهْنته».

وفي «سنن ابن ماجه» عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب الناس يوم الجمعة، فرأى عليهم ثياب النِّمار، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما على أحدكم إن وجد سعةً أن يتخذ ثوبين لجمعته سوى ثوبَي مَهْنته».

الخامسة عشر: أنه يستحَبُّ فيه تجمير المسجد. فقد ذكر سعيد بن منصور عن نُعَيم بن عبد الله المُجْمِر أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أمر أن يُجْمِر المسجدَ مسجدَ المدينة كلَّ يوم جمعة حين ينتصف النهار. قلت: ولذلك سمِّي نُعيمًا المُجْمِر.

السادسة عشر: أنه لا يجوز السفر في يومها لمن تلزمه الجمعة قبل فعلها بعد دخول وقتها. وأما قبله ففيه ثلاثة أقوال للعلماء، وهي روايات منصوصات عن أحمد. إحداها: لا يجوز أيضًا. والثانية: يجوز. والثالثة: يجوز للجهاد خاصةً.

وأما مذهب الشافعي، فيحرم عنده إنشاء السفر يوم الجمعة بعد الزوال. ولهم في سفر الطاعة وجهان، أحدهما: تحريمه، وهو اختيار النواوي وغيره. والثاني: جوازه، وهو اختيار الرافعي. وأما السفر قبل الزوال، فللشافعي فيه قولان، القديم: جوازه، والجديد: أنه كالسفر بعد الزوال.

وأما مذهب مالك فقال صاحب «التفريع»: «ولا يسافر أحد يوم الجمعة بعد الزوال حتى يصلي الجمعة، ولا بأس أن يسافر قبل الزوال، والاختيار: أن لا يسافر إذا طلع له الفجر وهو حاضر حتى يصلِّي الجمعة».

وذهب أبو حنيفة إلى جواز السفر مطلقًا.

وقد روى الدارقطني في «الأفراد» من حديث ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَن سافر من دار إقامةٍ يومَ الجمعة دعت عليه الملائكة أن لا يُصْحَب في سفره». وهو من حديث ابن لهيعة.

وفي «مسند الإمام أحمد» من حديث الحكم، عن مِقْسَم، عن ابن عباس قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن رواحة في سريَّة، فوافق ذلك يوم الجمعة. قال: فغدا أصحابه، وقال: أتخلَّف، فأصلِّي مع النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، ثم ألحقُهم. فلما صلَّى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - رآه، فقال: «ما منعك أن تغدو مع أصحابك؟»، قال: أردت أن أصلِّي معك، ثم ألحقهم. فقال: «لو أنفقتَ ما في الأرض ما أدركتَ فضلَ غَدوتهم». وأُعِلَّ هذا الحديث أيضًا بأنَّ الحكمَ لم يسمعه من مِقْسَم.

هذا إذا لم يخَف المسافر فوتَ رفقته. فإن خاف فوتَ رفقته وانقطاعَه بعدهم جاز له السفر مطلقًا، لأنَّ هذا عذرٌ يُسقِط الجمعة والجماعة. ولعل ما روي عن الأوزاعي أنه سئل عن مسافر سمع أذان الجمعة وقد أسرَج دابَّتَه، فقال: «لِيَمْضِ في سفره» = محمولٌ على هذا. وكذلك قول عمر: «الجمعة لا تحبس عن سفر».

وإن كان مرادهم جواز السفر مطلقًا فهي مسألة نزاع، والدليل هو الفاصل؛ على أن عبد الرزاق قد روى في «مصنفه» عن مَعْمر، عن خالد الحذَّاء، عن ابن سيرين أو غيره أنَّ عمر بن الخطاب رأى رجلًا عليه ثياب سفر بعد ما قضى الجمعة، فقال: ما شأنك؟ فقال: أردت سفرًا، فكرهت أن أخرج حتى أصلِّي. فقال له عمر: «إن الجمعة لا تمنعك السفر ما لم يحضر وقتها». فهذا هو قول من يمنع السفر بعد الزوال، ولا يمنع منه قبله.

وذكر عبد الرزاق أيضًا عن الثوري، عن الأسود بن قيس، عن أبيه قال: أبصر عمر بن الخطاب رجلًا عليه هيئة السفر، فقال الرجل: إنَّ اليوم يوم الجمعة، ولولا ذلك لخرجتُ. فقال عمر: إنَّ الجمعة لا تحبِس مسافرًا، فاخرُجْ ما لم يحِن الرَّواح.

وذكر أيضًا عن الثوري، عن ابن أبي ذئب، عن صالح بن دينار، عن الزهري قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسافرًا يوم الجمعة ضحًى قبل الصلاة.

وذكر عن معمر قال: سألت يحيى بن أبي كثير: هل يخرج الرجل يوم الجمعة؟ فكرهه، فجعلت أحدِّثه بالرخصة فيه، فقال لي: قلَّما خرج رجل في يوم الجمعة إلا رأى ما يكره. لو نظرتَ في ذلك وجدته كذلك.

وذكر ابن المبارك عن الأوزاعي عن حسان بن عطية قال: إذا سافر الرجل يوم الجمعة دعا عليه النهارُ أن لا يعان على حاجته ولا يصاحَب في سفره. وذكر الأوزاعي عن ابن المسيب أنه قال: السفر في يوم الجمعة بعد الصلاة.

قال ابن جريج: قلت لعطاء: أبَلَغَك أنه كان يقال: إذا أمسى في قريةٍ جامعةٍ من ليلة الجمعة فلا يذهب حتى يجمِّع؟ قال: إنَّ ذلك لَيُكْرَه. قلت: فمن يوم الخميس؟ قال: لا، ذلك النهار فلا يضرُّه.

السابعة عشر: أنَّ للماشي إلى الجمعة بكلِّ خطوة أجرَ سنةٍ صيامِها وقيامِها. قال عبد الرزاق: عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي قِلابة، عن أبي الأشعث الصنعاني، عن أوس بن أوس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَن غسّل واغتسل يوم الجمعة، وبكّر وابتكر، ودنا من الإمام فأنصت= كان له بكلِّ خطوة يخطوها صيامُ سنة وقيامُها، وذلك على الله يسير». قال الإمام أحمد: غسّل بالتشديد: جامع أهله. وكذلك فسّره وكيع.

الثامنة عشر: أنه يوم تكفير السيئات. فقد روى الإمام أحمد في «مسنده» عن سلمان قال: قال لي النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أتدري ما يوم الجمعة؟». قلت: هو اليوم الذي جمع الله فيه أباكم. قال: «لكنِّي أدري ما يوم الجمعة. لا يتطهَّر الرجل، فيُحسِن طهوره، ثم يأتي الجمعة، فينصِت حتى يقضي الإمام صلاته= إلا كان كفارةً لما بينه وبين الجمعة المقبلة، ما اجتُنِبت المَقْتلة».

وفي «المسند» أيضًا من حديث عطاء الخراساني عن نُبيشة الهُذَلي أنه كان يحدِّث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ المسلم إذا اغتسل يوم الجمعة، ثم أقبل إلى المسجد لا يؤذي أحدًا، فإن لم يجد الإمام خرَج، صلّى ما بدا له. وإن وجد الإمام قد خرَج جلَس، فاستمع وأنصَت حتى يقضي الإمام جمعته وكلامه= إن لم يُغفر له في جمعته تلك ذنوبه كلُّها، أن تكون كفارةً للجمعة التي تليها».

وفي «صحيح البخاري» عن سلمان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يغتسل رجل يوم الجمعة، ويتطهَّر ما استطاع من طُهْرٍ، ويدَّهن من دهنه أو يمسُّ من طيب بيته، ثم يخرج فلا يفرِّق بين اثنين، ثم يصلِّي ما كُتِب له، ثم يُنْصِت إذا تكلَّم الإمام= إلا غُفِر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى».

وفي «مسند أحمد» من حديث أبي الدرداء قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من اغتسل يوم الجمعة، ثم لبس ثيابه ومسَّ طيبًا إن كان عنده، ثم مشى إلى الجمعة وعليه السكينة، ولم يتخطَّ أحدًا ولم يؤذه، وركع ما قُضي له، ثم انتظر حتى ينصرف الإمام= غُفِر له ما بين الجمعتين».

التاسعة عشر: أنَّ جهنَّم تُسْجَر كلَّ يوم إلا يوم الجمعة. وقد تقدَّم حديث أبي قتادة في ذلك. وسرُّ ذلك ــ والله أعلم ــ أنه أفضل الأيام عند الله ويقع فيه من العبادات والطاعات والدعوات والابتهال إلى الله سبحانه ما يمنع من سَجْر جهنَّم فيه. ولذلك تكون معاصي أهل الإيمان فيه أقلَّ من معاصيهم في غيره، حتى إنَّ أهل الفجور ليمتنعون فيه مما لا يمتنعون منه في يوم السبت وغيره.

وهذا الحديث، الظاهر أنَّ المراد منه سَجْر جهنَّم في الدنيا، وأنها توقد كلَّ يوم إلا يوم الجمعة. وأما يوم القيامة، فإنَّها لا يفتُر عذابها، ولا يخفَّف عن أهلها الذين هم أهلُها يومًا من الأيام. ولذلك يدعُون الخزَنةَ أن يدعوا ربَّهم، فيخفِّفَ عنهم يومًا من العذاب، فلا يجيبونهم إلى ذلك.

‌‌العشرون: أن فيه ساعة الإجابة، وهي الساعة التي لا يُسأل الله فيها شيئًا إلا أعطاه. ففي «الصحيحين» من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ في الجمعة لساعةً لا يوافقها مسلمٌ وهو قائم يصلِّي يسأل الله عز وجلَّ شيئًا إلا أعطاه إياه» وقال بيده يقلِّلها.

وفي «المسند» من حديث أبي لُبابة البدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «سيِّد الأيام يوم الجمعة وأعظمها عند الله، وأعظم عند الله من يوم الفطر ويوم الأضحى. وفيه خمس خِلال: خلق الله آدم فيه. وأهبط الله فيه آدم إلى الأرض. وفيه توفَّى الله عزَّ وجلَّ آدم. وفيه ساعة لا يسأل العبد فيها شيئًا إلا آتاه الله إياه، ما لم يسأل فيه حرامًا. وفيه تقوم الساعة. ما من ملك مقرَّب ولا أرض ولا رياح ولا جبال ولا شجر إلا هن يشفقن من يوم الجمعة».

فصل

وقد اختلف الناس في هذه الساعة: هل هي باقية أو قد رُفعت؟ على قولين حكاهما ابن عبد البر وغيره. والذين قالوا: هي باقية ولم تُرفَع، اختلفوا هل هي في وقت من اليوم بعينه أو هي غير معيَّنة؟ على قولين. ثم اختلف من قال بعدم تعيُّنها: هل هي تنتقل في ساعات اليوم أو لا؟ على قولين أيضًا. والذين قالوا بتعيُّنها اختلفوا فيه على أحد عشر قولًا.

قال ابن المنذر: روينا عن أبي هريرة أنه قال: هي من بعد طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وبعد صلاة العصر إلى غروب الشمس.

القول الثاني: أنها عند الزوال. ذكره ابن المنذر عن الحسن البصري وأبي العالية.

الثالث: أنها إذا أذَّن المؤذن لصلاة الجمعة. قال ابن المنذر: روِّينا ذلك عن عائشة.

الرابع: أنها إذا جلس الإمام على المنبر حتى يفرغ. قال ابن المنذر: روِّيناه عن الحسن البصري.

الخامس قاله أبو بردة: هي الساعة التي اختار الله وقتها للصلاة.

السادس قاله أبو السَّوَّار العَدَوي. قال: كانوا يرون أنَّ الدعاء مستجابٌ ما بين زوال الشمس إلى أن تدخل الصلاة.

السابع قاله أبو ذر: إنها ما بين أن تزيغ الشمس شبرًا إلى ذراع.

الثامن: أنها ما بين العصر إلى غروب الشمس. قاله أبو هريرة وعبد الله بن سلام وطاوس.

حكى ذلك كله ابن المنذر.

التاسع: أنها آخر ساعة بعد العصر. وهو قول أحمد وجمهور الصحابة والتابعين.

العاشر: أنها من حين خروج الإمام إلى فراغ الصلاة. حكاهما النواوي وغيره.

الحادي عشر: أنها الساعة الثالثة من النهار. حكاه صاحب «المغني» فيه.

وقال كعب: لو قسم إنسان جُمَعَهً في جُمَعٍ أتى على تلك الساعة. وقال عمر: إنَّ طلبَ حاجةٍ في يوم ليسيرٌ.

وأرجح هذه الأقوال: قولان تضمَّنتهما الأحاديث الثابتة، وأحدهما أرجح من الآخر.

القول الأول: إنها ما بين جلوس الإمام إلى انقضاء الصلاة. وحجَّة هذا القول ما رواه مسلم في «صحيحه» من حديث أبي بردة بن أبي موسى: أنَّ عبد الله بن عمر قال له: أسمعت أباك يحدِّث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شأن ساعة الجمعة؟ قال: نعم، سمعته يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تُقضى الصلاة».

وروى ابن ماجه والترمذي من حديث عمرو بن عوف المزَني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنَّ في الجمعة ساعةً لا يسأل الله العبد فيها شيئًا إلا آتاه الله إياه». قالوا: يا رسول الله، أية ساعة هي؟ قال: «حين تقام الصلاة إلى انصرافٍ منها».

والقول الثاني: إنها بعد العصر. وهذا أرجح القولين، وهو قول عبد الله بن سلام وأبي هريرة والإمام أحمد وخلق. وحجة هذا القول ما روى أحمد في «مسنده» من حديث أبي سعيد وأبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنَّ في الجمعة ساعةً لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها خيرًا إلا أعطاه إياه، وهي بعد العصر».

وروى أبو داود والنسائي عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعةً، فيها ساعة لا يوجد مسلمٌ يسأل الله فيها شيئًا إلا أعطاه، فالتمِسوها آخرَ ساعة بعد العصر».

وروى سعيد بن منصور في «سننه» عن أبي سَلَمة بن عبد الرحمن أن ناسًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اجتمعوا، فتذاكروا الساعة التي في يوم الجمعة، فتفرَّقوا، ولم يختلفوا أنها آخر ساعة من يوم الجمعة.

وفي «سنن ابن ماجه» عن عبد الله بن سلام قال: قلت ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس: إنَّا لَنجد في كتاب الله في يوم الجمعة ساعةٌ لا يوافقها عبد مؤمن يصلِّي يسأل الله عز وجل فيها شيئًا إلا قضى الله له حاجته. قال عبد الله: فأشار إليَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «أو بعضُ ساعة». فقلت: صدقتَ يا رسول الله، أو بعض ساعة. قلت: أيُّ ساعة هي؟ قال: «آخر ساعة من ساعات النهار». قلت: إنها ليست ساعة صلاة. قال: «بلى، إنَّ العبد المؤمن إذا صلّى ثم جلس لا يُجْلِسه إلا الصلاة فهو في صلاة».

وفي «مسند أحمد» من حديث أبي هريرة قال: قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: لأيِّ شيءٍ سمِّي يوم الجمعة؟ قال: «لأنَّ فيها طُبِعت طينة أبيك آدم، وفيها الصعقة والبعثة، وفيها البطشة. وفي آخر ثلاث ساعاتٍ منها ساعةٌ مَن دعا الله عزَّ وجلَّ فيها استجيب له».

وفي سنن أبي داود والترمذي والنسائي من حديث أبي سلَمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خيرُ يومٍ طلعت فيه الشمس يومُ الجمعة. فيه خُلِق آدم، وفيه أُهْبِط، وفيه تِيبَ عليه، وفيه مات، وفيه تقوم الساعة. وما من دابَّة إلا وهي مُصِيخة يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس شفقًا من الساعة إلا الجنَّ والإنسَ. وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلِّي يسأل الله عز وجل حاجةً إلا أعطاه إياها». قال كعب: ذلك في كلِّ سنة يومٌ؟ فقلت: بل في كلِّ جمعة. قال: فقرأ كعب التوراة، فقال: صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال أبو هريرة: ثم لقيتُ عبد الله بن سلام، فحدَّثته بمجلسي مع كعب، فقال عبد الله بن سلام: وقد علمتُ أية ساعة هي. قال أبو هريرة: فقلت: أخبِرني بها. فقال عبد الله بن سلام: هي آخرُ ساعةٍ من يوم الجمعة. فقلت: كيف هي آخرُ ساعةٍ من يوم الجمعة، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلِّي»، وتلك الساعة لا يصلَّى فيها؟ فقال عبد الله بن سلام: ألم يقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من جلس مجلسًا ينتظر الصلاة فهو في صلاة حتى يصلِّي»؟ قال: فقلت: بلى. قال: هو ذاك. قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وفي «الصحيحين» بعضه.

وأما من قال: إنها من حين يفتتح الخطبةَ إلى فراغه من الصلاة، فاحتجَّ بما روى مسلم في «صحيحه» عن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري قال: قال عبد الله بن عمر: أسمعتَ أباك يحدِّث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شأن ساعة الجمعة؟ قال: قلت: نعم، سمعته يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن يقضي الإمام الصلاة».

وأما من قال: هي ساعة الصلاة، فاحتجُّوا بما رواه الترمذي وابن ماجه من حديث عمرو بن عوف المزَني قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن في الجمعة ساعةً لا يسأل الله العبد فيها شيئًا إلا آتاه الله إياه». قالوا: يا رسول الله، أية ساعة هي؟ قال: «حين تقام الصلاة إلى انصرافٍ منها». ولكن هذا الحديث ضعيف، قال أبو عمر بن عبد البر: هو حديث لم يروه فيما علمتُ إلا كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جدِّه، وليس هو ممن يُحتجُّ به.

وقد روى رَوح بن عبادة، عن عوف، عن معاوية بن قرة، عن أبي بردة بن أبي موسى أنه قال لعبد الله بن عمر: هي الساعة التي يخرج فيها الإمام إلى أن تُقضى الصلاة. فقال ابن عمر: أصاب الله بك!

وروى عبد الرحمن بن حُجَيرة عن أبي ذرٍّ أنَّ امرأته سألته عن الساعة التي يستجاب فيها يوم الجمعة للعبد المؤمن، فقال لها: مع زَيغ الشمس بيسير. فإن سألتني بعدها فأنت طالق!

واحتجَّ هؤلاء أيضًا بقوله في حديث أبي هريرة: «وهو قائم يصلِّي»، وبعد العصر لا صلاة في ذلك الوقت، والأخذُ بظاهر الحديث أولى.

قال أبو عمر: ويحتجُّ أيضًا مَن ذهب إلى هذا بحديث عليٍّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إذا زالت الشمس، وفاءت الأفياء، وراحت الأرواح؛ فاطلبوا إلى الله حوائجكم، فإنها ساعة الأوابين». ثم تلا: {إِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء: 25].

وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: الساعة التي تُذكَر يوم الجمعة: ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، وكان سعيد بن جبير إذا صلَّى العصر لم يكلِّم أحدًا حتى تغرب الشمس.

وهذا القول هو قول أكثر السلف، وعليه أكثر الأحاديث. ويليه القول بأنها ساعة الصلاة. وبقية الأقوال لا دليل عليها. وعندي أنَّ ساعةَ الصلاة ساعةٌ ترجى فيها الإجابة أيضًا، فكلاهما ساعة إجابة. وإن كانت الساعة المخصوصة هي آخرَ ساعة بعد العصر، فهي ساعة معيَّنة من اليوم، لا تتقدَّم ولا تتأخَّر. وأمَّا ساعة الصلاة فتابعة للصلاة، تقدَّمت أو تأخَّرت، لأنَّ لاجتماع المسلمين وصلاتهم وتضرُّعهم وابتهالهم إلى الله تأثيرًا في الإجابة، فساعةُ اجتماعهم ساعةٌ ترجى فيها الإجابة. وعلى هذا، فتتفق الأحاديث كلُّها، ويكون النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قد حضَّ أمَّتَه على الدعاء والابتهال إلى الله في هاتين الساعتين.

ونظير هذا: قوله - صلى الله عليه وسلم - وقد سئل عن المسجد الذي أُسِّس على التقوى فقال: «هو مسجدكم هذا»، وأشار إلى مسجد المدينة. وهذا لا ينفي أن يكون مسجد قباء الذي نزلت فيه الآية مؤسَّسًا على التقوى، بل كلٌّ منهما مؤسَّس على التقوى. فكذلك قوله في ساعة الجمعة: «هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تُقضى الصلاة» لا ينافي قولَه في الحديث الآخر: «فالتمِسُوها آخرَ ساعة بعد العصر».

ويشبه هذا في الأسماء قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ما تعدُّون الرَّقوب فيكم؟». قالوا: مَن لم يولد له. قال: «الرَّقوب مَن لم يقدِّم مِن ولده شيئًا». فأخبر أن هذا هو الرقوب، إذ لم يحصل له من ولده من الأجر ما حصل لمن قدَّم منهم فَرَطًا.

وهذا لا ينفي أن يسمَّى من لم يولد له رقوبًا.

ومثله قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ما تعدُّون المفلس فيكم؟». قالوا: مَن لا درهم له ولا متاع. قال: «المفلس من يأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال، ويأتي قد لطَم هذا، وضرَب هذا، وسفَك دم هذا؛ فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته … » الحديث.

ومثله قوله: «ليس المسكين بهذا الطوَّاف الذي تردُّه اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين: الذي لا يسأل الناس، ولا يُفطَن له فيُتصدَّقَ عليه».

وهذه الساعة ــ وهي آخر ساعة بعد العصر ــ يعظِّمها جميع الملل. وعند أهل الكتاب هي ساعة الإجابة، وهذا مما لا غرض لهم في تبديله وتحريفه، وقد اعترف به مؤمنوهم.

وأما من قال بتنقُّلها، فرامَ الجمعَ بذلك بين الأحاديث، كما قيل ذلك في ليلة القدر. وهذا ليس بقوي، فإنَّ ليلة القدر قد قال فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فالتمِسُوها في خامسةٍ تبقى، في سابعة تبقى، في تاسعة تبقى»، ولم يجئ مثل ذلك في ساعة الجمعة. وأيضًا فالأحاديث التي في ليلة القدر ليس فيها حديث صريح بأنها ليلة كذا وكذا، بخلاف أحاديث ساعة الجمعة، فظهر الفرق بينهما.

وأما قول من قال: رُفِعت، فهو نظير قول من قال: رُفِعت ليلة القدر. وهذا القائل إن أراد أنها كانت معلومةً، فرُفِع علمُها عن الأمة؛ فيقال له: لم يُرفَع علمُها عن كلِّ الأمة، وإن رُفِع عن بعضهم. وإن أراد أنَّ حقيقتها وكونَها ساعةَ إجابة رُفِعت، فقول باطل مخالف للأحاديث الصحيحة الصريحة، فلا يعوَّل عليه. والله أعلم.

الحادية والعشرون: أنَّ فيه صلاة الجمعة التي خُصَّت من بين سائر الصلوات المفروضات بخصائص لا توجد في غيرها: من الاجتماع، والعدد المخصوص، واشتراط الإقامة والاستيطان، والجهر فيها بالقراءة. وقد جاء من التشديد فيها ما لم يأت نظيره إلا في صلاة العصر. ففي «السنن الأربعة» من حديث أبي الجَعْد الضَّمْري ــ وكانت له صحبة ــ أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من ترك ثلاثَ جُمَع تهاونًا طبع الله على قلبه». قال الترمذي: حديث حسن، وسألت محمدًا عن اسم أبي الجعد الضَّمْري فلم يعرف اسمه، وقال: لا أعرف له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا هذا الحديث.

وقد جاء في «السنن» عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الأمرُ لمن تركها أن يتصدَّق بدينار فإن لم يجد فبنصف دينار. رواه أبو داود والنسائي من رواية قُدامة بن وَبْرة عن سَمُرة بن جندب. ولكن قال أحمد: قدامة بن وبرة لا يُعرف. وقال يحيى بن معين: ثقة. وحكي عن البخاري: لا يصحُّ سماعه من سَمُرة بن جندب.

وأجمع المسلمون على أن الجمعة فرض عين إلا قولًا يحكى عن الشافعي إنها فرض كفاية. وهو غلط عليه، منشؤه أنه قال: وأما صلاة العيد فتجب على من تجب عليه صلاة الجمعة. فظنَّ هذا القائل أن العيد لما كانت فرض كفاية كانت الجمعة كذلك. وهذا فاسد، بل هذا نصٌّ من الشافعي أنَّ العيد واجبة على الجميع. وهذا يحتمل أمرين: أن يكون فرضَ عين كالجمعة، وأن يكون فرض كفاية، فإنَّ فرض الكفاية يجب على الجميع كفرض الأعيان سواء، وإنما يختلفان في سقوطه عن البعض ــ بعد وجوبه ــ بفعل الآخرين.

‌‌الثانية والعشرون: أنَّ فيه الخطبة التي مقصودها الثناء على الله وتمجيده، والشهادةُ له بالوحدانية، ولرسوله بالرسالة، وتذكيرُ العباد بأيامه، وتحذيرُهم من بأسه ونِقَمه، ووصيَّتُهم بما يقرِّبهم إليه وإلى جنَّاته، ونهيهم عما يقرِّبهم من سخطه وناره، فهذا هو مقصود هذه الخطبة والاجتماع لها.

الثالثة والعشرون: أنه اليوم الذي يستحَبُّ التفرُّغُ فيه للعبادة، وله على سائر الأيام مزيَّةٌ بأنواعٍ من العبادات واجبةٍ ومستحبَّةٍ. فالله سبحانه جعل لأهل كلِّ ملَّة يومًا يتفرَّغون فيه لعبادته، ويتخلَّون فيه عن أشغال الدنيا، فيومُ الجمعة يومُ عبادة. وهو في الأيام كشهر رمضان في الشهور، وساعة الإجابة فيه كليلة القدر في رمضان. ولهذا من صحَّ له يومُ جمعته وسلِمَ سلِمَتْ له سائرُ جمعته. ومن صحَّ له رمضانُ وسَلِم صحَّت له سائرُ سَنته. ومن صحَّت له حجَّته وسلِمَتْ صحَّ له سائر عُمره. فيومُ الجمعة ميزان الأسبوع، ورمضانُ ميزان العام، والحجُّ ميزان العمر. وبالله التوفيق.

الرابعة والعشرون: أنه لما كان في الأسبوع كالعيد في العام، وكان العيد مشتملًا على صلاة وقربان، وكان يومُ الجمعة يومَ صلاة= جعل الله سبحانه التعجيل فيه إلى المسجد بدلًا من القربان وقائمًا مقامه، فيجتمع للرائح فيه إلى المسجد الصلاة والقربان، كما في «الصحيحين» عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «مَن راح في الساعة الأولى فكأنما قرَّب بدَنةً. ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرَّب بقرةً. ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرَّب كبشًا».

وقد اختلف الفقهاء في هذه الساعات على قولين:

أحدهما: أنها من أول النهار. وهذا هو المعروف في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما.

والثاني: أنها أجزاء من الساعة السادسة بعد الزوال. وهذا هو المعروف في مذهب مالك، واختاره بعض الشافعية. واحتجُّوا عليه بحجَّتين:

إحداهما: أنَّ الرَّواح لا يكون إلا بعد الزَّوال، وهو مقابل الغُدوِّ الذي لا يكون إلا قبل الزَّوال. قال تعالى: {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ: 12]. قال الجوهري: ولا يكون إلا بعد الزوال.

الحجة الثانية: أن السلف كانوا أحرص شيء على الخير، ولم يكونوا يغدُون إلى الجمعة من وقت طلوع الشمس. وأنكر مالكٌ التبكيرَ إليها في أول النهار، وقال: لم ندرك عليه أهل المدينة.

واحتجَّ أصحاب القول الأول بحديث جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يوم الجمعة اثنا عشر ساعةً». قالوا: والساعات المعهودة هي الساعات التي هي اثنا عشر. وهي نوعان: ساعات معتدلة وساعات زمانية. قالوا: ويدل على هذا القول أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إنما بلغ بالساعات إلى سِتٍّ لم يزد عليها. ولو كانت الساعات أجزاءً صغارًا من الساعة التي تُفعَل فيها الجمعة لم تنحصر

في ستة أجزاء؛ بخلاف ما إذا كان المراد بها الساعات المعهودة، فإن الساعة السادسة متى خرجت ودخلت السابعة خرج الإمام، وطُويت الصحف ولم يُكتَب لأحد قربانٌ بعد ذلك، كما جاء مصرَّحًا به في «سنن أبي داود» من حديث علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا كان يومُ الجمعة غدَتِ الشياطين براياتها إلى الأسواق، فيرمُون الناس بالتَّرابيث، ويثبِّطونهم عن الجمعة. وتغدو الملائكة، فتجلس على أبواب المساجد، فيكتبون الرجل من ساعة، والرجل من ساعتين، حتَّى يخرج الإمام».

قال أبو عمر بن عبد البر: اختلف أهل العلم في تلك الساعات. فقالت طائفة منهم: أراد الساعات من طلوع الشمس وصفائها، وهو الأفضل عندهم: البكور في ذلك الوقت إلى الجمعة. وهو قول الثوري وأبي حنيفة والشافعي وأكثر العلماء، كلُّهم يستحِبُّ البكور إليها.

قال الشافعي: ولو بكَّر إليها بعد الفجر وقبل طلوع الشمس كان حسنًا. وذكر الأثرم قال: قيل لأحمد بن حنبل: كان مالك بن أنس يقول: لا ينبغي التهجير يوم الجمعة باكرًا، فقال: هذا خلافُ حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال: سبحان الله! إلى أيِّ شيء ذهب في هذا، والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: «كالمُهْدي جَزورًا»؟

قال: وأما مالك، فذكر يحيى بن عمر عن حرملة أنه سأل ابن وهب عن تفسير هذه الساعات: أهو الغدوُّ من أول ساعات النهار، أو إنما أراد بهذا القول ساعات الرَّواح؟ فقال ابن وهب: سألت مالكًا عن هذا، فقال: أما الذي يقع بقلبي فإنه إنما أراد ساعةً واحدةً تكون فيها هذه الساعاتُ، مَن راح في أول تلك الساعة أو الثانية أو الثالثة أو الرابعة أو الخامسة. ولو لم يكن كذلك ما صُلِّيت الجمعة حتى يكون النهار تسعَ ساعات، في وقت العصر أو قريبًا من ذلك.

وكان ابن حبيب ينكر قول مالكٍ هذا، ويميل إلى القول الأول، وقال: قولُ مالك هذا تحريفٌ في تأويل الحديث، ومحالٌ من وجوه. قال: وذلك أنه لا تكون ساعات في ساعة واحدة. قال: والشمس إنما تزول في الساعة السادسة من النهار، وهو وقت الأذان وخروج الإمام إلى الخطبة. فدلَّ ذلك على أن الساعات في هذا الحديث هي ساعات النهار المعروفات. فبدأ بأول ساعات النهار، فقال: «مَن راح في الساعة الأولى فكأنما قرَّب بدَنةً». ثم قال في الخامسة: «بيضةً». ثم انقطع التهجير، وحان وقت الأذان. قال: فشرحُ الحديث بيِّن في لفظه، ولكنه حُرِّف عن موضعه، وشُرِح بالخُلْف من القول وما لا يتكوَّن. وزهَّد شارحُه الناسَ فيما رغَّبهم فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من التهجير في أول النهار، وزعم أنَّ ذلك كلَّه إنما يجتمع في ساعة واحدة قربَ زوال الشمس. قال: وقد جاءت الآثار بالتهجير إلى الجمعة في أول النهار، وقد سُقنا ذلك في موضعه من كتاب «واضح السنن» بما فيه بيان وكفاية.

هذا كلُّه قول عبد الملك بن حبيب. ثم ردَّ عليه أبو عمر، فقال: هذا منه تحاملٌ على مالك - رحمه الله -، فهو الذي قال القول الذي أنكره وجعله خُلْفًا وتحريفًا من التأويل. والذي قاله مالك تشهد له الآثار الصِّحاح من رواية الأئمة، ويشهد له أيضًا العملُ بالمدينة عنده، وهذا مما يصحُّ فيه الاحتجاج بالعمل لأنه أمر متردِّد كلَّ جمعة لا يخفى على عامة العلماء.

فمن الآثار التي يُحتجُّ بها لمالك: ما رواه الزهري عن سعيد بن المسيِّب عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا كان يومُ الجمعة قام على كلِّ باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الناسَ الأوّلَ فالأوّلَ. فالمهجِّر إلى الجمعة كالمُهْدي بدَنةً، ثم الذي يليه كالمُهْدي بقرةً، ثم الذي يليه كالمُهْدي كبشًا، حتى ذكر الدجاجة والبيضة. فإذا جلس الإمام طُويت الصُّحف، واستمعوا الخطبة».

قال: ألا ترى ما في هذا الحديث أنَّه قال: «يكتبون الناس الأول فالأول. المهجِّر إلى الجمعة كالمُهْدي بدنةً، ثم الذي يليه» الحديث. فجعل الأول مهجِّرًا. وهذه اللفظة إنما هي مأخوذة من الهاجرة والهَجير، وذلك وقت النهوض إلى الجمعة. وليس ذلك وقت طلوع الشمس، لأنَّ ذلك الوقت ليس بهاجرة ولا هَجير. وفي الحديث: «ثم الذي يليه، ثم الذي يليه» ولم يذكر الساعة.

قال: والطرق بهذا اللفظ كثيرة مذكورة في «التمهيد». وفي بعضها: «المتعجِّل إلى الجمعة كالمُهْدي بدَنةً». وفي أكثرها: «المهجِّر إلى الجمعة كالمُهْدي بدَنة … » الحديث. وفي بعضها ما يدل على أنه جعل الرائح إلى الجمعة في أول الساعة كالمُهْدي بدنةً، وفي آخرها كذلك. وفي أول الساعة الثانية كالمُهْدي بقرةً، وفي آخرها كذلك.

وقال بعض أصحاب الشافعي: لم يُرد النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «المهجِّر إلى الجمعة كالمُهْدي بدنةً» الناهضَ إليها في الهجير والهاجرة، وإنما أراد التارك لأشغاله وأعماله من طلبِ الدنيا للنهوض إلى الجمعة كالمُهْدي بدنةً.

وذلك مأخوذ من الهجرة، وهو تركُ الوطن والنهوضُ إلى غيره، ومنه سمِّي المهاجرون. قال الشافعي: أحبُّ التبكير إلى الجمعة، ولا تُؤتى إلا مشيًا. هذا كلُّه كلام أبي عمر.

قلت: ومدار إنكار التبكير أوَّلَ النَّهار على ثلاثة أمور، أحدها: على لفظة «الرَّواح»، وأنها لا تكون إلا بعد الزوال. والثاني: لفظة «التهجير»، وهي إنما تكون بالهاجرة وقت شدَّة الحرِّ. والثالث: عمل أهل المدينة، فإنَّهم لم يكونوا يأتون من أول النهار.

فأما لفظة «الرَّواح»، فلا ريب أنَّها تُطلَق على المضيِّ بعد الزَّوال. وهذا إنما يكون في الأكثر إذا قُرنت بالغُدوِّ، كقوله تعالى: {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ: 12]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من غدا إلى المسجد وراح أعدَّ الله له نُزُلًا في الجنَّة كلمَّا غدا وراح»، وقول الشاعر:

نروح ونغدو لحاجاتنا … وحاجةُ مَن عاش لا تنقضي

وقد يطلَق الرَّواحُ بمعنى الذهاب والمُضيِّ، وهذا إنما يجيء إذا كانت مجرَّدةً عن الاقتران بالغُدوِّ. قال الأزهري في «التهذيب»: سمعت العرب تستعمل الرَّواحَ في السَّير كلَّ وقت. تقول: راح القوم، إذا ساروا وغدَوا. ويقول أحدهم لصاحبه: تروَّحْ. ويخاطب أصحابه، فيقول: رُوحوا أي سيروا. ويقول الآخر: ألا تروحون؟ ونحو ذلك ما جاء في الأخبار الصحيحة الثابتة، وهو بمعنى المضيِّ إلى الجمعة والخفَّة إليها، لا بمعنى الرَّواح بالعشي.

وأما لفظ التهجير والهجير والمهجِّر فمن الهَجْر والهاجرة. قال الجوهري: هي نصف النهار عند اشتداد الحرِّ. تقول منه: هجَّر النَّهارُ. قال امرؤ القيس:

فدَعْها وسَلِّ الهَمَّ عنها بجَسْرةٍ … ذَمُولٍ إذا صام النَّهارُ وهجَّرا

ويقال: أتينا أهلَنا مُهْجِرين، أي في وقت الهاجرة. والتهجير والتهجُّر: السَّير في الهاجرة.

فهذا ما يقرَّر به قولُ أهل المدينة.

قال الآخرون: الكلام في لفظ التهجير كالكلام في لفظ الرَّواح، فإنه يطلق ويراد به التبكير. قال الأزهري في «التهذيب»: روى مالك عن سُمَيٍّ عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لو يعلم الناسُ ما في التهجير لَاسْتَبقُوا إليه». وفي حديث آخر مرفوع: «المهجِّر إلى الجمعة كالمُهْدي بدَنةً». قال: يذهب كثير من الناس إلى أنَّ التهجير في هذه الأحاديث من الهاجرة وقتَ الزَّوال، وهو غلط. والصواب فيه ما روى أبو داود المصاحفي عن النَّضْر بن شُمَيل أنه قال: التهجير إلى الجمعة وغيرها: التبكير. قال: وسمعت الخليل يقول ذلك، قاله في تفسير هذا الحديث. قال الأزهري: وهذا صحيح. وهي لغة أهل الحجاز ومن جاورهم من قيس. قال لبيد:

راحَ القَطينُ بهَجْرٍ بعد ما ابتكروا، فقرَنَ الهَجْرَ بالابتكار. والرَّواحُ عندهم: الذهاب والمضي. يقال: راح القوم إذا خفُّوا ومرُّوا أيَّ وقت كان.

وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لو يعلم الناسُ ما في التهجير لَاسْتَبقُوا إليه» أراد التبكير إلى جميع الصلوات، وهو المضيُّ إليها في أول أوقاتها. قال الأزهري: وسائر العرب يقولون: هجَّر الرجلُ، إذا خرج بالهاجرة. وروى أبو عبيد عن أبي زيد: هجَّر الرجلُ، إذا خرج بالهاجرة. قال: وهي نصف النهار.

ثم قال الأزهري: أنشدني المنذري فيما روى لثعلب عن ابن الأعرابي في «نوادره» قال: قال جِعْثِنَة بن جوَّاس الرَّبَعي في ناقته:

هل تذكرين قسَمي ونَذْري … أزمانَ أنتِ بعَرُوضِ الجَفْرِ

إذ أنتِ مِضْرارٌ جوادُ الحُضْرِ … عليَّ إن لم تنهَضي بوِقْرِ

بأربعين قُدِّرتْ بقَدْرِ … بالخالديِّ لا بصاعِ حَجْرِ

وتصحَبي أَيانِقًا في سَفْر … يهجِّرون بهَجِير الفجر

ثُمَّتَ تَسْري ليلهم فتَسْري … يطوُون أعراضَ الفِجَاج الغُبْر

طيَّ أخي التَّجْرِ بُرودَ التَّجْرِ

قال الأزهري: «يهجِّرون بهجير الفجر» أي يبكِّرون بوقت الفجر.

وأما كون أهل المدينة لم يكونوا يروحون إلى الجمعة أولَ النهار، فهذا غايته أنه عملهم في زمان مالك - رحمه الله -، وهذا ليس بحجة ولا عند من يقول: إجماع أهل المدينة حجة، فإنَّ هذا ليس فيه إلا تركُ الرَّواح إلى الجمعة من أول النهار، وهذا جائز بالضرورة. وقد يكون اشتغالُ الرجل بمصالحه ومصالح أهله ومعايشه وغير ذلك من أمور دينه ودنياه أفضلَ من رواحه إلى الجمعة من أول النهار.

ولا ريب أنَّ انتظارَ الصلاة بعد الصلاة وجلوسَ الرجل في مصلَّاه حتى يصلِّي الصلاة الأخرى أفضل من ذهابه ورجوعه في وقت الثانية، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «والذي ينتظر الصلاة حتى يصلِّيها مع الإمام أفضل من الذي يصلِّي ثم يرجع إلى أهله». وأخبر أنَّ الملائكة لم تزل تصلِّي عليه ما دام في مصلَّاه. وأخبر أنَّ انتظار الصلاة بعد الصلاة مما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات وأنه الرِّباط. وأخبر أنَّ الله تعالى يباهي ملائكته بمن قضى فريضةً وجلس ينتظر أخرى. وهذا يدل على أنَّ من صلّى الصبح ثم جلس ينتظر الجمعة فهو أفضل ممَّن يذهب ثم يجيء في وقتها. وكون أهل المدينة وغيرهم لا يفعلون ذلك لا يدل على أنه مكروه، فهكذا المجيء إليها والتبكير في أول النهار. والله أعلم.

الخامسة والعشرون: أنَّ للصدقة فيه مزية عليها في سائر الأيام. والصدقةُ فيه بالنسبة إلى سائر أيام الأسبوع كالصدقة في شهر رمضان بالنسبة إلى سائر الشهور. وشاهدت شيخ الإسلام ابن تيمية قدَّس الله روحه إذا خرج إلى الجمعة يأخذ من البيت ما وجد من خبز أو غيره، فيتصدَّق به في طريقه سِرًّا. وسمعته يقول: إذا كان الله قد أمرَنا بالصدقة بين يدي مناجاة رسوله فالصدقةُ بين يدي مناجاته عزَّ وجلَّ أولى بالفضيلة.

وقال أحمد بن زهير بن حرب: ثنا أبي، ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: اجتمع أبو هريرة وكعب، فقال أبو هريرة: «إنَّ في الجمعة لساعةً لا يوافقها رجل مسلم في صلاة يسأل الله عزَّ وجلَّ شيئًا إلا آتاه إياه». فقال كعب: أنا أحدِّثكم عن يوم الجمعة: إنه إذا كان يومُ الجمعة فزعت له السَّماوات والأرض والبَرّ والبحر والجبال والشجر والخلائق كلُّها إلا ابن آدم والشياطين، وحَفَّت الملائكة بأبواب المسجد فيكتبون مَن جاء: الأولَ فالأولَ حتى يخرج الإمام. فإذا خرج الإمام طوَوا صحفهم، فمَن جاء بعدُ جاء لحقِّ الله وما كتب عليه. وحقٌّ على كلِّ حالم أن يغتسل يومئذ كاغتساله من الجنابة. والصدقةُ فيه أعظم من الصدقة في سائر الأيام. ولم تطلع الشمس ولم تغرب على مثل يوم الجمعة. فقال ابن عباس: «هذا حديث كعب وأبي هريرة. وأنا أرى إن كان لأهله طيبٌ يمَسُّ منه».

السادسة والعشرون: أنه يومُ تجلِّي الله عز وجل لأوليائه المؤمنين في الجنَّة وزيارتهم له، فيكون أقربُهم منه أقربَهم من الإمام، وأسبقُهم إلى الزيارة أسبقَهم إلى الجمعة. روى يحيى بن يمان عن شريك، عن أبي اليقظان، عن أنس بن مالك في قوله عز وجل: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: 35]، قال: «يتجلَّى لهم في كل جمعة».

وذكر الطبراني في «معجمه» من حديث أبي نعيم، ثنا المسعودي، عن المنهال بن عمرو، عن أبي عبيدة قال: قال عبد الله: «سارعوا إلى الجُمَع، فإن الله عز وجل يبرز إلى أهل الجنَّة في كلِّ جمعة في كثيب من كافور، فيكونون منه من القرب على قدر تسارعهم إلى الجمعة، فيُحدِث الله عزَّ وجلَّ لهم من الكرامة شيئًا لم يكونوا رأوه قبل ذلك. ثم يرجعون إلى أهليهم فيحدِّثونهم بما أحدث الله لهم». قال: ثم دخل عبد الله المسجد، فإذا هو برجلين. فقال عبد الله: «رجلان، وأنا الثالث. إن يشأ الله يبارك في الثالث».

وذكر البيهقي في «الشُّعَب» عن علقمة بن قيس قال: رُحْت مع عبد الله بن مسعود إلى جمعة، فوجد ثلاثةً قد سبقوه، فقال: رابع أربعة، وما رابعُ أربعة ببعيد! ثم قال: إنِّي سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الناس يجلسون يوم القيامة من الله على قدر رَواحهم إلى الجمعة: الأول، ثم الثاني، ثم الثالث، ثم الرابع». قال: «وما رابعُ أربعةٍ ببعيد».

وقال الدارقطني: ثنا أحمد بن سلمان بن الحسن، ثنا محمد بن عثمان بن محمد، ثنا مروان بن جعفر، ثنا نافع أبو الحسن مولى بني هاشم، ثنا عطاء بن أبي ميمونة، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا كان يومُ القيامة رأى المؤمنون ربَّهم، فأحدثهم عهدًا بالنظر إليه في كلِّ جمعة، وتراه المؤمنات يوم الفطر ويوم النحر».

قال: وحدثنا محمد بن نوح، ثنا موسى بن سفيان السُّكَّري، ثنا عبد الله بن الجهم الرازي، ثنا عمرو بن أبي قيس، عن أبي ظبية، عن عاصم، عن عثمان بن عمير أبي اليقظان، عن أنس بن مالك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أتاني جبريل عليه السلام، وفي يده كالمرآة البيضاء، فيها كالنكتة السوداء. فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذه الجمعة يعرضها عليك ربُّك، لتكون لك عيدًا ولقومك من بعدك. قال: وما لنا فيها؟ قال: لكم فيها خير. أنت فيها الأول، واليهود والنصارى من بعدك. ولك فيها ساعة لا يسأل الله عزَّ وجلَّ عبدٌ فيها شيئًا هو له قَسْمٌ إلا أعطاه، أو ليس له قَسْمٌ إلا أعطاه أفضل منه؛ وأعاذه الله من شرِّ ما هو مكتوب عليه، وإلا دفع عنه ما هو أعظم من ذلك. قال: قلت: ما هذه النكتة السوداء؟ قال: هي الساعة تقوم يوم الجمعة. وهو عندنا سيِّد الأيام، ويدعوه أهلُ الآخرة «يوم المزيد». قال: قلت يا جبريل، وما يوم المزيد؟ قال: ذلك أنَّ ربَّك عزَّ وجلَّ أعَدَّ في الجنة واديًا أفيَحَ من مسك أبيض، فإذا كان يومُ الجمعة نزل على كرسيِّه، ثم حَفَّ الكرسيَّ بمنابر من نور، فيجيء النبيُّون حتى يجلسوا عليها. ثم حفَّ المنابر بمنابر من ذهب فيجيء الصدِّيقون والشهداء حتى يجلسوا عليها. ويجيء أهل الغرف حتى يجلسوا على الكُثُب. قال: ثم يتجلَّى لهم ربُّهم عزَّ وجلَّ.

قال: فينظرون إليه فيقول: أنا الذي صدَقتُكم وعدي، وأتممتُ عليكم نعمتي وهذا محلُّ كرامتي فسَلُوني. فيسألونه الرِّضى. قال: رضاي أنزَلَكم داري، وأنالَكم كرامتي؛ سَلُوني. فيسألونه الرِّضى. قال: فيُشْهِدهم بالرضى. ثم يسألونه حتى تنتهي رغبتهم. ثم يفتح لهم يوم الجمعة ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر. قال: ثم يرتفع ربُّ العزَّة، ويرتفع معه النبيون والشهداء، ويجيء أهلُ الغرف إلى غرفهم. قال: كلُّ غرفة من لؤلؤة لا وصلَ فيها ولا فَصْمَ، ياقوتة حمراء، أو غرفة من زَبَرْجَدة خضراء، أبوابُها وعلاليُّها وسقائفُها وأغلاقُها منها. أنهارها مطَّردة، متدلِّية فيها ثمارُها. فيها أزواجها وخدمها. قال: فليسوا إلى شيء أحوجَ منهم إلى يوم الجمعة، ليزدادوا من كرامة الله عزَّ وجلَّ ونظرًا إلى وجهه. فذلك يوم المزيد».

ولهذا الحديث عدَّة طرق ذكرها أبو الحسن الدارقطني في «كتاب الرؤية».

السابعة والعشرون: أنه قد فُسِّر «الشاهد» الذي أقسم الله به في كتابه بيوم الجمعة. قال حُمَيد بن زَنْجويه: ثنا عبيد الله بن موسى، أبنا موسى بن عبيدة، عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اليوم الموعود يوم القيامة، والمشهود يوم عرفة، والشاهد يوم الجمعة. ما طلعت شمس ولا غربت على أفضل من يوم الجمعة، فيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعو الله فيها بخير إلا استجاب له، أو يستعيذه من شرٍّ إلا أعاذه منه». ورواه الحارث بن أبي أسامة في «مسنده» عن رَوح عن موسى به. وله طرق عن موسى بن عبيدة.

وفي «معجم الطبراني» من حديث [محمد بن] إسماعيل بن عياش، حدثني أبي، حدثني ضمضم بن زُرعة، عن شريح بن عبيد، عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اليوم الموعود يوم القيامة، والشاهد يوم الجمعة، والمشهود يوم عرفة، ويومُ الجمعة ذخره الله لنا، وصلاة الوسطى صلاة العصر». وقد روي من حديث جبير بن مطعم.

قلت: والظاهر ــ والله أعلم ــ: أنه من تفسير أبي هريرة. فقد قال الإمام أحمد: ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن يونس، سمعت عمَّارًا مولى بني هاشم يحدِّث عن أبي هريرة أنه قال في هذه الآية {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج: 3] قال: الشاهدُ يوم الجمعة، والمشهودُ يوم عرفة، والموعود يوم القيامة.

الثامنة والعشرون: أنه اليوم الذي تفزع فيه السماوات والأرض والجبال والبحار والخلائق كلُّها إلَّا شياطين الإنس والجنّ. فروى أبو الجوَّاب [عن] عمار بن رُزَيق، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: اجتمع كعب وأبو هريرة، فقال أبو هريرة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ في الجمعة ساعةً لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها خير الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه». قال كعب: ألا أحدِّثكم عن يوم الجمعة؟ إنه إذا كان يومُ الجمعة فزعت له السماوات والأرض والجبال والبحور والخلائق كلها إلا ابن آدم والشياطين. وحَفَّت الملائكة بأبواب المسجد، فيكتبون الأول فالأول حتى يخرج الإمام. فإذا خرج الإمام طوَوا صحفهم، ومن جاء بعدُ جاء لحقِّ الله ولما كتب عليه. ويحِقُّ على كلِّ حالم أن يغتسل فيه كاغتساله من الجنابة. والصدقة فيه أفضل من الصدقة في سائر الأيام. ولم تطلع الشمس ولم تغرب على يوم كيوم الجمعة. قال ابن عباس: هذا حديث كعب وأبي هريرة، وأنا أرى مَن كان لأهله طيبٌ أن يمسَّ منه يومئذ.

وفي حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تطلع الشمس ولا تغرب على يوم أفضل من يوم الجمعة. وما من دابَّة إلا وهي تفزع ليوم الجمعة إلا هذين الثقلين من الجنِّ والإنس». وهو حديث صحيح.

وذلك أنه اليوم الذي تقوم فيه الساعة، ويُطوى العالم، وتخرب فيه الدنيا، ويُبعث فيه النَّاسُ إلى منازلهم من الجنَّة والنَّار.

التاسعة والعشرون: أنه اليوم الذي ادَّخَره الله لهذه الأمة، وأضلَّ عنه أهلَ الكتاب قبلهم، كما في «الصحيح» من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما طلعت الشمس ولا غربت على يومٍ خيرٍ من يوم الجمعة. هدانا الله له وضلَّ الناسُ عنه، فالناس لنا فيه تَبَعٌ. هو لنا، ولليهود يوم السبت، وللنصارى يوم الأحد». وفي حديث آخر: «ذَخَره الله لنا».

وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن عاصم، عن حصين بن عبد الرحمن، عن عمر بن قيس، عن محمد بن الأشعث، عن عائشة قالت: بينا أنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ استأذن رجل من اليهود، فأذن له فقال: السَّام عليك. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وعليك». قالت: فهممت أن أتكلَّم. قالت: ثم دخل الثانية فقال مثل ذلك، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وعليك». ثم دخل الثالثة فقال: السام عليكم، قالت: قلت: بل السَّامُ عليكم وغضبُ الله إخوانَ القردة والخنازير! أتحيُّون رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بما لم يحيِّه به الله عزَّ وجلَّ؟ قالت: فنظر إليَّ، فقال: «مَهْ، إنَّ الله لا يحبُّ الفُحْشَ ولا التفحُّش. قالوا قولًا، فرددناه عليهم، فلم يضرَّنا شيئًا، ولزمهم إلى يوم القيامة. إنهم لا يحسدونا على شيء كما يحسدونا على الجمعة التي هدانا الله لها وضلُّوا عنها، وعلى القبلة التي هدانا الله لها وضلُّوا عنها، وعلى قولنا خلف الإمام: آمين».

وفي «الصحيحين» من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بَيْدَ أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم. فهذا يومهم الذي فرض الله عليهم، فاختلفوا فيه، فهدانا الله له. فالناس لنا فيه تبع: اليهود غدًا، والنصارى بعد غد».

وفي «بَيْد» لغتان: بَيد بالباء وهي المشهورة، ومَيد بالميم حكاها أبو عبيد. وفي هذه الكلمة قولان أحدهما: أنها بمعنى غير، وهو أشهر معنييها. والثاني: بمعنى على أنَّ، وأنشد أبو عبيد شاهدًا له:

عَمْدًا فعلتُ ذاك بَيْدَ أنِّي ... إخالُ لو هلكتُ لن تُرِنِّي

تُرِنِّي: تُفْعِلي من الرنين.

الثلاثون: أنه خِيرة الله عزَّ وجلَّ من أيام الأسبوع، كما أنَّ شهر رمضان خِيرته من شهور العام، وليلة القدر خِيرته من الليالي، ومكة خِيرته من الأرض، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - خِيرته من خلقه.

قال آدم بن أبي إياس: ثنا شيبان أبو معاوية، عن عاصم بن أبي النجود، عن أبي صالح، عن كعب الأحبار قال: إنَّ الله عز وجل اختار الشهور فاختار شهر رمضان، واختار الأيام فاختار يوم الجمعة، واختار الليالي فاختار ليلة القدر، واختار الساعات فاختار ساعات الصلوات. والجمعة تكفِّر ما بينها وبين الجمعة الأخرى وتزيد ثلاثًا. ورمضان يكفِّر ما بينه وبين رمضان. والحجُّ يكفِّر ما بينه وبين الحج. والعمرة تكفِّر ما بينها وبين العمرة. ويموت الرجل بين حسنتين: حسنة قضاها، وحسنة ينتظرها، يعني صلاتين. وتصفَّد الشياطين في رمضان، وتغلَق فيه أبوابُ النار، وتفتَح فيه أبوابُ الجنَّة ويقال فيه: يا باغيَ الخير هلمَّ، رمضانَ أجمعَ. وما من ليالٍ أحبُّ إلى الله فيهنَّ العملُ من ليالي العشر.

الحادية والثلاثون: أنَّ الموتى تدنو أرواحهم من قبورهم وتُوافيها في يوم الجمعة، فيعرفون زُوَّارَهم ومن يمُرُّ بهم ويسلِّم عليهم ويلقاهم في ذلك اليوم أكثرَ من معرفتهم بهم في غيره من الأيام، فهو يومٌ تلتقي فيه الأحياء والأموات. فإذا قامت فيه الساعة التقى فيه الأولون والآخرون، وأهلُ الأرض وأهلُ السماء، والرَّبُّ والعبدُ، والعاملُ وعملُه، والمظلومُ وظالمُه، والشمسُ والقمرُ ولم يلتقيا قبل ذلك قطُّ. وهو يوم الجمع واللقاء، ولهذا يلتقي الناس فيه في الدنيا أكثر من التقائهم في غيره، فهو يوم التَّلاقِ.

قال أبو التياح لاحق بن حميد: كان مطرِّف بن عبد الله يبدو، فيدخل كلَّ جمعة، فادَّلَجَ حتى إذا كان عند المقابر هوَّمَ قال: فرأيتُ كلَّ صاحبِ قبر جالسًا على قبره. فقالوا: هذا مطرِّف يأتي الجمعة. قال: فقلت لهم: وتعلمون عندكم الجمعة؟ قالوا: نعم، ونعلم ما تقول فيه الطير.

قلت: وما تقول فيه الطير؟ قالوا: تقول: ربِّ سلِّم سلِّم، يوم صالح.

وذكر ابن أبي الدنيا في «كتاب المنامات» وغيره عن بعض أهل عاصم الجَحْدري قال: رأيت عاصمًا الجحدري في منامي بعد موته بسنتين فقلت: أليس قد متَّ؟ قال: بلى. قلت: فأين أنت؟ قال: أنا والله في روضة من رياض الجنة، أنا ونفرٌ من أصحابي نجتمع كلَّ ليلةِ جمعة

وصبيحتها إلى بكر بن عبد الله المُزَني، فنتلاقَى أخباركم. قال: قلت: أجسامكم أم أرواحكم؟ قال: هيهات، بليت الأجسام! وإنما تتلاقى الأرواح. قال: فقلت: فهل تعلمون بزيارتنا إياكم؟ قال: نعلم بها عشية الجمعة، ويوم الجمعة كلَّه، وليلة السَّبت إلى طلوع الشمس. قال: قلت: فكيف ذلك دون الأيام كلِّها؟ قال: لفضل يوم الجمعة وعظمته.

وذكر ابن أبي الدنيا أيضًا عن محمد بن واسع أنه كان يذهب كلَّ غداة سبت حتى يأتي الجبَّانَ، فيقف على القبور، فيسلِّم عليهم، ويدعو لهم، ثم ينصرف. فقيل له: لو صيَّرتَ هذا اليوم يوم الاثنين. فقال: بلغني أنَّ الموتى يعلمون بزوَّارهم يوم الجمعة، ويومًا قبلها ويومًا بعدها.

وذكر عن سفيان الثوري قال: بلغني عن الضحاك أنه قال: من زار قبرًا يوم السبت قبل طلوع الشمس علِمَ الميِّتُ بزيارته. فقيل له: وكيف ذلك؟ قال: لمكان يوم الجمعة.

الثانية والثلاثون: أنه يُكرَه إفرادُ يوم الجمعة بالصوم. هذا منصوص أحمد. قال الأثرم: قيل لأبي عبد الله: صيام يوم الجمعة؟ فذكر حديث النهي أن يفرد، ثم قال: إلا أن يكون في صيام كان يصومه، وأمَّا أن يفرَد فلا. قلت: رجل كان يصوم يومًا ويفطر يومًا، فوقع فطرُه يومَ الخميس وصومُه يومَ الجمعة، وفطرُه يومَ السبت، فصار الجمعة مفردًا؟ فقال: هذا الآنَ لم يتعمَّد صومه خاصَّةً. إنما كره أن يتعمَّد الجمعة.

وأباح مالك وأبو حنيفة صومه كسائر الأيام. قال مالك: لم أسمع أحدًا من أهل العلم والفقه وممَّن يُقتدى به ينهى عن صيام يوم الجمعة. وصيامُه حسَنٌ. وقد رأيت بعض أهل العلم يصومه، وأُراه كان يتحرَّاه.

قال ابن عبد البر: اختلفت الآثار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صيام يوم الجمعة. فروى ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: كان يصوم ثلاثة أيام من كلِّ شهر، وقال: «قلما رأيته مفطرًا يوم الجمعة». وهو حديث صحيح.

وقد روي عن ابن عمر أنه قال: ما رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - مفطرًا يوم جمعةٍ قطُّ. ذكره ابن أبي شيبة، عن حفص بن غياث، عن ليث بن أبي سليم، عن عمير بن أبي عمير، عن ابن عمر.

وروى عن ابن عباس أنه كان يصوم يوم الجمعة ويواظب عليه.

وأما الذي ذكره مالك فيقولون: إنه محمد بن المنكدر، وقيل صفوان بن سُلَيم.

وروى الدَّراوردي عن صفوان بن سُلَيم عن رجل من بني جُشَم أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من صام يومَ الجمعة كُتِب له عشرةُ أيامٍ غُرٍّ زُهْرٍ من أيام الآخرة لا يشاكلهن أيام الدنيا».

والأصل في صوم يوم الجمعة أنه عملُ برٍّ، لا يمنع منه إلا بدليل لا معارض له.

قلت: قد صحَّ المعارضُ صحَّةً لا مطعن فيها البتة. ففي «الصحيحين» عن محمد بن عباد قال: سألت جابرًا: أنَهى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن صوم يوم الجمعة؟ قال: «نعم».

وفي «صحيح مسلم» عن محمد بن عباد قال: سألت جابر بن عبد الله وهو يطوف بالبيت: أنَهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن صيام يوم الجمعة؟ قال: «نعم، وربِّ هذه البنيَّة».

وفي «الصحيحين» عن أبي هريرة قال: سمعت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا يصومنَّ أحدُكم يومَ الجمعة إلا يومًا قبله أو بعده». واللفظ للبخاري.

وفي «صحيح مسلم» عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تختصُّوا ليلة الجمعة بقيامٍ من بين الليالي، ولا تختصُّوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صومٍ يصومه أحدكم».

وفي «صحيح البخاري» عن جويرية بنت الحارث أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة، فقال: «أصُمْتِ أمسِ؟». قالت: لا. قال: «تريدين أن تصومي غدًا؟». قالت: لا. قال: «فأفطِري».

وفي «مسند الإمام أحمد» عن ابن عباس أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تصوموا يوم الجمعة وحده».

وفي «مسنده» أيضًا عن جُنادة الأزدي قال: دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يوم جمعة، في سبعةٍ من الأزد أنا ثامنهم، وهو يتغدَّى، فقال: «هلمُّوا إلى الغداء». فقلنا: يا رسول الله، إنَّا صيام. قال: «أصمتم أمس؟». قلنا: لا. قال: «فتصومون غدًا؟». قلنا: لا. قال: «فأفطِروا». قال: فأكلنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: فلما خرج وجلس على المنبر دعا بإناء من ماء، فشرب وهو على المنبر، والناس ينظرون، يُريهم أنه لا يصوم يوم الجمعة.

وفي «مسنده» أيضًا عن أبي هريرة قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يوم الجمعة يوم عيد، فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم إلا أن تصوموا قبله أو بعده».

وذكر ابن أبي شيبة عن سفيان بن عيينة، عن عمران بن ظَبيان، عن حكيم بن سعد، عن علي بن أبي طالب قال: من كان منكم متطوِّعًا من الشهر أيامًا، فليكن في صومه يوم الخميس. ولا يصُمْ يومَ الجمعة فإنه يوم طعام وشراب وذكر، فيجمع لله يومين صالحَين: يوم صيامه ويوم نسكه مع المسلمين.

وذكر جرير عن مغيرة عن إبراهيم أنهم كرهوا صوم الجمعة ليتقَوَّوْا على الصلاة.

قلت: المآخذ في كراهته ثلاثة، هذا أحدها. ولكن يشكل عليه زوال الكراهية بضمِّ يوم قبله أو يوم بعده إليه.

والثاني: أنه يوم عيد، وهو الذي أشار إليه النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد أُورِد على هذا التعليل إشكالان، أحدهما: أنَّ صومه ليس بحرام، وصوم يوم العيد حرام. الثاني: أن الكراهة تزول بعدم إفراده.

وأجيب عن الإشكالين بأنه ليس عيد العام، بل عيد الأسبوع، والتحريم إنما هو لصوم يوم عيد العام. وأما إذا صام يومًا قبله أو يومًا بعده فلا يكون قد صامه لأجل كونه يوم جمعة وعيد، فتزول المفسدة الناشئة من تخصيصه، بل يكون داخلًا في صيامه تبعًا.

وعلى هذا يحمل ما رواه الإمام أحمد في «مسنده» والنسائي والترمذي من حديث عبد الله بن مسعود ــ إن صحّ ــ قال: قلما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفطر يوم جمعة. فإن صحَّ هذا تعيَّن حملُه على أنه كان يدخل في صيامه، لا أنه كان يفرده، لصحة النهي عنه. وأين أحاديث النهي الثابتة في «الصحيحين» من حديث الجواز الذي لم يروه أحد من أهل الصحيح، وقد حكم الترمذي بغرابته؛ فكيف يعارض به الأحاديث الصحيحة الصريحة، ثم يقدَّم عليها؟

والمأخذ الثالث: حماية الذريعة من أن يُلحق بالدِّين ما ليس منه ويُوجِب التشبُّه بأهل الكتاب في تخصيص بعض الأيام بالتجرُّد عن الأعمال الدنيوية. وينضمُّ إلى هذا المعنى: أنَّ هذا اليوم لما كان ظاهر الفضل على الأيام كان الداعي إلى صومه قويًّا، فهو في مظِنَّةِ تتابعِ الناس في صومه واحتفالهم به ما لا يحتفلون بصوم يومٍ غيره. وفي ذلك إلحاق بالشرع ما ليس منه. ولهذا المعنى ــ والله أعلم ــ نهي عن تخصيص ليلة الجمعة بالقيام من بين الليالي، لأنها من أفضل الليالي حتى فضَّلها بعضُهم على ليلة القدر، وحكيت رواية عن أحمد. فهي في مظنَّة تخصيصها بالعبادة، فحمَى الشارع الذريعة، وسدَّها بالنهي عن تخصيصها بالقيام. والله أعلم.

فإن قيل: فما تقولون في تخصيص يوم غيره بالصيام؟ قيل: أما تخصيص ما خصَّصه الشارع كيوم الاثنين ويوم عرفة ويوم عاشوراء، فسنَّة. وأما تخصيص غيره كيوم السَّبت والثلاثاء والأحد والأربعاء، فمكروه. وما كان منها أقرب إلى التشبُّه بالكفار لَتخصيص أيام أعيادهم بالتعظيم والصيام، فأشدُّ كراهةً وأقربُ إلى التحريم.

الثالثة والثلاثون: إنه يوم اجتماع الناس وتذكيرهم بالمبدأ والمعاد. وقد شرع الله سبحانه لكلِّ أمة في الأسبوع يومًا، يتفرَّغون فيه للعبادة، ويجتمعون فيه لتذكُّر المبدأ والمعاد والثواب والعقاب، ويتذكَّرون به اجتماعهم يوم الجمع الأكبر قيامًا بين يدي ربِّ العالمين. وكان أحقَّ الأيام بهذا الغرض المطلوب اليومُ الذي يجمع الله فيه الخلائق، وذلك يوم الجمعة. فذخَره الله لهذه الأمة لفضلها وشرفها، فشرع اجتماعها في هذا اليوم لطاعته، وقدَّر اجتماعها فيه مع الأمم لنيل كرامته. فهو يوم الاجتماع شرعًا وقدرًا. وفي مقدار انتصافه وقتَ الخطبة والصلاة يكون أهلُ الجنة في منازلهم، وأهلُ النار في منازلهم، كما ثبت عن ابن مسعود من غير وجه أنه قال: لا ينتصف النهارُ يومَ القيامة حتى يَقيل أهلُ الجنة في منازلهم وأهلُ النار في منازلهم. وقرأ: (ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم).

وكذلك هي في قراءته.

ولهذا كون الأيام سبعةً إنما يعرفه الأمم التي لها كتاب. فأمَّا أمّةٌ لا كتاب لها فلا تعرف ذلك إلا من تلقَّاه منهم عن أمم الأنبياء، فإنه ليس هنا علامة حسِّيَّة يُعرَف بها كونُ الأيام سبعةً، بخلاف الشهر والسنة وفصولها. ولما خلق الله عز وجل السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، وتعرَّف إلى عباده بذلك على ألسنة رسله، شرع لهم في الأسبوع يومًا يذكِّرهم بذلك، وبحكمة الخلق وما خُلِقوا له، وبأجل العالم وطيِّ السموات والأرض، وعود الأمر كما بدأه سبحانه وعدًا عليه حقًّا وقولًا صدقًا.

ولهذا كان - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في فجر يوم الجمعة بسورتي (الم تنزيل السجدة) و (هل أتى على الإنسان)، لما اشتملت عليه هاتان السورتان مما كان ويكون يوم الجمعة من المبدأ والمعاد وحشر الخلائق وبعثهم من القبور إلى الجنة والنار، لا لأجل السجدة كما يظنُّه مَن نقَص علمه ومعرفته، فيأتي بسجدة من سورة أخرى، ويعتقد أنَّ فجر الجمعة فُضِّل بسجدة، وينكر على من لم يفعلها.

وهكذا كانت قراءته - صلى الله عليه وسلم - في المجامع الكبار كالأعياد ونحوها بالسُّوَر المشتملة على التوحيد، والمبدأ والمعاد، وقصص الأنبياء مع أممهم وما عامل به من كذَّبهم وكفَر بهم من الهلاك والشقاء، ومن آمن بهم وصدَّقهم من النجاة والعافية. كما كان يقرأ في العيدين بسورتي (ق والقرآن المجيد) و (اقتربت الساعة وانشق القمر)، وتارةً: بـ (سبح اسم ربك الأعلى) و (هل أتاك حديث الغاشية).

وتارةً يقرأ في الجمعة بسورة الجمعة لما تضمَّنته من الأمر بهذه الصلاة وإيجاب السعي إليها، وترك العمل العائق عنها، والأمر بإكثار ذكره ليحصل لهم الفلاح في الدارين، فإنَّ في نسيان ذكره العطبَ والهلاكَ في الدارين. ويقرأ في الثانية بسورة (إذا جاءك المنافقون) تحذيرًا للأمة من النفاق المُرْدي، وتحذيرًا لهم أن يشغلهم أموالهم وأولادهم عن صلاة الجمعة وعن ذكره، وأنهم إن فعلوا ذلك خسروا ولا بدَّ، وحضًّا لهم على الإنفاق الذي هو من أكبر أسباب سعادتهم، وتحذيرًا لهم من هجوم الموت وهم على حالةٍ يطلبون الإقالة ويتمنَّون الرَّجعة فلا يُجابون إليها. وكذلك كان - صلى الله عليه وسلم - يفعل عند قدوم وفدٍ يريد أن يُسْمِعهم القرآن. وكان يطيل قراءة الصلاة الجهرية لذلك، كما صلى في المغرب بـ (الأعراف) وبـ (الطور) و (ق). وكان يصلي في الفجر بنحو مائة آية.

وكذلك كانت خطبه - صلى الله عليه وسلم -. إنما هي تقرير لأصول الإيمان، من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه، وذكر الجنة والنار وما أعدَّ الله لأوليائه وأهل طاعته وما أعدَّ لأعدائه وأهل معصيته. فتمتلئ القلوب من خطبه إيمانًا وتوحيدًا ومعرفةً بالله وأيامه، لا كخطب غيره التي إنما تفيد أمرًا مشتركًا بين الخلائق، وهو النَّوحُ على الحياة والتخويفُ بالموت، فإنَّ هذا أمر لا يحصِّل في القلوب إيمانًا بالله، ولا توحيدًا له، ولا معرفةً خاصَّةً به، ولا تذكيرًا بأيامه، ولا بعثًا للنفوس على محبته والشوق إلى لقائه؛ فيخرج السامعون ولم يستفيدوا فائدةً غير أنهم يموتون، وتُقسَّم أموالهم، ويُبلي الترابُ أجسامهم. فيا ليت شعري أيُّ إيمان حصل بهذا؟ وأيُّ توحيد ومعرفة وعلم نافع حصل به؟

ومن تأمَّل خُطَبَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وخُطَب أصحابه وجدها كفيلةً ببيان الهدى والتوحيد، وذكر صفات الربِّ جلَّ جلاله وأصول الإيمان الكلِّيّة، والدعوة إلى الله، وذكر آلائه التي تحبِّبه إلى خلقه، وأيامه التي تخوِّفهم من بأسه، والأمرِ بذكره وشكره الذي يحبِّبهم إليه. فيذكرون من عظمة الله وصفاته وأسمائه ما يحبِّبه إلى خلقه، ويأمرون من طاعته وشكره وذكره ما يحبِّبهم إليه؛ فينصرف السامعون وقد أحبُّوه وأحبَّهم.

ثم طال العهد، وخفي نور النبوة، وصارت الشرائع والأوامر رسومًا تقام، من غير مراعاة حقائقها ومقاصدها. فأعطوها صورها، وزيَّنوها بما زيَّنوها به، فجعلوا الرسوم والأوضاع سننًا لا ينبغي الإخلال بها، وأخلُّوا بالمقاصد التي لا ينبغي الإخلال بها. فرصَّعوا الخطب بالتسجيع والفِقَر وعلم البديع، فنقص بل عُدِم حظُّ القلوب منها، وفات المقصود بها.

فمما حُفِظ من خطبه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يُكثِر أن يخطب بالقرآن وبسورة (ق). قالت أم هشام بنت الحارث بن النعمان: ما حفظت (ق) إلا من في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما يخطُب بها على المنبر.

وحُفِظ من خطبه - صلى الله عليه وسلم - من رواية علي بن زيد بن جدعان، وفيه ضعف: «يا أيها الناس، توبوا إلى الله عز وجل قبل أن تموتوا، وبادروا بالأعمال الصالحة، وصِلُوا الذي بينكم وبين ربِّكم بكثرة ذكركم له، وكثرة الصدقة في السِّرِّ والعلانية= تؤجَروا وتُحْمَدوا وتُرزَقوا. واعلموا أن الله عزَّ وجلَّ قد فرض عليكم الجمعة فريضةً مكتوبةً في مقامي هذا، في شهري هذا، في عامي هذا، إلى يوم القيامة، مَن وجد إليها سبيلًا. فمن تركها في حياتي أو بعدي جحودًا بها واستخفافًا بها، وله إمام جائر أو عادل؛ فلا جَمع الله له شملَه، ولا بارك له في أمره. ألا ولا صلاة له، ألا ولا وضوء له، ألا ولا صوم له، ألا ولا زكاة له، ألا ولا حجَّ له، ألا ولا برَّ له حتى يتوب، فإن تاب تاب الله عليه. ألا ولا تؤُمَّنَّ امرأةٌ رجلًا، ألا ولا يؤُمَّنَّ أعرابيٌّ مهاجرًا، ألا ولا يؤُمَّنَّ فاجرٌ مؤمنًا، إلا أن يقهره سلطانٌ يخاف سيفه وسوطه».

وحفظ من خطبه أيضًا: «الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا. من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيرًا ونذيرًا بين يدي الساعة. من يُطع الله ورسوله فقد رشَد، ومن يعصهما فإنه لا يضُرُّ إلا نفسَه، ولا يضُرُّ الله شيئًا». رواه أبو داود وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر خطبته في الحج.


زاد المعاد في هدي خير العباد - ط عطاءات العلم (1/ 459 - 533)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله