رضا العبد بطاعته دليلٌ على حسنِ ظنِّه بنفسه، وجهلِه بحقوق العبوديّة، وعدمِ علمِه بما يستحقُّه الرّبُّ جل جلاله ويليق أن يُعامَل به.
وحاصل ذلك: أنَّ جهلَه بنفسه وصفاتها وآفاتها وعيوب عمله، وجهلَه بربِّه وحقوقه وما ينبغي أن يُعامَل به= يتولَّد منهما رضاه بطاعاته، وإحسانُ ظنِّه بها. ويتولَّد من ذلك من العُجْب والكِبْر والآفات ما هو أكبر من الكبائر الظّاهرة من الزِّنى، وشرب الخمر، والفرار من الزَّحف، ونحوها. فالرِّضا بالطّاعة من رعونات النّفس وحماقتها.
وأربابُ العزائم والبصائر أشدُّ ما يكونون استغفارًا عقيبَ الطَّاعات، لشهودهم تقصيرَهم فيها وتركَ القيام لله بها كما يليق بجلاله وكبريائه، وأنّه لولا الأمرُ لَما أقدَمَ أحدُهم على مثل هذه العبوديّة، ولا رضيها لسيِّده.
وقد أمر الله تعالى وفدَه وحُجّاجَ بيته بأن يستغفروه عقيبَ إفاضتهم من عرفاتٍ، وهو أجلُّ المواقف وأفضلُها، فقال: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 198 - 199].
وقال تعالى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران: 17]. قال الحسن رضي الله عنه: مَدُّوا الصّلاةَ إلى السَّحر، ثمّ جلسوا يستغفرون الله عز وجل.
وفي "الصّحيح" أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا سلَّم استغفر ثلاثًا، ثمّ قال: "اللهمَّ أنت السَّلام، ومنك السَّلام، تباركتَ يا ذا الجلال والإكرام".
وأمره الله سبحانه بالاستغفارِ بعد أداء الرِّسالة، والقيامِ بما عليه من أعبائها، وقضاءِ فرض الحجِّ والجهاد، واقترابِ أجله، فقال في آخر ما أنزل عليه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [سورة النصر]. ومن هاهنا فَهِم عمر وابن عبّاسٍ رضي الله عنهم أنَّ هذا أجلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلَمَه به، فأمَره أن يستغفره عقيبَ أداء ما عليه، فكان إعلامَه بأنّك قد أدّيتَ ما عليك، ولم يبق عليك شيءٌ، فاجعل خاتمته الاستغفار، كما كان خاتمةَ الصّلاة والحجِّ وقيام اللّيل، وخاتمةَ الوضوء أيضًا إذ يقول بعد فراغه "اللهمَّ اجعلني من التَّوَّابين، واجعلني من المتطهِّرين".
فهذا شأنُ مَن عرَف ما ينبغي لله ويليق بجلاله من حقوق العبوديّة وشرائطها، لا جهلُ أصحاب الدَّعاوى وشطحاتُهم.
وقال بعضُ العارفين: متى رضيتَ نفسَك وعملَك لله، فاعلم أنّه غيرُ راضٍ به. ومَن عرَفَ أنَّ نفسَه مأوى كلِّ عيبٍ وسوء، وعملَه عُرْضةُ كلِّ آفةٍ ونقصٍ، كيف يرضى لله نفسَه وعملَه؟
ولله درُّ الشّيخ أبي مدين حيث يقول: من تحقَّق بالعبوديّة نظَر أفعالَه بعين الرِّياء، وأحوالَه بعين الدّعوى، وأقوالَه بعين الافتراء. وكلَّما عظُم المطلوبُ في قلبك صغُرتْ عندك وتضاءلت القيمةُ التي تبذلها في تحصيله. وكلَّما شهدتَ حقيقة الرُّبوبيّة وحقيقةَ العبوديّة، وعرفتَ الله وعرفتَ النّفس، تبيَّن لك أنَّ ما معك من البضاعة لا يصلح للملك الحقِّ، وإنّما يقبله بكرمه وجوده.
مدارج السالكين (1/ 267 – 270 ط عطاءات العلم)