بسم الله الرحمن الرحيم
ربِّ يسِّرْ وأعِنْ
الحمد لله الذي خلق خَلْقَه أطوارًا، وصرَّفهم في أطوار التخليق كيف شاء عزّةً واقتدارًا، وأرسل الرسل إلى المكلّفين إعذارًا منه وإنذارًا، فأتمَّ بهم على من اتبع سبيلهم نعمته السابغة، وأقام بهم على من خالف منهاجهم حجته البالغة، فنصب الدليل، وأنار السبيل، وأزاح العلل، وقطع المعاذير، وأقام الحجّة، وأوضح المحجّة، وقال: {هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} [الأنعام: 153]، وهؤلاء رسلي {مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، فعمَّهم بالدعوة على ألسنة رسله حجةً منه وعدلًا، وخصَّ بالهداية من شاء منهم نعمةً منه وفضلًا.
فقبِل نعمةَ الهداية من سبقت له سابقة السعادة وتلقَّاها باليمين، وقال: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل: 19]، وردَّها من غلبت عليه الشقاوة ولم يرفع بها رأسًا بين العالمين. فهذا فضله وعطاؤه، وما عطاؤه بمحظور، ولا فضله بممنون. وهذا عدله وقضاؤه، فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
فسبحان من أفاض على عباده النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، وأودع الكتاب الذي كتبَه، أنَّ رحمته تغلب غضبَه. وتبارك من له في كلِّ شيء على ربوبيته ووحدانيته وعلمه وحكمته أعدل شاهد، ولو لم يكن إلا أن فاضَلَ بين عباده في مراتب الكمال حتى عُدَّ الآلاف المؤلَّفة منهم بالرجل الواحد. ذلك ليعلم عباده أنه أنزل التوفيق منازله، ووضع الفضل مواضعه، وأنه يختص برحمته من يشاء وهو العليم الحكيم، {وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 29].
أحمده، والتوفيق للحمد من نِعَمِه. وأشكره، والشكر كفيل بالمزيد من فضله وقِسَمه. وأستغفره وأتوب إليه من الذنوب التي توجب زوال نعمته وحلول نِقَمه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كلمة قامت بها الأرض والسماوات، وفطر الله عليها جميع المخلوقات. وعليها أُسِّست الملة، ونُصِبت القبلة. ولأجلها جُرِّدت سيوف الجهاد، وبها أمر الله سبحانه جميع العباد. وهي فطرة الله التي فطرَ الناس عليها، ومفتاح عبوديته التي دعا الأممَ على ألسُن رسله إليها. وهي كلمة الإسلام، ومفتاح دار السلام، وأساس الفرض والسنة، ومن كان آخر كلامه "لا إله إلا الله" دخل الجنّة.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وخِيرته من خلقه، وحجته على عباده، وأمينه على وحيه. أرسله رحمةً للعالمين، وقدوةً للعاملين، ومحجّةً للسالكين، وحجّةً على المعاندين، وحسرةً على الكافرين. أرسله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، وأنعم به على أهل الأرض نعمةً لا يستطيعون لها شكورًا. فأمدَّه بملائكته المقربين، وأيّده بنصره وبالمؤمنين، وأنزل عليه كتابه المبين، الفارق بين الهدى والضلال، والغي والرشاد، والشك واليقين. فشرح له صدره، ووضع عنه وزره، ورفع له ذكره، وجعل الذلة والصَّغار على من خالف أمره. وأقسم بحياته في كتابه المبين، وقرَن اسمه باسمه، فإذا ذُكِر ذُكِر معه، كما في الخطب والتشهد والتأذين.
وافترض على العباد طاعته ومحبته والقيام بحقوقه، وسدَّ الطرق كلَّها إليه وإلى جنته، فلم يفتح لأحد إلا من طريقه. فهو الميزان الراجح الذي على أخلاقه وأقواله وأعماله توزن الأخلاق والأقوال والأعمال، والفرقان المبين الذي باتباعه تميَّز أهلُ الهدى من أهل الضلال.
ولم يزل صلى الله عليه وسلم مشمِّرًا في ذات الله لا يردُّه عنه رادّ، صادعًا بأمره لا يصدُّه عنه صادّ، إلى أن بلّغ الرسالة وأدّى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حقَّ الجهاد. فأشرقت برسالته الأرض بعد ظلماتها، وتألَّفت به القلوب بعد شتاتها، وامتلأت به الدنيا نورًا وابتهاجًا، ودخل الناس في دين الله أفواجًا.
فلما أكمل الله تعالى به الدين، وأتمَّ به النعمة على عباده المؤمنين، استأثر به ونقله إلى الرفيق الأعلى، والمحلِّ الأسنى؛ وقد ترك أمته على المحجّة البيضاء، والطريق الواضحة الغرّاء. فصلَّى الله وملائكته وأنبياؤه ورسله والصالحون من عباده عليه وآله كما وحَّد الله، وعرَّف به، ودعا إليه؛ وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 7 ط عطاءات العلم)