فضل العلم وأهله (خطبة)

فَضْلُ الْعِلْمِ وَأَهْلِه 

تحميل كملف pdf

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله ‌نحمده ‌ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)، (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70، 71].

أما بعد.

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

عباد الله.. إن أفضلَ ما اكتسبتْه النفوسُ وحصَّلتْهُ القلوب ونالَ به العبدُ الرِّفْعةَ في الدُّنيا والآخرة هو العلم والإيمان؛ فالعلم حياة ونور، والجهل موتٌ وظُلمَة، والعلم ترِكة الأنبياء وتُراثهم، وأهله عَصَبَتُهم وَوُرَّاثُهم. وهو حياة القلوب، ونور البصائر، وشفاء الصُّدور، ورياض العقول، ولذّة الأرواح، وأُنس المستوحشين، ودليل المتحيِّرين.

وهو الميزان الذي به تُوزن الأقوال والأعمال والأحوال، وهو الحاكم المفرِّق بين الشّكِّ واليقين، والغيِّ والرّشاد، والهدى والضّلال، به يُعرف الله ويُعبد، ويذكر ويُوحَّد، ويُحمد ويمجَّد، وبه اهتدى إليه السّالكون، ومن طريقه وصل إليه الواصلون، ومن بابه دخل عليه القاصدون.

به تُعرف الشّرائع والأحكام، ويتميّز الحلال من الحرام، وبه تُوصَل الأرحام، وبه تُعرف مَراضي الحبيب، وبمعرفتها ومتابعتها يُوصل إليه من قريبٍ.

وهو الصّاحب في الغربة، والمحدِّث في الخلوة، والأنيس في الوحشة، والكاشف عن الشُّبهة. والغِنى الذي لا فقْرَ على من ظفِرَ بكنزه، والكَنَف الذي لا ضيعةَ على من أَوى إلى حِرْزه.

مذاكرته تسبيحٌ، والبحث عنه جهادٌ، وطلبه قُربةٌ، وبذله صدقةٌ، ومدارسته تَعدِل بالصِّيام والقيام، والحاجة إليه أعظم منها إلى الشّراب والطّعام.

قال الإمام أحمد - رضي الله عنه -: النّاس إلى العلم أحوجُ منهم إلى الطّعام والشّراب، لأنّ الرّجل يحتاج إلى الطّعام والشّراب في اليوم مرّةً أو مرّتين، وحاجته إلى العلم بعددِ أنفاسه. وروِي عن الشّافعيِّ - رضي الله عنه - أنّه قال: طلب العلم أفضل من صلاة النّافلة.

ويكفي في شرفه: أنّ فضل أهله على العباد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وأنّ الملائكة تضع لهم أجنحتها، وتُظِلُّهم بها، وأنّ العالم يستغفر له من في السّماوات ومن في الأرض، حتّى الحيتان في البحر، وحتّى النملة في جُحْرها، وأنّ الله وملائكته يصلُّون على معلِّمِ النّاسِ الخيرَ.

ولقد رحل كليم الرّحمن موسى بن عمران عليه السّلام في طلب العلم هو وفتاه، حتّى مَسَّهم النَّصَبُ في سفرهم في طلب العلم، حتّى ظفر بثلاث مسائل. وهو أكرم الخلق على الله وأعلمهم به.

وأمر الله رسوله أن يسأله المزيد منه فقال: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا) [طه: 114].

عباد الله.. قال الله تعالى: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [آل عمران: 18].

يقول ابن القيم رحمه الله: استشهَد سبحانه بأولي العلم على أجلِّ مشهودٍ عليه، وهو توحيدُه، فقال: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ).

وهذا يدلُّ على فضل العلم وأهله من وجوه:

أحدها: استشهادُهم دون غيرهم من البشر.

والثاني: اقترانُ شهادتهم بشهادته.

والثالث: اقترانها بشهادة ملائكته.

والرابع: أنَّ في ضمن هذا تزكيتَهم وتعديلَهم؛ فإنَّ الله لا يستشهِدُ من خلقه إلا العُدول، ومنه الأثرُ المعروفُ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «يحملُ هذا العلمَ من كلِّ خلفٍ عُدولُه؛ ينفونَ عنه تحريفَ الغالين، وانتحال المُبْطِلين، وتأويلَ الجاهلين».

الخامس: أنه وصَفهم بكونهم أولي العلم، وهذا يدلُّ على اختصاصهم به، وأنهم أهلُه وأصحابُه، ليس بمستعارٍ لهم.

السادس: أنه سبحانه استشهَد بنفسه ــ وهو أجلُّ شاهد ــ، ثمَّ بخيار خلقه ــ وهم ملائكتُه والعلماءُ من عباده ــ، ويكفي بهذا فضلًا وشرفًا.

السابع: أنه استشهَد بهم على أجلِّ مشهودٍ به وأعظمِه وأكبره، وهو شهادةُ أن لا إله إلا هو. والعظيمُ القَدْر إنما يستشهِدُ على الأمر العظيم أكابرَ الخلق وساداتهم.

الثامن: أنه سبحانه جعَل شهادتَهم حجَّةً على المنكرين، فهم بمنزلة أدلَّته وآياته وبراهينه الدَّالَّة على توحيده.

ومن فضائل العلم وأهله:

أن الله سبحانه نفى التسوية بين أهله وبين غيرهم، كما نفى التسويةَ بين أصحاب الجنة وأصحاب النار، فقال تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [الزمر: 9]، كما قال تعالى: (لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ) [الحشر: 20]، وهذا يدلُّ على غاية فضلهم وشرفهم.

ومنها: أنه سبحانه أمرَ بسؤالهم والرجوع إلى أقوالهم، وجَعَل ذلك كالشهادة منهم، فقال: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [النحل: 43]، وأهلُ الذِّكر هم أهلُ العلم بما أُنزِل على الأنبياء.

ومن فضائله: أنه سبحانه مدحَ أهلَ العلم، وأثنى عليهم، وشرَّفهم بأن جَعَل كتابَه آياتٍ بيناتٍ في صدورهم، وهذه خاصَّةٌ ومنقبةٌ لهم دون غيرهم، فقال تعالى: (وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ) [العنكبوت: 47 - 49].

والله سبحانه أخبرَ عن رِفْعة درجات أهل العلم والإيمان خاصَّة، فقال تعالى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [المجادلة: 11].

ومن فضائل العلم وأهله أن الله سبحانه استشهَد بأهل العلم والإيمان يومَ القيامة على بطلان قول الكفار، فقال تعالى: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [الروم: 55 - 56].

وأخبر أن العلماء هم أهلُ خشيته، بل خصَّهم من بين الناس بذلك، فقال تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) [فاطر: 28]، وهذا حصرٌ لخشيته في أولي العلم.

وفي الصحيحين من حديث أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ مَثَل ما بعثني اللهُ به من الهدى والعلم كمثل غيثٍ أصاب أرضًا، فكانت منها طائفةٌ طيِّبةٌ قَبِلَت الماء، فأنبتت الكلأ والعشبَ الكثير، وكان منها أجادبُ أمسكت الماء، فنفعَ اللهُ بها الناس، فشربوا منها وسَقوا وزرَعوا، وأصاب طائفةً منها أخرى إنما هي قِيعانٌ لا تُمْسِكُ ماءً ولا تُنبِتُ كلأً؛ فذلك مثَلُ من فَقُهَ في دين الله ونفعه بما بعثني الله به، فعَلِمَ وعلَّم، ومثَلُ من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أُرسِلتُ به».

يقول ابن القيم رحمه الله: فقد اشتملَ هذا الحديثُ الشريفُ العظيمُ على التنبيه على شرف العلم والتعليم، وعِظَم موقعه، وشقاء من ليس من أهله، وذِكر أقسام بني آدم بالنسبة فيه إلى شقيِّهم وسعيدهم، وتقسيم سعيدهم إلى سابقٍ مُقَرَّبٍ وصاحبِ يمينٍ مُقْتَصِد.

وفيه دلالةٌ على أنَّ حاجةَ العباد إلى العلم كحاجتهم إلى المطر، بل أعظم، وأنهم إذا فقدوا العلمَ فهم بمنزلة الأرض التي فقدت الغيث.

وفي الصحيحين -أيضا- من حديث ابن مسعودٍ رضي الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لا حسدَ إلا في اثنتين: رجل آتاه اللهُ مالًا فسلَّطه على هَلَكَتِه في الحقِّ، ورجل آتاه اللهُ الحكمة فهو يقضي بها ويعلِّمها». فأخبرَ صلى الله عليه وسلم أنه لا ينبغي لأحدٍ أن يحسدَ أحدًا ــ يعني: حسدَ غِبْطة ــ ويتمنَّى مثلَ حاله من غير أن يتمنَّى زوال نعمة الله عنه= إلا في واحدةٍ من هاتين الخصلتين، وهي الإحسانُ إلى الناس بعلمه، أو بماله. وما عدا هذين فلا ينبغي غبطتُه ولا تمنِّي مثل حاله؛ لقلَّة منفعة الناس به.

أيها المسلمون.. أمرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بتبليغ العلم عنه؛ ففي «الصحيح» من حديث عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بلِّغوا عنِّي ولو آية، وحدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذبَ عليَّ متعمِّدًا فليتبوَّأ مقعدَه من النار». وقال: «ليبلِّغ الشاهدُ منكم الغائب».

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.


الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشُّكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحابته وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد فاتقوا الله تعالى حق التقوى، وراقبوه في السر والنّجوى، واعلموا أن أقدامكم على النار لا تقوى.

عباد الله.. ومما يبيّن فضل العلم وأهله أنه سبحانه لما أخبر ملائكتَه بأنه يريدُ أن يجعلَ في الأرض خليفة، قالوا له: (‌أَتَجْعَلُ ‌فِيهَا ‌مَنْ ‌يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٣٠) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٣١) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)، إلى آخر قصة آدم وأمرِ الملائكة بالسجود له، وإباءِ إبليس، ولَعْنِه، وإخراجه من السماء.

وبيانُ فضل العلم من هذه القصة من وجوه:

أحدها: أنه سبحانه ردَّ على الملائكة لما سألوه: كيف يجعلُ في الأرض من هم أطوعُ له منه؟ فقال: (إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ)، فأجاب سؤالهم بأنه يعلمُ من بواطن الأمور وحقائقها ما لا يعلمونه، وهو العليمُ الحكيم، فظهرَ من هذا الخليفةِ مِنْ خيار خلقه، ورسله، وأنبيائه، وصالحي عباده، والشهداء، والصِّدِّيقين، والعلماء، وطبقات أهل الإيمان= مَنْ هو خيرٌ من الملائكة، وظهرَ مِنْ إبليس من هو شرُّ العالمين.

فأخرَج سبحانه هذا وهذا، والملائكةُ لم يكن لها علمٌ لا بهذا ولا بهذا، ولا بما في خلق آدم وإسكانه الأرضَ من الحِكَم الباهرة.

الثاني: أنه سبحانه لما أراد إظهارَ تفضيل آدم وتمييزه فضَّله وميَّزه عليهم بالعلم، فعلَّمه الأسماءَ كلَّها، ثمَّ عرضهم على الملائكة، فقال: (أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ).

جاء في التفسير أنهم قالوا: لن يخلقَ ربُّنا خلقًا هو أكرمُ عليه منَّا، فظنُّوا أنهم خيرٌ وأفضلُ من الخليفة الذي يجعلُه الله في الأرض، فلمَّا امتحنهم بعلم ما علَّمه لهذا الخليفة أقرُّوا بالعجز وجَهْل ما لم يعلموه، فقالوا: (سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)، فحينئذٍ أظهرَ لهم فضلَ آدم بما خصَّه به من العلم، فقال: (يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ)، فلمَّا أنبأهم بأسمائهم أقرُّوا له بالفضل.

الثالث: أنه سبحانه لما عرَّفهم فضلَ آدم بالعلم، وعَجْزَهم عن معرفة ما علَّمه، قال لهم: (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ)، فعرَّفهم سبحانه نفسَه بالعلم، وأنه أحاط علمًا بظاهرهم وباطنهم، وبغيب السموات والأرض، فتعرَّف إليهم بصفة العلم، وعرَّفهم فضلَ نبيِّه وكليمه بالعلم، وعجزهم عمَّا آتاه آدم من العلم، وكفى بهذا شرفًا للعلم.

الرابع: أنه سبحانه جعلَ في آدم من صفات الكمال ما كان به أفضلَ من غيره من المخلوقات، وأراد سبحانه أن يُظْهِرَ لملائكته فضلَه وشرفَه، فأظهرَ لهم أحسنَ ما فيه، وهو علمُه، فدلَّ على أنَّ العلمَ أشرفُ ما في الإنسان، وأنَّ فضلَه وشرفَه إنما هو بالعلم.

ونظيرُ هذا ما فعله بنبيِّه يوسف عليه السلام، لمَّا أراد إظهارَ فضله وشرفِه على أهل زمانه كلِّهم، أظهرَ للمَلِك وأهل مصر من علمه بتأويل رؤياه ما عجزَ عنه علماءُ التعبير، فحينئذٍ قدَّمه ومكَّنه وسلَّم إليه خزائنَ الأرض، وكان قبل ذلك قد حبَسه، على ما رآه من حُسْن وجهه وجمال صورته، ولمَّا ظهر له حُسْنُ صورة علمه، وجمالُ معرفته، أطلَقه من الحبس، ومكَّنه في الأرض؛ فدلَّ على أنَّ صورةَ العلم عند بني آدم أبهى وأحسنُ من الصورة الحِسِّيَّة، ولو كانت أجملَ صورة.

ويكفي في شرف العلم وأهله ما رواه أبو داود والترمذي من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من سلكَ طريقًا يبتغي فيه علمًا سلكَ اللهُ به طريقًا إلى الجنة، وإنَّ الملائكة لتضعُ أجنحتَها رضًا لطالب العلم، وإنَّ العالِم ليستغفرُ له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتانُ في الماء، وفضلُ العالِم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، إنَّ العلماءَ ورثةُ الأنبياء، إنَّ الأنبياءَ لم يُوَرِّثوا دينارًا ولا درهمًا، إنما ورَّثوا العلم؛ فمن أخذه أخذَ بحظٍّ وافر».

والطريقُ التي يسلُكها إلى الجنة جزاءٌ على سلوكه في الدنيا طريقَ العلم الموصلة إلى رضا ربِّه.

ووَضعُ الملائكة أجنحتها له تواضعًا وتوقيرًا وإكرامًا لما يحملُه من ميراث النبوَّة ويطلبُه، وهو يدلُّ على المحبة والتعظيم، فمن محبة الملائكة له وتعظيمه تضعُ أجنحتها له؛ لأنه طالبٌ لما به حياةُ العالَم ونجاتُه.

قال الإمام مالك: معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تضعُ أجنحتها» يعني: تبسُطها بالدُّعاء لطالب العلم، بدلًا من الأيدي.

وقد ذكر ابن القيم في كتابه مفتاح دار السعادة ثلاثة وخمسون ومائة وجهاً في بيان فضل العلم وأهله.

عباد الله.. إن الله تعالى أمركم بالصلاة على رسوله عقب إخباره بأنه وملائكته يصلون عليه فقال: (‌إِنَّ ‌اللَّهَ ‌وَمَلَائِكَتَهُ ‌يُصَلُّونَ ‌عَلَى ‌النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)

اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، البشير النذير، والسراج المنير، وارضَ اللهم عن الأربعة الخلفاء الراشدين المهديين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن بقيَّة الصحابة، ومَن تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أرحم الراحمين.

اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، وانصُر عبادك الموحِّدين.

اللهم ادفَع عنَّا الغَلاء والربا والزنا والزلازل والمِحَن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصَّة، وعن سائر بلاد المسلمين عامَّة يا رب العالمين.

اللهم آمنَّا في أوطاننا، وأصلِح واحفظ ولاة أمورنا. اللهم وفِّقهم لما فيه عزُّ دِينك ونصْر أمَّة الإسلام. اللهم اجعَلْهم هُداةً مُهتَدِين صالحين مُصلِحين. اللهم ارزُقهم البطانةَ الصالحة الناصحة لدِينها وأمَّتها، وأبعدْ عنهم بطانةَ السوء يا حي يا قيوم.

اللهم اجعلنا من الصادقين وثبِّتنا على القول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخِرة.

(رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ).

عباد الله..

(إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ والإحْسانِ وإيتاءِ ذِي القُرْبى ويَنْهى عَنِ الفَحْشاءِ والمُنْكَرِ والبَغْيِ يَعِظُكم لَعَلَّكم تَذَّكَّرُونَ * وأوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذا عاهَدْتُمْ ولا تَنْقُضُوا الأيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكم كَفِيلًا إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ)

واذكُروا الله العظيم الجليل يذكُركم، واشكُروه على نِعَمِه يزدْكم، ولَذِكرُ الله أكبر، والله يعلَمُ ما تصنَعون.

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله