إياك والكذب (خطبة)

إِيّـاكَ وَالْكَــذِب

تحميل كملف pdf

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله ‌نحمده ‌ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)، (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70، 71].

أما بعد.

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

عباد الله.. إن الله تعالى قسّم الخلق إلى قسمين: سُعداءُ وأشقياء، فجعل السعداء هم أهل الصدق والتصديق، والأشقياءَ هم أهل ‌الكذب والتكذيب، وهو تقسيم حاصر مُطَّرد منعكس؛ فالسعادة دائرة مع الصدق والتصديق، والشقاوة دائرة مع الكذب والتكذيب.

وأخبر سبحانه وتعالى أنه لا ينفع العباد يوم القيامة إلا صِدقهم؛ وجعل عَلَم المنافقين الذي تميَّزوا به هو ‌الكذب في أقوالهم وأفعالهم، فجميع ما نعاه عليهم أصلُه ‌الكذب في القول والفعل. ثم قال: والكذب بريد الكفر والنفاق ودليل ذلك ومركبه وسائقه وقائده وحِليته ولباسه ولُبُّه، فمضادة ‌الكذب للإيمان كمضادة الشرك للتوحيد، فلا يجتمع ‌الكذب والإيمان إلا ويطرد أحدُهما صاحبَه ويستقرُّ موضعَه.

والله سبحانه نجَّى الثلاثة بصدقهم وأهلك غيرهم من المتخلِّفين بكذبهم، فما أنعم الله على عبدٍ بعد الإسلام بنعمة أفضلَ من الصدق الذي هو غذاء الإسلام وحياته، ولا ابتلاه ببليَّة أعظم من ‌الكذب الذي هو مرض الإسلام وفساده، والله المستعان.

والكذبَ يُفْسِدُ عليك تصوُّرَ المعلومات على ما هي عليه، ويُفسِد عليك تصويرَها وتعليمَها للناس!

فإن الكاذب يُصوِّرُ المعدومَ موجودًا والموجودَ معدومًا، والحقَّ باطلًا والباطلَ حقًّا، والخير شرًّا والشرَّ خيرًّا؛ فيفسُدُ عليه تصوُّرُه وعلمه عقوبةً له. ثم يُصوِّر ذلك في نفس المخاطب المغترّ به الراكن إليه؛ فيُفسِدُ عليه تصوُّرَه وعلمه.

ونفس الكاذب مُعْرِضةٌ عن الحقيقة الموجودة، نزَّاعةٌ إلى العدم، مُؤثِرةٌ للباطل.

وإذا فسدتْ عليه قوةُ تصوُّره وعلمه التي هي مبدأ كلِّ فعل إراديٍّ؛ فسدتْ عليه تلك الأفعالُ، وسَرى حكم الكذب إليها، فصار صدورُها عنه كصدور الكذب عن اللسان؛ فلا ينتفع بلسانه ولا بأعماله.

ولهذا كان الكذبُ أساسَ الفجور؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الكذب يهدي إلى الفُجور، وإن الفجور يهدي إلى النَّار".

وأولُ ما يَسرِي الكذبُ من النفس إلى اللسان فيُفسِدُه، ثم يسري إلى الجوارح فيُفسدُ عليها أعمالها كما أفسد على اللسان أقواله، فيَعُمُّ الكذبُ أقواله وأعمالَه وأحوالَه، فيَستحكِمُ عليه الفسادُ ويَترامَى داؤه إلى الهلكة إن لم يتداركه الله بدواء الصدقِ يَقلَعُ تلك المادَّة من أصلها.

ولهذا كان أصل أعمال القلوب كلِّها الصدق، وأضدادُها من الرِّياء والعُجْب والكبر والفخر والخيلاء والبطر والأشر والعجز والكسل والجُبن والمهانة وغيرها أصلها الكذبُ؛ فكلُّ عمل صالح ظاهرٍ أو باطنٍ فمنشؤهُ الصدق، وكل عمل فاسدٍ ظاهرٍ أو باطنٍ فمنشؤهُ الكذبُ.

والله تعالى يعاقب الكذابَ بأن يُقعِده ويُثبِّطه عن مصالحه ومنافعه، ويُثيِب الصادقَ بأن يوفقه للقيام بمصالح دنياه وآخرته؛ فما استُجِلبَتْ مصَالحُ الدُّنيا والآخرة بمثل الصدق، ولا مفاسدُهما ومضارُّهما بمثل الكذب.

قال تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119].

وقال تعالى: {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة: 119].

وقال: {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيرًا لَهُمْ} [محمد: 21].

وقال: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 90].

عباد الله.. الكذبُ متضمِّنٌ لفساد نظام العالم، ولا يمكن قيامُ العالم عليه، لا في معاشهم ولا في معادهم، بل هو متضمِّنٌ لفساد المعاش والمعاد؟! ومفاسدُ ‌الكذب اللازمةُ له معلومةٌ عند خاصَّة النَّاس وعامَّتهم.

كيف، وهو منشأ كلِّ شرٍّ وفساد، وشرُّ الأعضاء لسانٌ كذوب؟!

وكم قد أُزِيلت بالكذب مِنْ دُولٍ وممالِك، وخرِّبت به مِنْ بلاد، واستُلِبت به مِنْ نِعَم، وتعطَّلت به مِنْ معايش، وفَسَدَت به مِنْ مصالح، وغُرِسَت به مِنْ عداوات، وقُلِعَت به مِنْ مودَّات، وافتَقر به غنيٌّ، وذَلَّ به عزيزٌ، وهُتِكَت به مَصُونةٌ، ورُمِيَت به محصَنةٌ، وخَلَت به دُورٌ وقصور ، وعمِّرت به قبور، وأُزيل به أُنس، واستُجلِبت به وَحْشَة، وأُفسِد به بين الابن وأبيه، وغاض بين الأخ وأخيه، وأحال الصَّديقَ عدوًّا مبينًا، ورَدَّ الغنيَّ العزيزَ ذليلًا مسكينًا!

وكم فرَّق بين الحبيب وحبيبه، فأفسَد عليه عِيشتَه ونغَّص عليه حياتَه! وكم جَلا عن الأوطان! وكم سوَّد مِنْ وجوه، وطمَس مِنْ نور، وأعمى مِنْ بصيرة، وأفسَد مِنْ عقل، وغيَّر مِنْ فِطرة، وجلَب مِن مَعَرَّة، وقطِّعت به مِن السُّبل، وعَفَت به مِنْ معالم الهداية، ودَرَسَت به مِنْ آثار النُّبوَّة، وخَفِيَت به مِنْ طرق الرَّشاد، وتعطَّلت به مِنْ مصالح العباد في المعاش والمعاد!

وهذا وأضعافُه ذرَّةٌ من مفاسده وجناحُ بعوضةٍ من مضارِّه ومَقابِحه، وإلا فما يجلِبُه من غضب الرَّحمن، وحِرمان الجِنان، وحلول دار الهوان، أعظمُ من ذلك.

وهل مُلِئت الجحيمُ إلا بأهل الكذب، الكاذبين على الله وعلى رسوله وعلى دينه وعلى أوليائه، المكذِّبين بالحقِّ حَمِيَّةً وعصبيَّةً جاهليَّة؟! وهل عُمِّرت الجِنانُ إلا بأهل الصِّدق، الصَّادقين المصدِّقين بالحقِّ؟!

قال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر: 32 - 34].

وقد قال أبو بكر الصدِّيق رضي الله عنه: «‌الكذب مجانِبٌ للإيمان». وقال ابن مسعود: «لا يجوز من ‌الكذب جدٌّ ولا هزلٌ».

والكذب يتولد من المهانة والدَّناءة وصِغر النفس

يقول ابن القيم: وأمَّا ‌الكذبُ والخِسَّةُ والخيانةُ والرِّياءُ والمكرُ والخديعةُ والطمع والفزعُ والجُبْنُ والبخلُ والعجزُ والكسلُ والذُّلُّ لغير الله واستبدالُ الذي هو أدنى بالذي هو خيرٌ ونحوُ ذلك؛ فكلُّها من المهانة والدَّناءة وصغر النفس.

يقول ابن مسعود رضي الله عنه: ألا وإن شرَّ الرَّوايا روايا الكذب. ألا وإنَّ الكذب لا يصلُحُ منه جدٌّ ولا هزلٌ ولا أن يَعِدَ الرجلُ صَبيَّهُ شيئًا ثم لا يُنْجِزُهُ. ألا وإنّ الكذب يهدي إلى الفجور، والفجورُ يهدي إلى النار، والصدق يهدي إلى البر، والبرُّ يهدي إلى الجنة، وإنّه يُقالُ للصادق: صدق وبرَّ، ويقالُ للكاذب: كذب وفجر، وإن محمدًا صلى الله عليه وسلم حدثنا أن الرجل ليَصدُق حتى يُكتَب عند الله صدِّيقًا، ويكذبُ حتَّى يُكتَب عند الله كذَّابًا.

والكذب من صفات المنافقين يقول ابن القيم رحمه الله: ومن صفاتهم التي وصفهم بها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: ‌الكذب في الحديث، والخيانة في الأمانة، والغدر عند العهد، والفجور عند الخصام، والخلف عند الوعد؛ وتأخير الصلاة إلى آخر وقتها، ونَقْرُها عجلةً وإسراعًا، وترك حضورها جماعةً، وأن أثقل الصلوات عليهم الصبح والعشاءُ.

و‌الكذب مفتاح النِّفاق.

قال الشَّعبي: «من كان كذابًا فهو منافقٌ». وقيل: زَرْعُ النِّفاق ينبُت على ساقيتين: ساقية ‌الكذب، وساقية الرِّياء.

والكذب صفة ذميمة يترفع عنها العقلاء: ففي "الصحيحين" من حديث عبدِ الله بنِ عبَّاسٍ، أنَّ أبا سفيان أخبره مِنْ فِيْه إلى فِيْهِ، قال: انطلقتُ في المُدَّةِ التي كانت بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فَبَيْنَا أنا بالشَّام إذْ جِيءَ بكتاب رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إلى هِرَقْلَ، وقد كان دِحْيَةُ بنُ خَلِيفَةَ جاء به، فدفعه إلى عظيم بُصْرَى، فدفعه عظيم بُصْرى إلى هِرَقْلَ، فقال هِرَقْلُ: هل هاهُنَا أحدٌ مِنْ قومِ هذا الرَّجُل الذي يزعُم أنَّه نبيٌّ؟ قالوا: نعم. قال: فدُعِيْتُ في نَفَرٍ من قريشٍ، فدخلنا على هِرَقْل، فأجْلَسَنَا بين يديه، وأجلسوا أصحابي خَلْفِي، فدعا بِتَرْجُمَانِهِ فقال: قلْ لهم: إني سائلٌ هذا عن الرَّجل الذي يَزْعُمُ أنَّه نبيُّ، فإَنْ كَذَبَنِي فكذِّبوه، فقال أبو سفيان: وَايْمُ اللهِ! لولا مَخَافَةُ أنْ يُؤْثَرَ عليَّ ‌الكَذِبُ لَكَذَبْتُ".

والكذب أبغض الصفات إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: "ما كان شيءٌ أبغضَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذب. وما جرَّب على أحد كذبًا، فرجع إليه ما كان، حتَّى يعرفَ منه توبة". حديث حسن. رواه الحاكم في "المستدرك". وفي لفظ: قالت: "ما كان خُلُقٌ أبغضَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذب. ولقد كان الرجلُ يكذب عنده الكَذْبةَ، فما تزال في نفسه حتّى يعلمَ أنه قد أحدَثَ منها توبةً".

وعن مصعب بن سعد، عن أبيه قال: "المسلم يُطبَع على كلِّ طبيعةٍ غيرَ الخيانة والكذب".

واللسان الكذوب بمنزلة العضو الذي قد تعطَّل نفعُه، بل هو شرٌّ منه، فشرُّ ما في المرء لسان كذوب. ولهذا يجعل الله سبحانه شعارَ الكاذب عليه يوم القيامة، وشعارَ الكاذب على رسوله= سوادَ وجوههم.

والكذب له تأثير عجيب في سواد الوجه، ويكسوه بُرْقُعًا من المقت يراه كلُّ صادق؛ فَسِيْمَا الكذَّاب في وجهه ينادي عليه لمن له عينان. والصادق يرزقه الله مهابةً وحلاوةً، فمن رآه هابه وأحبَّه. والكاذب يرزقه الله مهانةً ومقتًا، فمن رآه مقَته واحتقره.

وقد قيل: عليك بالصِّدق حيث تخاف أنَّه يضرُّك، فإنَّه ينفعك. ودع ‌الكذب حيث ترى أنَّه ينفعك، فإنَّه يضرُّك.

يقول ابن القيم: أربعةٌ تيبِّس الوجه، وتُذهب ماءه وبهجته وطلاوته: ‌الكذب، والوقاحة، وكثرة السُّؤال عن غير علمٍ، وكثرة الفجور. وأربعةٌ يَعْشَقهم الذُّلُّ أشدَّ العشق: الكذّاب، والنّمّام، والبخيل، والجبان.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.


الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشُّكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحابته وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

عباد الله.. ‌الكذب حديث الشيطان؛ فهو الكاذبُ الآمر بالكذب، المزيِّن له، فكل كذب يقع في العالم؛ فهو تعليمه وحديثه.

والكذب تنتشر به الشائعات التي تسبب الفتن والقتل، يقول عبد الله بن مسعود قال: إذا بُخس المكيال؛ حُبِس القطر، وإذا ظهر الزنى؛ وقع الطاعون، وإذا كثُر ‌الكذب؛ كثر الهرج. وهو القتل.

ومما جاء في عذاب الكذّاب أنه يُشَقُّ شِدْقُ ‌الكذاب الكذبة العظيمة بكَلَالِيب الحديد إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه كما شَقَّتْ كذبتُه النواحي.

وقد قال بعض العلماء: إن الكذب من الكبائر؛ لأن الله سبحانه جعله في كتابه من صفات شرِّ البريَّة، وهم الكفار والمنافقون، فلم يصف به إلا كافرًا أو منافقًا، وجعله علَمَ أهل النار وشعارَهم، وجعل الصدقَ علَمَ أهل الجنة وشعارَهم.

وفي الصحيح من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالصدق، فإنه يهدي إلى البر، وإن البرَّ يهدي إلى الجنة، وإنَّ الرجلَ لَيصدُق حتى يُكتَب عند الله صِدِّيقًا. وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإنَّ الفجور يهدي إلى النار، وإنّ الرجل لَيكذِبُ حتى يُكتَب عند الله كذَّابًا".

وفي "الصحيحين" مرفوعًا: "آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذَب، وإذا وعَد أخلَفَ، وإذا اؤتُمِن خان".

وإن مما ينبغي العناية به في أخلاق الطفل وتربيته: أن يجنِّبه والده ‌الكذب والخيانة أعظم مما يجنبه السُّمَّ الناقع، فإنه متى سهَّل له سبيل ‌الكذب والخيانة أفْسَدَ عليه سعادة الدنيا والآخرة وحَرَمَه كلَّ خيرٍ.

يقول ابن القيم: وإذا قضى بالقُبح مطلقًا، واستمرَّ عليه مدَّةً، وتكرَّر ذلك على سمعه ولسانه، انغَرس في قلبه استقباحٌ منفِّر، فلو وقعت تلك الحالةُ النَّادرةُ وجد في نفسه نفرةً عنها؛ لطول نشوئه على الاستقباح؛ فإنه أُلقِيَ إليه منذ الصِّبا على سبيل التَّأديب والإرشاد أنَّ الكذبَ قبيحٌ لا ينبغي أن يُقْدِم عليه أحد، ولا ينبَّه على حُسْنِه في بعض الأحوال، خيفةً من أن لا تَسْتَحْكِمَ نُفْرَتُه عن الكذب، فيُقْدِم عليه، وهو قبيحٌ في أكثر الأحوال، والسَّماعُ في الصِّغَر كالنقش في الحجر، فينغرسُ في النَّفس، ويجدُ التَّصديقَ به مطلقًا، وهو صدقٌ لكن لا على الإطلاق، بل في أكثر الأحوال، اعتقَده مطلقًا.

عباد الله: ألا وإن أعظم الكذب: الكذبُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ففي «الصحيحين» عن علي أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تعمَّد عليَّ كذبًا فليتبوأ مقعده من النار».

وفيهما أيضًا عن المغيرة بن شعبة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّ كذبًا عليّ ليس ككذب على غيري، فمن كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار»، وفيهما أيضًا: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كذب عليّ متعمِّدًا فليتبوأ مقعده من النار».

وفي «صحيح البخاري» عن سلمة بن الأكوع قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «مَن يَقُلْ عليَّ ما لم أقُل فليتبوأ مقعده من النار».

‌والكذبُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم موجبًا لدخول النَّار واتِّخاذ منزلةٍ منها مبوَّأَه ــ وهو المنزلُ اللَّازم الذي لا يفارقه صاحبُه ــ لأنّه متضمِّنٌ للقول على الله بلا علمٍ، بل صريحُ ‌الكذب عليه؛ لأنَّ ما يضاف إلى الرَّسول فهو مضافٌ إلى المرسِل، والقولُ على الله بلا علمٍ صريحُ افتراءِ ‌الكذبِ عليه. {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الأنعام: 21].

عباد الله.. إن الله تعالى أمركم بالصلاة على رسوله عقب إخباره بأنه وملائكته يصلون عليه فقال: (إِنَّ ‌اللَّهَ ‌وَمَلَائِكَتَهُ ‌يُصَلُّونَ ‌عَلَى ‌النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)

اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، البشير النذير، والسراج المنير، وارضَ اللهم عن الأربعة الخلفاء الراشدين المهديين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن بقيَّة الصحابة، ومَن تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أرحم الراحمين.

اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، وانصُر عبادك الموحِّدين.

اللهم ادفَع عنَّا الغَلاء والربا والزنا والزلازل والمِحَن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصَّة، وعن سائر بلاد المسلمين عامَّة يا رب العالمين.

اللهم آمنَّا في أوطاننا، وأصلِح واحفظ ولاة أمورنا. اللهم وفِّقهم لما فيه عزُّ دِينك ونصْر أمَّة الإسلام. اللهم اجعَلْهم هُداةً مُهتَدِين صالحين مُصلِحين. اللهم ارزُقهم البطانةَ الصالحة الناصحة لدِينها وأمَّتها، وأبعدْ عنهم بطانةَ السوء يا حي يا قيوم.

اللهم اجعلنا من الصادقين وثبِّتنا على القول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخِرة.

(رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ).

عباد الله..

(إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ والإحْسانِ وإيتاءِ ذِي القُرْبى ويَنْهى عَنِ الفَحْشاءِ والمُنْكَرِ والبَغْيِ يَعِظُكم لَعَلَّكم تَذَّكَّرُونَ * وأوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذا عاهَدْتُمْ ولا تَنْقُضُوا الأيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكم كَفِيلًا إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ)

واذكُروا الله العظيم الجليل يذكُركم، واشكُروه على نِعَمِه يزدْكم، ولَذِكرُ الله أكبر، والله يعلَمُ ما تصنَعون.

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله