قال: (وشرائطُ التَّوبة ثلاثةٌ: النّدم، والإقلاع، والاعتذار).
فحقيقة التّوبة: هي النّدمُ على ما سلف منه في الماضي، والإقلاعُ عنه في الحال، والعزمُ على أن لا يعاوده في المستقبل. والثّلاثة تجتمع في الوقت الذي تقع فيه التّوبة، فإنّه في ذلك الوقت يندَم، ويُقلِع، ويَعزِم. فحينئذٍ يرجع إلى العبوديّة التي خُلِق لها، وهذا الرُّجوعُ هو حقيقة التّوبة. ولمّا كان متوقِّفًا على تلك الثّلاثة جُعلت شرائط له.
فأمّا النّدم، فإنّه لا تتحقَّق التَّوبةُ إلّا به، إذ من لم يندَم على القبيح فذلك دليلٌ على رضاه به وإصراره عليه. وفي "المسند": "الندم توبةٌ".
وأمّا الإقلاع، فتستحيل التَّوبة مع مباشرة الذَّنب.
وأمّا الاعتذار، ففيه إشكالٌ، فإنَّ من النّاس من يقول: من تمام التّوبة تركُ الاعتذار، فإنَّ الاعتذارَ محاجّةٌ عن الجناية، وتركَ الاعتذار اعترافٌ بها، ولا تصحُّ التّوبة إلّا بعد الاعتراف. وفي ذلك يقول بعضُ الشُّعراء لرئيسه، وقد عتب عليه في شيءٍ وما قابلتُ عَتْبَك باعتذارٍ … ولكنِّي أقولُ كما تقولُ:
وأطرُقُ بابَ عفوك بانكسارٍ … ويحكمُ بيننا الخلُقُ الجميلُ
فلمّا سمع الرّئيس مقالته قام وركب إليه من فوره، وأزال عتبه عليه. فتمامُ الاعترافِ تركُ الاعتذار، بأن يكون في قلبه ولسانه:اللهمَّ لا عذرَ لي، وإنّما هو محضُ حقِّك، ومحضُ جنايتي، فإن عفوتَ وإلّا فالحقُّ لك.
والّذي يظهر لي من كلام صاحب "المنازل" أنّه أراد بالاعتذار إظهارَ الضَّعفِ والمسكنةِ، وغلبةِ العدوِّ، وقوّةِ سلطان النّفس، وأنّه لم يكن منِّي ما كان استهانةً بحقِّك، ولا جهلًا به، ولا إنكارًا لاطِّلاعك عليَّ، ولا استهانةً بوعيدك؛ وإنّما كان عن غلباتِ الهوى، وضعفِ القوّة عن مقاومة مرض الشّهوة، وطمعًا في مغفرتك، واتِّكالًا على عفوك، وحسنَ ظنٍّ بك، ورجاءً لكرمك، وطمعًا في سعة حلمك ورحمتك. وغرَّني بك الغَرورُ، والنّفسُ الأمّارةُ بالسُّوء، وأعانني جهلي. ولا سبيلَ لي إلى الاعتصام إلّا بك، ولا معونةَ على طاعتك إلّا بتوفيقك، ونحو هذا من الكلام المتضمِّن للاستعطاف والتّذلُّل والافتقار، والاعتراف بالعجز، والإقرار بالعبوديّة.
فهذا من تمام التّوبة. وإنّما يسلكه الأكياس المتملِّقون لربِّهم، والله يحبُّ أن يُتَملَّق له. وفي الحديث: "تملَّقُوا الله". وفي الصّحيح: "لا أحدَ أحبُّ إليه العذرُ من الله". وإن كان معنى ذلك: الإعذار، كما قال في آخرهِ: "من أجل ذلك أرسل الرُّسل مبشِّرين ومنذرين"، وقال تعالى: (فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا * عُذْرًا أَوْ نُذْرًا) [المرسلات: 5 - 6]، فإنّه من تمام عدله وإحسانه أن أعذَرَ إلى عبيده، ولم يأخذ ظالمَهم إلّا بعد كمال الإعذار وإقامة الحجّة؛ فهو أيضًا يحبُّ من عبده أن يعتذر إليه، ويتنصَّل إليه من ذنبه. وفي الحديث: "من اعتذر إلى الله قبِل الله عذرَه". فهذا هو الاعتذار المحمود النّافع.
مدارج السالكين (1/ 280 – 282 ط عطاءات العلم)