بحث في وضع الركبتين قبل اليدين في السجود

وكان يضع ركبتيه قبل يديه، ثم يديه بعدهما، ثم جبهته وأنفه. هذا هو الصحيح الذي رواه شريك، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن وائل بن حُجْر: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه. ولم يرو في فعله ما يخالف ذلك.

وأما حديث أبي هريرة يرفعه: «إذا سجد أحدكم فلا يبرُكْ كما يبرُكُ البعير، وليضَعْ يديه قبل ركبتيه»، فالحديث ــ والله أعلم ــ قد وقع فيه وهمٌ من بعض الرواة، فإن أوله يخالف آخره؛ فإنه إذا وضع يديه قبل ركبتيه فقد برَك كما يبرُك البعير، فإنَّ البعير إنما يضع يديه أولًا. ولما علم أصحاب هذا القول ذلك قالوا: ركبتا البعير في يديه، لا في رجليه؛ فهو إذا برَك وضع ركبتيه أولًا، فهذا هو المنهيُّ عنه، وهو فاسد لوجوه:

أحدها: أن البعير إذا برك فإنه يضع يديه أولًا وتبقى رجلاه قائمتين، وإذا نهض فإنه ينهض برجليه أولًا وتبقى يداه على الأرض، وهذا هو الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، وفعَل خلافَه. فكان أول ما يقع منه على الأرض الأقرب إليها فالأقرب، وأول ما يرتفع عن الأرض منها الأعلى فالأعلى.

فكان يضع ركبتيه أولًا، ثم يديه، ثم جبهته. وإذا رفع رفع رأسه أولًا، ثم يديه، ثم ركبتيه. وهذا عكس فعل البعير، وهو صلى الله عليه وسلم نهى في الصلاة عن التَّشبُّه بالحيوانات، فنهى عن بروكٍ كبروك البعير، والتفاتٍ كالتفات الثعلب، وافتراشٍ كافتراش السَّبُع، وإقعاءٍ كإقعاء الكلب، ونَقْرٍ كنقر الغراب، ورفعِ الأيدي وقتَ السلام كأذناب الخيل الشُّمُس. فهديُ المصلِّي مخالفٌ لهدي الحيوانات.

الثاني: أن قولهم: «ركبتا البعير في يديه» كلام لا يُعقَل ولا يعرفه أهل اللغة، وإنما الرُّكبة في الرِّجلين، وإن أُطلق على اللتين في يديه اسمُ الركبة فعلى سبيل التغليب.

الثالث: أنه لو كان كما قالوه لقال: فليبرُكْ كما يبرُك البعير، فإنَّ أول ما يمسُّ الأرض من البعير يداه.

وسِرُّ المسألة أنَّ من تأمَّل بروكَ البعير وعَلِم نهيَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم عن بروكٍ كبروك البعير= علِمَ أنَّ حديث وائل بن حُجْر هو الصواب. والله أعلم.

وكان يقع لي أن حديث أبي هريرة مما انقلب على بعض الرواة متنه، ولعله: «وليضع ركبتيه قبل يديه»، كما انقلب على بعضهم حديث عائشة وابن عمر: «إن بلالا يؤذِّن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذِّن ابنُ أم مكتوم»، فقال: «إنَّ ابن أم مكتوم يؤذِّن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذِّن بلال»؛ وكما انقلب على بعضهم حديث أبي هريرة: «لا يزال يلقى في النار وتقول: هل من مزيد»، إلى أن قال: «وأمَّا الجنَّة فينشئ الله لها خلقًا يُسكِنهم إياها» فقال: «وأما النار فينشئ الله لها خلقًا يسكنهم إياها».

حتى رأيت أبا بكر بن أبي شيبة قد رواه كذلك، فقال ابن أبي شيبة: حدثنا محمد بن فضيل، عن عبد الله بن سعيد، عن جدِّه، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا سجد أحدكم فليبدأ بركبتيه قبل يديه، ولا يبرُكْ بروكَ الفحل»، ورواه الأثرم في «سننه» عن أبي بكر كذلك.

وقد روي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا ما يصدِّق ذلك ويوافق حديث وائل بن حُجْر. قال ابن أبي داود: حدثنا يوسف بن عدي، حدَّثنا ابن فُضَيل، عن عبد الله بن سعيد، عن جدِّه، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد بدأ بركبتيه قبل يديه.

وقد روى ابن خزيمة في «صحيحه» من حديث مصعب بن سعد، عن أبيه قال: «كنَّا نضع اليدين قبل الركبتين، فأُمِرْنا بالركبتين قبل اليدين». وعلى هذا، فإن كان حديث أبي هريرة محفوظًا فإنه منسوخ. وهذه طريقة صاحب «المغني» وغيره. ولكن للحديث علَّتان:

إحداهما: أنه من رواية يحيى بن سلَمة بن كُهَيل، وليس ممن يحتجُّ به، قال النسائي: هو متروك. وقال ابن حبان: منكر الحديث جدًّا لا يحتج به. وقال ابن معين: ليس بشيء.

الثانية: أن المحفوظ من رواية مصعب بن سعد عن أبيه في هذا، إنما هو قصةُ التطبيق، وقولُ سعد: كنا نصنع هذا، فأُمِرْنا أن نضَع أيدينا على الرُّكَب.

وأما قول صاحب «المغني»: «وروي عن أبي سعيد قال: كنا نضع اليدين قبل الركبتين، فأُمِرنا بوضع الركبتين قبل اليدين»، فهذا ــ والله أعلم ــ وهمٌ في الاسم، وإنما هو عن سعد؛ وهو أيضًا وهمٌ في المتن كما تقدَّم، وإنما هو في قصة التطبيق. والله أعلم.

وأما حديث أبي هريرة المتقدِّم، فقد علَّله البخاري والترمذي والدارقطني. قال البخاري: محمد بن عبد الله بن حسن لا يتابع عليه، وقال: لا أدري سمع من أبي الزناد أم لا؟ وقال الترمذي: غريب لا نعرفه من حديث أبي الزناد إلا من هذا الوجه. وقال الدارقطني: تفرد به الدراوردي، عن محمد بن عبد الله بن الحسن العلوي، عن أبي الزناد.

وقد ذكر النسائي عن قتيبة، حدثنا عبد الله بن نافع، عن محمد بن عبد الله بن حسن، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «يعمِدُ أحدكم في صلاته، فيبرُك كما يبرُك الجمل!»، ولم يزد. قال أبو بكر بن أبي داود: هذه سنَّة تفرَّد بها أهل المدينة، ولهم فيها إسنادان، هذا أحدهما، والآخر عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قلت: أراد الحديث الذي رواه أصبغ بن الفرج عن الدراوردي عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أنه كان يضع يديه قبل ركبتيه، ويقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك. رواه الحاكم في «المستدرك» من طريق مُحْرِز بن سلَمة عن الدراوردي، وقال: على شرط مسلم.

وقد روى الحاكم من حديث حفص بن غياث عن عاصم الأحول عن أنس: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم انحطَّ بالتكبير حتى سبقت ركبتاه يديه».

قال الحاكم: على شرطهما ولا أعلم له علَّةً.

قلت: قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سألت أبي عن هذا الحديث، فقال: هذا حديث منكر. انتهى. وإنما أنكره ــ والله أعلم ــ لأنه من رواية العلاء بن إسماعيل العطار عن حفص بن غياث، والعلاء هذا مجهول لا ذكر له في الكتب الستة.

فهذه الأحاديث المرفوعة من الجانبين، كما ترى.

وأما الآثار عن الصحابة، فالمحفوظ عن عمر بن الخطاب أنه كان يضع ركبتيه قبل يديه. ذكره عنه عبد الرزاق وابن المنذر وغيرهما. وهو المروي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. ذكره الطحاوي عن فهد عن عمر بن حفص، عن أبيه، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن أصحاب عبد الله علقمة والأسود قالا: حفظنا من عمر في صلاته أنه خرَّ بعد ركوعه على ركبتيه كما يخِرُّ البعير، ووضع ركبتيه قبل يديه. ثم ساق من طريق الحجاج بن أرطاة قال: قال إبراهيم النخعي: حُفِظ من عبد الله بن مسعود أن ركبتيه كانتا تقعان إلى الأرض قبل يديه. وذكر عن ابن مرزوق، عن وهب، عن شعبة، عن مغيرة قال: سألت إبراهيم عن الرجل يبدأ بيديه قبل ركبتيه إذا سجد؟ قال: أو يصنع ذلك إلا أحمق أو مجنون!

قال ابن المنذر: «وقد اختلف أهل العلم في هذا الباب، فممن رأى أن يضع ركبتيه قبل يديه: عمر بن الخطاب. وبه قال النخعي، ومسلم بن يسار، والثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو حنيفة وأصحابه، وأهل الكوفة. وقالت طائفة: يضع يديه قبل ركبتيه، قاله مالك. وقال الأوزاعي: أدركتُ الناسَ يضعون أيديهم قبل ركبهم». قال ابن أبي داود: وهو قول أصحاب الحديث.

قلت: وقد روي حديث أبي هريرة بلفظ آخر ذكره البيهقي، وهو «إذا سجد أحدكم فلا يبرُكْ كما يبرُك البعير، وليضَعْ يديه على ركبتيه». قال البيهقي: فإن كان محفوظًا كان دليلًا على أنه يضع يديه على ركبتيه عند الإهواء إلى السجود.

وحديث وائل بن حجر أولى لوجوه:

أحدها: أنه أثبَتُ من حديث أبي هريرة، قاله الخطابي وغيره.

الثاني: أن حديث أبي هريرة مضطرب المتن كما تقدَّم. فمنهم من يقول فيه: «وليضَعْ يديه قبل ركبتيه»، ومنهم من يقول بالعكس، ومنهم من يقول: «وليضع يديه على ركبتيه»، ومنهم من يحذف هذه الجملة رأسًا.

الثالث: ما تقدَّم من تعليل البخاري والدارقطني وغيرهما له.

الرابع: أنه على تقدير ثبوته قد ادعى فيه جماعة من أهل العلم النسخ، قال ابن المنذر: وقد زعم بعض أصحابنا أن وضع اليدين قبل الركبتين منسوخ، وقد تقدَّم ذلك.

الخامس: أنه الموافق لنهي النبيِّ صلى الله عليه وسلم عن بروك كبروك الجمل في الصلاة، بخلاف حديث وائل بن حُجْر.

السادس: أنه الموافق للمنقول عن الصحابة كعمر بن الخطاب، وابنه، وعبد الله بن مسعود. ولم ينقل عن أحد منهم ما يوافق حديث أبي هريرة إلا عن ابن عمر على اختلاف عنه.

السابع: أن له شواهد من حديث ابن عمر وأنس كما تقدم، وليس لحديث أبي هريرة شاهد؛ فلو تقاوَما لقُدِّم حديثُ وائل بن حُجْر من أجل شواهده، فكيف وحديث وائل أقوى كما تقدَّم؟.

الثامن: أن أكثر الناس عليه، والقول الآخر إنما يُحفَظ عن الأوزاعي ومالك. وأما قول ابن أبي داود: إنه قول أهل الحديث، فإنما أراد به بعضهم، وإلا فأحمد وإسحاق والشافعي على خلافه. والله أعلم.

التاسع: أنه حديث فيه قصَّة محكيَّة سبقت حكايةَ فعلِه صلى الله عليه وسلم، فهي أولى أن تكون محفوظة؛ لأن الحديث إذا كان فيه قصة دلَّ على أنه حُفِظ.

العاشر: أنَّ الأفعال المحكية فيه كلَّها ثابتة صحيحة من رواية غيره، فهي أفعال معروفة صحيحة، وهذا واحد منها، فله حكمها. ومعارضُه ليس مقاومًا له، فيتعيَّن ترجيحُه. والله أعلم.


زاد المعاد ط عطاءات العلم (1/ 253)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله