أول ما يتشكل ويخلق من أعضاء الإنسان

واختلف في أول ما يتشكل ويخلق من أعضائه:

قال قائلون: هو القلب.

وقال آخرون: إنه الدماغ.

وقال آخرون: هو الكبد.

وقال آخرون: فقار الظهر.

فاحتج أرباب القول الأول، بأن القلب هو العضو والأساس الذي هو معدن الحرارة الغريزية الذي هو مركب الحياة، فوجب أن يكون هو المقدَّم في الخلق. قالوا: وقد أخبر المشرِّحون أنهم وجدوا في النطفة ـ عند كمال انعقادها ـ نقطةً سوداء.

واحتج من قال إنه الدماغ: بأن الدماغ من الحيوان هو العضو الرئيس من الإنسان، وهو مجمع الحواس، وأن الأمر المختص بالحيوان هو الحسُّ والحركة الإرادية، وأصل ذلك من الدماغ، ومنه ينبعث، وإذا كان الخاص بالحيوان هو الحس والحركة الإرادية، وكانا عن هذا العضو، كان هو المقدم في الإيجاد والتكوين.

واحتج من قال إنه الكبد: بأنه العضو الذي منه النمو والاغتذاء الذي به قوام الحيوان. قالوا: فالنظام الطبيعيُّ يقتضي أن يكون أول متكون: الكبد، ثم القلب، ثم الدماغ، لأن أول فصل الحيوان هو النمو، وليس به في هذا الوقت حاجة إلى حسٍّ، ولا إلى حركة إرادية، لأنه يُعَدُّ بمنزلة النبات، فلا حاجة به حينئذ إلى غير النمو. ولهذا إنما تصير له قوة الحس والإرادة عند تعلُّق النفس به، وذلك في الطور الرابع من أطوار تخليقه، فكان أول الأعضاء خلقًا فيه هو آلة النمو، وذلك الكبد. والذي شاهده أرباب التشريح، حتى إنهم متفقون عليه، أنه أول ما يتبين في خلق جثة الحيوان ثلاث نقط متقاربة بعضها من بعض، يتوهم أنها رسم الكبد والقلب والدماغ ثم يزداد بعضها من بعض بعدًا على امتداد أيام الحمل، فهذا القدر هو الذي عند المشرِّحين، فأما أيّ هذه النقط أقدم وأسبق، فليس عندهم عليه دليل إلا الأَخْلَقُ والأَوْلَى والقياسُ، والله أعلم.

ثم تُقَدَّرُ مفاصلُ أعضائه، وعظامه وعروقه وعصبه، ويُشَقُّ له السمع والبصر والفم، ويفتق حلقه بعد أن كان رَتْقًا، فيُركَّب فيه اللسان، ويُخطّط شكله وصورته، وتُكْسَى عظامه لحمًا، ويُربَط بعضها إلى بعض أحكم ربط وأقواه، وهو الأسْر الذي قال فيه: {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} [الإنسان/ 28]. ومنه الإسار الذي يربط به، ومنه الأسير.

قال الإمام أحمد: حدّثنا روح بن عبادة، حدّثنا أبو هلال، حدّثنا ثابت، عن صفوان بن محرز، قال: كان نبيُّ الله داودُ عليه السلام إذا ذَكرَ عذابَ الله تخلَّعت أوْصَالُه ما يُمْسِكُها إلا الأسْرُ، فإذا ذَكَرَ رحمةَ الله رجعتْ.


تحفة المودود بأحكام المولود (ص356 – 258 ط عطاءات العلم)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله