مُحَمَّد بن أبي بكر بن أَيُّوب بن سعد بن حريز الزرعي، الدِّمَشْقِي، شمس الدّين ابْن قيم الجوزية الْحَنْبَلِيّ، ولد سنة 691 وَسمع على التقي سُلَيْمَان، وَأبي بكر بن عبد الدَّائِم، والمطعم، وَابْن الشيرازى، وَإِسْمَاعِيل بن مَكْتُوم والطبقة. وَقَرَأَ الْعَرَبيَّة على ابْن أبي الْفَتْح وَالْمجد التّونسِيّ. وَقَرَأَ الْفِقْه على الْمجد الْحَرَّانِي، وَابْن تَيْمِية، ودرّس بالصدرية وَأمّ بالجوزية، وَكَانَ لِأَبِيهِ فِي الْفَرَائِض يَد فَأَخذهَا عَنهُ. وَقَرَأَ فِي الْأُصُول على الصفي الْهِنْدِيّ، وَابْن تَيْمِية.
وَكَانَ جرئ الْجنان وَاسع الْعلم عَارِفًا بِالْخِلَافِ ومذاهب السّلف، وَغلب عَلَيْهِ حب ابْن تَيْمِية حَتَّى كَانَ لَا يخرج عَن شئ من أَقْوَاله؛ بل ينتصر لَهُ فِي جَمِيع ذَلِك، وَهُوَ الَّذِي هذّب كتبه وَنشر علمه، وَكَانَ لَهُ حَظّ عِنْد الْأُمَرَاء المصريين، واعتقل مَعَ ابْن تَيْمِية بالقلعة بعد أَن أهين وطيف بِهِ على جمل مَضْرُوبا بِالدرةِ، فَلَمَّا مَاتَ أُفرج عَنهُ، وامتحن مرّة أُخْرَى بِسَبَب فتاوى ابْن تَيْمِية، وَكَانَ ينَال من عُلَمَاء عصره وينالون مِنْهُ.
قَالَ الذَّهَبِيّ فِي الْمُخْتَص: حبس مرّة لإنكاره شدّ الرحل لزيارة قبر الْخَلِيل ثمَّ تصدر للأشغال وَنشر الْعلم وَلكنه معجب بِرَأْيهِ جرئ على الْأُمُور، وَكَانَت مُدَّة ملازمته لِابْنِ تَيْمِية مُنْذُ عَاد من مصر سنة 712 إِلَى أَن مَاتَ.
وَقَالَ ابْن كثير: كَانَ ملازما للاشتغال لَيْلًا وَنَهَارًا، كثير الصَّلَاة والتلاوة، حسن الْخلق، كثير التودد، لَا يحْسد وَلَا يحقد، ثمَّ قَالَ: لَا أعرف فِي زَمَاننَا من أهل العل أَكثر عبَادَة مِنْهُ، وَكَانَ يُطِيل الصَّلَاة جدا ويمد ركوعها وسجودها إِلَى أَن قَالَ: كَانَ يقْصد للإفتاء بِمَسْأَلَة الطَّلَاق حَتَّى جرت لَهُ بِسَبَبِهَا أُمُور يطول بسطها مَعَ ابْن السُّبْكِيّ وَغَيره، وَكَانَ إِذا صلى الصُّبْح جلس مَكَانَهُ يذكر الله حَتَّى يتعالى النَّهَار وَيَقُول: هَذِه غدوتي لَو لم أقعدها سَقَطت قواي. وَكَانَ يَقُول: بِالصبرِ والفقر ينَال الْإِمَامَة فِي الدّين، وَكَانَ يَقُول: لَا بُد للسالك من همة تسيره وتُرَقِّيه، وَعلم يبصره ويهديه، وَكَانَ مغرى بِجمع الْكتب فَحصل مِنْهَا مَا لَا يحصر حَتَّى كَانَ أَوْلَاده يبيعون مِنْهَا بعد مَوته دهرا طَويلا سوى مَا اصطفوه مِنْهَا لأَنْفُسِهِمْ، وَله من التصانيف: الْهَدْي، وأعلام الموقعين، وبدائع الْفَوَائِد، وطرق السعادتين، وَشرح منَازِل السائرين، وَالْقَضَاء وَالْقدر، وجلاء الأفهام فِي الصَّلَاة وَالسَّلَام على خير الْأَنَام، ومصايد الشَّيْطَان، ومفتاح دَار السَّعَادَة، وَالروح، وحادي الْأَرْوَاح، وَرفع الْيَدَيْنِ، وَالصَّوَاعِق الْمُرْسلَة على الْجَهْمِية والمعطلة، وتصانيف أُخْرَى. وكل تصانيفه مَرْغُوب فِيهَا بَين الطوائف، وَهُوَ طَوِيل النَّفس فِيهَا يتعانى الْإِيضَاح جهده فيسهب جدا، ومعظمها من كَلَام شَيْخه يتَصَرَّف فِي ذَلِك، وَله فِي ذَلِك ملكة قَوِيَّة وَلَا يزَال يدندن حول مفرداته وينصرها ويحتج لَهَا، وَمن نظمه قصيدة تبلغ سِتَّة آلَاف بَيت سَمَّاهَا الكافية فِي الِانْتِصَار للفرقة النَّاجِية. وَهُوَ الْقَائِل:
بــنــي أبـــي بــكـر كـثـيـر ذنُــوبـه فَلَيْسَ على من نَالَ من عرضه إِثْم
بــنـي أبـــي بــكـر غَـــدا مـتـصدرا يـعـلم عـلـما وَهُــوَ لَـيْسَ لَـهُ عـلم
بــنـي أبــي بـكـر جـهـول بِـنَـفسِهِ جـهـول بِـأَمْـر الله أَنــى لَــهُ الْـعـلم
بــنــي أبــــي بــكـر يـــروم تـرقـيـا إِلَـى جـنَّة الـمأوى وَلَـيْسَ لَـهُ عزم
بـنـي أبــي بـكر لـقد خَـابَ سَـعْيه إِذا لـم يكن فِي الصَّالِحَات لَهُ سهم
بــنـي أبـــي بـكـر كَـمَـا قَــالَ ربــه هـلوع كـنُود وَصـفه الْـجَهْل وَالظُّلم
بــنـي أبـــي بـكـر وَأَمْـثَـاله غَــدَتْ بـفـتـواهم هـــذى الـخـلـيقة تـأتـم
وَلَيْسَ لَهُم فِي الْعلم بَاعَ وَلَا التقى وَلَا الـزّهْد وَالـدُّنْيَا لـديهم هِيَ الْهم
بــنـي أبـــي بــكـر غَـــدا مـتـمـنيا وصــال الْـمَـعَالِي والـذنُوب لَـهُ هـم
وَجَرت لَهُ مِمَّن مَعَ الْقُضَاة مِنْهَا فِي ربيع الأول طلبه السُّبْكِيّ بِسَبَب فتواه بِجَوَاز الْمُسَابقَة بِغَيْر مُحَلل فَأنْكر عَلَيْهِ، وَآل الْأَمر إِلَى أَنه رَجَعَ عَمَّا كَانَ يُفْتى بِهِ من ذَلِك، وَمَات فِي ثَالِث عشر شهر رَجَب سنة 751 وَكَانَت جنَازَته حافلة جدا، ورئيت لَهُ منامات حَسَنَة، وَكَانَ هُوَ ذكر قبل مَوته بِمدَّة أَنه رأى شَيْخه ابْن تَيْمِية فِي الْمَنَام وَأَنه سَأَلَهُ عَن مَنْزِلَته فَقَالَ إِنَّه أنزل منزلَة فَوق فلَان وسمى بعض الأكابر، قَالَ لَهُ وَأَنت كدت تلْحق بِهِ وَلَكِن أَنْت فِي طبقَة ابْن خُزَيْمَة.
الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة (٥/ ١٣٧ - ١٣٩)