إن من الأمور المهمة في حياة العالم، وطالب العلم: اقتناء أكبر قدرٍ ممكن من الكتب في سائر الفنون وشتى العلوم.
فلا شك أن وجود مكتبة متكاملة بين يدي طالب العلم يتيح له فرصةً أكبر للقراءة والاطلاع، ومن ثَمَّ يكون ذلك من أكبر العون له على الترقي في المعرفة والتقدم في التحصيل، كما أن نوع المراجع التي تشتمل عليها هذه المكتبة، له أثر مهمٌ في تكوين الشخصية العلمية لصاحبها.
قال العلامة بدر الدين بن جماعة - عند ذكر آداب طالب العلم مع الكتب : "الأول: ينبغي لطالب العلم أن يعتني بتحصيل الكتب المحتاج إليها ما أمكنه، شراءً وإلا فإجارَةً أو عاريةً؛ لأنها آلة التحصيل".
ولكن ينبغي أن يُعلم أن مجرد جمع الكتب وتحصيلها ليس كافياً في حصول الرِّفْعَةِ والتقدم في العلم، بل لا بد أن يَضُمَّ إلى ذلك: الْجِدَّ والاجتهاد في الطلب، وكثرة المطالعة لها، وبذل الجهد والوقت في نظرها.
قال الشيخ ابن جماعة:"ولا يجعل تحصيلها وكثرتها حظَّهُ من العلم، وجمعها نصيبه من الفهم، كما يفعله كثير من الْمُنْتَحِلِين للفقه والحديث، وقد أحسن القائل: إذَا لَمْ تَكُنْ حَافِظَاً وَاعِيَاً ... فَجَمْعُكَ لِلكُتبِ لا يَنْفَعُ"
وقد تحدَّثت مصادر ترجمة العلامة ابن القَيِّم عن اشتهاره بحب الكتب، وغرامه بجمع الكثير منها، حتى حصل له من ذلك ما لم يحصل لغيره.
ومن أقوال أصحابه ومترجميه في وصف ذلك:
قال ابن كثير رحمه الله: "واقتنى من الكتب ما لا يتهيأ لغيره تحصيل عُشْرِهِ، من كتب السلف والخلف".
وقال ابن رجب الحنبلي: "وكان شديد المحبة للعلم ... واقتناء الكتب، واقتنى من الكتب ما لم يحصل لغيره".
وقال الحافظ ابن حجر: "وكان مُغْرىً بجمع الكتب، فَحَصَّل منها ما لا يُحْصَر ...".
فهكذا كان ابن القيم مغرماً بجمع الكتب، حريصاً على اقتنائها، ولم يكن حظه منها مجرد جمعها، بل جمع إلى ذلك: جِدًّا واجتهاداً في درسها ونظرها، وإنفاقاً لليله ونهاره في مطالعتها، مع ما آتاه الله - سبحانه - من قوة الذكاء، وسعة الحفظ، ونور البصيرة، ومع ما وصف به من شدة الحب للعلم كما تقدم، فانتفع لأجل ذلك كله بهذه الكتب.
وربما يكون ابن القَيِّم - رحمه الله - قد نَسَخَ جملةً من هذه الكتب بخطه، فقد قال ابن كثير رحمه الله: "وكتب بخطه الحسن شيئاً كثيراً". وقال ابن رجب: "وكتب بخطه ما لا يُوصَف كَثْرَةً".
وقد يكون المراد بذلك: ما كتبه تصنيفاً، ولكن لا يمتنع - أيضاً - كتابته شيئاً من ذلك على سبيل النسخ، وبخاصة في مرحلة الطلب.
وعلى كل حال، فإن الذي يهمنا هو أن ابن القَيِّم - رحمه الله - قد حصَّل من الكتب ما لم يحصله غيره، ويظهر ذلك واضحاً عند النظر في قائمة المصادر التي اعتمدها في مؤلفاته، فقد كانت تلك المصادر غزيرةً وفيرةً، وكانت - في الوقت نفسه - قيِّمة ونفيسة، مع تنوعها واختلاف فنونها.
وليس أدل على ضَخَامَةِ المكتبة التي خَلَّفَهَا ابنُ القَيِّم -رحمه الله-وكثرةِ كتبها، مما حكاه الحافظُ ابن حجر: من أن أولادَ ابن القَيِّم ظلُّوا "يبيعون منها بعد موته دهراً، سوى ما اصطفوه لأنفسهم".
وقد نَفَعَ الله بهذه المكتبة العامرة بعد موت ابن القَيِّم رحمه الله؛ ذلك أنها آلت إلى أولاده من بعده - وقد كانوا أهل علم وفضل كما مضى - فاصطفوا لأنفسهم جملةً كبيرةً منها كما مرَّ، واقتنى كتباً نفيسةً منها: ابن أخيه عماد الدين إسماعيل بن عبد الرحمن،"وكان لا يبخل بعاريتها" كما قال ابن حجي.
فرحم الله ابنَ القَيِّم، وأجزل له المثوبة، فلقد خَلَّف لأولاده خير زاد، وأفضل ذخيرة ليوم الْمَعَادِ، مع عموم الانتفاعِ بهذه الكتب بالإعارة وغيرها.
ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها لجمال بن محمد السيد (1/ 173 - 176)