نبوغه وتقدمه في العلم وشهادة الأئمة له وثناؤهم عليه

تَقَدَّمَ - عند الكلام على أخلاق ابن القيم وصفاته الشخصية - ذكرُ طَرَفٍ من حاله في طلبه للعمل، وشدة محبته له، وجِدِّهِ واجتهاده في تحصيله ليلاً ونهاراً.

ولقد أثمر هذا الجهد المتواصل، وتلك المحبة الصادقة للعلم ودرسه، أطيب الثمار، فَنَبَغَ ابنُ القَيِّم - رحمه الله - في علوم عديدة، حَتَّى ذَاعَ صِيتُهُ، وفاق في ذلك أَقْرانَهُ وأهلَ عصره، ولم يُر في وَقْتِهِ مِثْلُهُ.

ولقد شهد له تلاميذه ومعاصروه - بل وبعض شيوخه - بطول الباع، وعلو الشأن، وبلوغ الغاية في شتى العلوم وسائر الفنون، فلنذكر طرفاً من شهادات هؤلاء الأئمة وثنائهم عليه، ليعرف بذلك قدره، ومدى تقدمه وعلو شأنه، فمن ذلك:

1- قال القاضي برهان الدين الزُّرَعي: "ما تحت أديم السماء أوسع علماً منه".

2- وقال شيخه المزي: "هو في هذا الزمان كابن خزيمة في زمانه".

وهذا القول من المزي - على جلالته - يطابق بشارة شيخه ابن تَيْمِيَّة له - لَمَّا رآه في المنام - بأنه في طبقة ابن خزيمة، وقد تقدم ذكر ذلك.

3- وقال الحافظ الذهبي: "الفقيه، الإمام، المفتي، المتفنن، النحوي". وقال أيضاً: "عُني بالحديث متونه ورجاله، وكان يشتغل في الفقه ويجيد تقريره، وفي النحو وَيَدْرِيه، وفي الأصلين".

4- وقال الصَّلاح الصَّفَدِي: "الإمام العلامة". وقال أيضاً: "اشتغل كثيراً وناظر، واجتهد، وأكبَّ على الطلب، وصَنَّف، وصار من الأئمة الكبار في: علم التفسير، والحديث، والأصول: فقهاً وكلاماً، والفروع،والعربية، ولم يخلف الشيخ العلامة تقي الدين ابن تَيْمِيَّة مثله".

5- وقال أبو المحاسن الحسيني الدمشقي: "الشيخ، الإمام، العلامة، ذو الفنون... أفتى، ودرَّس، وناظر، وصنف، وأفاد".

6- وقال الحافظ ابن كثير: "الإمام العلامة... سمع الحديث، واشتغل بالعلم، وبرع في علوم متعددة، لاسيما: علم التفسير، والحديث، والأصلين. ولَمَّا عاد الشيخ تقي الدين ابن تَيْمِيَّة من الديار المصرية في سنة(712هـ)، لازَمَه إلى أن مات الشيخ، فأخذ عنه علماً جمَّاً، مع ما سلف له من الاشتغال، فصار فريداً في بابه في فنون كثيرة… وبالجملة: كان قليل النظير في مجموعه وأموره وأحواله".

7- وقال ابن رجب: "الفقيه، الأصولي، المفسر، النحوي، العارف... تفقه في المذهب، وبرع وأفتى... وتفنن في علوم الإسلام، وكان عارفاً بالتفسير لا يُجارى فيه، وبأصول الدين، وإليه فيهما المنتهى. والحديث ومعانيه، وفقهه، ودقائق الاستنباط منه، لا يلحق في ذلك. وبالفقه وأصوله، وبالعربية، وله فيها اليد الطولى، وبعلم الكلام، والنحو وغير ذلك، وكان عالماً بعلم السلوك، وكلام أهل التصوف وإشاراتهم ودقائقهم، له في كل فنٍّ من هذه الفنون اليد الطولى".

وقال أيضاً: "... ولا رأيت أوسع منه علماً، ولا أعرفَ بمعاني القرآن والسنة، وحقائق الإيمان منه، وليس هو بالمعصوم، ولكن لم أر في معناه مثله".

8- وقال ابن ناصر الدين الدمشقي: "أحد المحققين، عَلَمُ المصنفين، نادرة المفسرين". وقال أيضاً: "كان ذا فنون من العلوم - وخاصة التفسير والأصول - من المنطوق والمفهوم".

9- وقال تقي الدين المقريزي: "برع في عدة علوم، ما بين:  تفسير، وفقه، وعربية، وغير ذلك، ولزم شيخ الإسلام، وأخذ عنه علماً جَمًّا، فصار أحد أفراد الدنيا".

10- وقال الحافظ ابن حجر: "كان جرئ الجنان، واسع العلم، عارفاً بالخلاف ومذاهب السلف". وقال أيضاً - في تقريظه لكتاب (الرد الوافر)-: "ولو لم يكن للشيخ تقي الدين من المناقب إلا تلميذه الشهير: الشيخ شمس الدين ابن قَيِّم الجوزية، صاحب التصانيف النافعة السائرة، التي انتفع بها الموافق والمخالف، لكان غاية في الدلالة على عظم مَنْزلته".

11- وقال ابن تَغْرِي بَرْدِي: "كان بارعاً في عدة علوم، ما بين: تفسير، وفقه، وعربية، ونحو، وحديث، وأصول، وفروع، ولزم الشيخ تقي الدين بن تيمية... وأخذ عنه علماً كثيراً، حتى صار أحد أفراد زمانه".

12- وقال السخاوي: "العلامة، الحجة، المتقدم في: سعة العلم، ومعرفة الخلاف، وقوة الجنان...".

13- وقال السيوطي: "صنَّف، وناظر، واجتهد، وصار من الأئمة الكبار في التفسير، والحديث، والفروع، والأصلين، والعربية".

14- وقال ابن العماد: "الفقيه الحنبلي- بل المجتهد المطلق - المفسر، النحو، الأصولي، المتكلم".

15- وقال الشوكاني: "العلامة الكبير، المجتهد المطلق، المصنف المشهور... برع في جميع العلوم، وفاق الأقران، واشتهر في الآفاق، وتَبَحَّر في معرفة مذاهب السلف".

16- وقال الشَطِّيُّ: "الفقيه، الأصولي، المفسر، المحدث... ذو اليد الطولى، الآخذ من كل علم بالنصيب الأوفى... تَفَنَّن في علوم الإسلام، فكان إليه المنتهى في: التفسير، وأصول الدين، وكان في الحديث والاستنباط منه لا يُجَارى، وله اليد العليا في الفقه وأصوله، والعربية، وغير ذلك".

تلك هي أقوال هؤلاء الجهابذة، أئمة المسلمين، وأعلام الدين في الشهادة لابن القَيِّم، والثناء عليه، وبيان منزلته ودرجته في العلم، وتأكيد تقدمه وإمامته في سائر العلوم، وشتى الفنون.

وكثير من هؤلاء الأئمة قد عايشه وعرفه عن قرب، ومنهم من تتلمذ عليه وأخذ عنه، ولذلك فإن هذه الشهادات لها قيمة خاصة.

فإذا أضيف إلى ذلك: عِظَم مكانة هؤلاء الأئمة، وعلوِّ شأنهم، وذيوع صيتهم- كالذهبي، وابن كثير، وابن رجب، وابن حجر، والسيوطي، والشوكاني، وغيرهم - علمنا القيمة الحقيقية لهذه الأقوال، وتلك الشهادات، وأنها تُعَبِّر تعبيراً صادقاً عن المكانة الحقيقية التي تبوَّأها ابن القَيِّم - رحمه الله - بين أهل العلم وأئمته.

على أنه لو لم تكن أمامنا هذه الشهادت، وتلك الأقوال، فإننا - ومعنا كل منصف، متجرد من هوى التعصب على أئمة الهدى وبقية السلف - نستطيع أن نجزم بأن مكانة ابن القَيِّم - رحمه الله - هي هذه التي وضعوه فيها وأعلى؛ وذلك عند النظر في آثاره، والاغتراف من غزير فوائده، والعيش بصدق مع علومه النافعة، وتوجيهاته المخلصة في كل مبحث من مباحثه.

وعند التأمل في أقوال هؤلاء الأئمة نلاحظ:

أنه يصعب على الباحث أن يجزم بتفوق ابن القَيِّم -رحمه الله- في فن على حساب الفنون الأخرى، فقد اتفقت كلمتهم - أو كادت - على تفوقه في فنون كثيرة، وجمعه بين علوم عديدة، مع التقدم والمهارة وعلو الشأن في ذلك كله.

فلقد كان ابن القَيِّم - رحمه الله -:  مُحَدِّثاً، فقيهاً، أصولياً، مفسراً، نحوياً، لغوياً، أديباً... له في كل فن من هذه الفنون: القدح الْمُعلَّى، والرتبة الأعلى.

وإن كان ابن كثير - رحمه الله - يقدم من علومه: "التفسير، والحديث، والأصلين". ويوافقه ابن ناصر على "التفسير، والأصول".

قال الشيخ بكر أبو زيد: "وأما علومه التي تلقاها وبرع فيها: فهي تكاد تعم علوم الشريعة وعلوم الآلة، فقد دَرَسَ التوحيد، وعلم الكلام، والتفسير، والحديث، والفقه وأصوله، والفرائض، واللغة، والنحو، وغيرها... وبرع هو فيها وعلا كعبه وفاق الأقران، ويكفي في الدلالة على علو منزلته: أن يكون هو وشيخه - شيخ الإسلام - كفرسَي رِهَان.

وهذه الجامعية المدهشة في البراعة والطلب نجدها محل اتفاق مسجل لدى تلاميذه الكبار، ومن بعدهم من ثقات النقلة الأبرار".

وبعد، فهذه هي علوم ابن القَيِّم رحمه الله، وتلك هي فنونه، مع التقدم والتفوق وعلو الشأن في ذلك كله.

ولم يكن ابن القَيِّم - رحمه الله - لينال هذه الدرجة الرفيعة إلا بعون الله تعالى، ثم بِهِمَّة عالية، وجهد متواصل، وصبر وجلد، مع ما آتاه الله - عزوجل - من: فهم، وذكاء، وقوة حفظ، فأتاح له كل ذلك - بعد توفيق الله - الوصول إلى تلك الدرجة، واحتلال هذه الرتبة، فرحمه الله ونفع بعلومه، آمين.

وابنُ القَيِّم وإن كان بَارِعاً في هذه العلوم كُلِّها، مَتَقَدِّماً في هذه الفنون بأسرها، إلا أن الذي يعنينا من ذلك: هو نُبُوغُهُ في الحديثِ وعلومِهِ على وجه الخصوص، وهو ما عقدنا أبوابَ هذه الرسالة وفصولَها لأجله، وسيرى النَّاظرُ في هذا الكتاب ما يؤكد له هذه الإمامة، وذلك التقدم والنبوغ في الحديث وعلومه إن شاء الله.


ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها - جمال بن محمد السيد (1/ 137 - 144)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله