إن من أهم العوامل التي تسهم بشكل كبير في التكوين العلمي للشخص: شيوخه الذين تلقى عنهم، واستفاد علومه منهم.
وقد يكون بعضهم أشدَّ تأثيراً في الطالب من البعض الأخر، وذلك بحسب نوع العلاقة القائمة بين الطالب وشيخه، ومدى ارتباطه به، وصحبته له، وغير ذلك من العوامل التي تميز شخصية الشيخ، وتؤثر بالتالي في الطالب الْمُتَلَقِّي.
وقد اعتنى أكثر الذين ترجموا لابن القَيِّم بسرد شيوخه على تفاوت بينهم في ذلك، فبينما حاول بعضهم استيعاب ذلك: كالصَّفَدِي مثلاً، نجد آخرين لم يذكروا له سوى شيخ واحد فقط، كابن كثير، واقتصر البعض على ذكر بعضهم.
وفي هذا المبحث أذكر شيوخ ابن القَيِّم الذين أخذ عنهم علومه وثقافته، مع إبراز دور كل واحد من هؤلاء الشيوخ في التكوين العلمي لابن القَيِّم، وذلك بمعرفة الفنِّ الذي أخذه عنه، أو الكتب التي قرأها عليه، مع التعريف بأولئك الذين كان ارتباط ابن القَيِّم بهم أكثر، وأثرهم فيه أكبر.
وأسوق هؤلاء الشيوخ على حسب الفنون التي تلقَّاها ابن القَيِّم - رحمه الله - عنهم، فأذكر شيوخ كُلِّ فَنٍّ على حدة:
أولاً: شيوخه في الحديث:
1- الشِّهاب العابر: أحمد بن عبد الرحمن بن عبد المنعم بن نعمة، المقدسي، الحنبلي، شهاب الدين، أبو العباس، عابر الرؤيا.
مولده: سنة (628هـ).
سمع الكثير، وروى الحديث، وتَفَقَّه وحَصَّل المذهب، ثم أقبل على علم الرؤيا فبرع فيه، وكان له في اليد الطولى، بحيث فاق في ذلك أهل زمانه، وله فيه تصنيف.
توفي بدمشق في ذي القعدة، سنة: (697هـ).
وقد ذكرت أكثر مصادر ترجمة ابن القَيِّم سماعه منه.
وهو من أوائل الشيوخ الذين سمع منهم ابن القَيِّم، وقد "حَدَّث عن شيخه: التعبير وغيره".
وقد حَدَّثَ ابن القَيِّم - رحمه لله - عنه بتفسير بعض الرؤى في كتابه (زاد المعاد)5، حيث قال - عند الكلام على تأويل لباس الحلي للرجل، وأنه يدل على نكد وألمٍ يلحقه - قال: "وأنبأني أبو العباس، أحمد بن عبد الرحمن بن عبد المنعم بن نعمة بن سرور المقدسي، المعروف بالشهاب العابر، قال: قال لي رجل: رأيت في رِجلي خَلْخَالاً، فقلتُ له: تتخلخل رجلك بألم. وكان كذلك".
ثم ساق عنه جملة في هذا الباب، ثم قال: "وهذه كانت حال شيخنا هذا، ورسوخه في علم التعبير، وسمعت عليه عدة أجزاء، ولم يتفق لي قراءة هذا العلم عليه، لصغر السن، واخترام الْمَنَيَّة له".
ويُؤخذ من هذا النص: ابتداء ابن القَيِّم - رحمه الله - بالسماع والطلب في سنٍّ مبكرة؛ إذ إنه عند وفات هذا الشيخ كان قد تجاوز السادسة من عمره بأشهر قليلة.
وفي ذلك دلالة ظاهرة على ذكاء ابن القَيِّم الخارق، وإدراكه الْمُبَكِّر، واستعداده العلمي منذ الطفولة، بحيث كان ضابطاً لمسموعه في هذا السن، حتى أَدَّاه من حفظه بعد سنين عديدة.
كما أن في كلام ابن القَيِّم في مدح شيخه تأكيداً لما اتفقت عليه كلمة الأئمة: من براعة الشهاب وتمكنه في هذا العلم، فتضاف هذه الشهادة من ابن القَيِّم إلى شهادات أولئك الأئمة.
بقي التنبيه على ما وقع من وهمٍ للأستاذ حسن الحَجَّاجِي في دراسته لابن القَيِّم، حيث ترجم الشهاب العابر بأنه: أيوب بن نعمة بن محمد... الكحال (ت730هـ)! والصحيح ما تقدم في اسمه، وهو الذي ترجمه به تلميذه ابن القَيِّم نفسه، وأما الكحال: فشيخ آخر لابن القَيِّم سيأتي ذكره.
2- ابن مكتوم: إسماعيل بن يوسف بن مكتوم بن أحمد بن سليم، صدر الدين، أبو الفداء، السويدي، ثم الدمشقي، الشافعي، المقرئ، الْمُسْنِد، المعمر.
مولده: سنة (623هـ).
وكان له سماع في الحديث، وتفرد بسماع (الموطأ) من مكرم بن أبي الصقر بدمشق، وروى الكثير، وتفرد بأشياء. وتلا القرآن على السخاوي: لأبي عمرو، وعاصم، وابن كثير. فكان خاتمة أصحابه.
وكان حسن الخلق، وحج في آخر عمره سنة (711هـ) فَحَدَّثَ بالحرم. وكان له أملاك كثيرة وثروة.
توفي - رحمه الله - سنة (716هـ).
وقد نص على سماع ابن القَيِّم منه: الصَّفَدِي، وابن حجر.
3- أيوب بن نعمة بن محمد، زين الدين أبو العلاء، المقدسي، ثم الدمشقي، الكَحَّال.
مولده: سنة (640هـ).
حَدَّث عن: الرشد العراقي وغيره، وحَدَّث بالكثير، وتفرد في زمانه، وكان حَدَّث بمصر مدة، ثم تحول إلى دمشق بعد سنة 720هـ.
وأخذ صنعة الكُحْلِ عن طاهر الكحال، وبرع فيها، وتكسب بها سبعين سنة.
توفي - رحمه الله - في ذي الحجة سنة (730هـ).
وقد ذكر سماع ابن القَيِّم منه: الصَّفَدِي.
4- ابن عبد الدائم: أبو بكر بن أحمد بن عبد الدائم بن نعمة، المقدسي، المُعَمِّر، مُسْنِدِ الشام في وقته كأبيه.
مولده: سنة (625 أو 626هـ).
سمع من: الناصح ابن الحنبلي، والحافظ الضياء المقدسي، وجماعة. وحَدَّث في حدود سنة 660هـ. وكان مليح الإصغاء، صحيح الفهم، انقطع بموته جملة من المرويات.
وكان - رحمه الله - ذا هِمَّة وجلادة، وذِكْر وعبادة، وسَعْي في طلب الرزق. وقد ذهب بصره، وثقل سمعه في الآخر، فَضَعُفَ.
توفي - رحمه الله - في رمضان سنة (718هـ) وعاش مثل أبيه: ثلاثاً وتسعين سنة.
سَمِعَ الحديث الكثير، وقرأ بنفسه، وحضر جميع (البخاري) على ابن الزبيدي، ورواه عنه. وروى عن الحافظ الضياء نحواً من خمسمائة جزء أو أكثر، وكان محباً للرواية واسِعَهَا، وكان بصيراً خبيراً بالمذهب وشرحه، تَخَرَّجَ به الفقهاء.
وكان - رحمه الله - مُهَذَّب الأخلاق، كَيِّساً، متواضعاً، ذكي النفس، خيِّراً، متعبداً، متهجداً، عديم الشر.
توفي - رحمه الله - فجأة في ذي القعدة سنة(715هـ).
وقد ذكر جماعة من مترجمي ابن القَيِّم سماعه منه.
6- علاء الدين الكِنْدِي الوَدَاعي: علي بن مظفر بن إبراهيم بن عمر بن زيد بن هبة الله، أبو الحسن، الكندي، الإسكندراني، ثم الدمشقي، الأديب، المحدِّث المفيد، المقري، كاتب ابن وَدَاعة، وكان يعرف بـ "الوَدَاعِي".
مولده: على رأس سنة (640هـ).
وكان كثير السماع، فسمع على أكثر من مائتي شيخ، وعني بالرواية، وقرأ "صحيح البخاري" عدة مرات، وأسمع الحديث. ثم تعانى الإنشاء، وَجَوَّدَ الخط، وتقدم في النظم والنثر، فنظم الشِّعْرَ الحسن الرائق الفائق. وجمع كتاباً في نحوٍ من خمسين مجلداً، فيه علوم جمة أكثرها أدبيات، سماه: (التذكرة الكندية)، وكانت (الحماسة) من بعض محفوظاته.
مات سنة (716هـ)، ووقع عند ابن تغري بردي وحده: (710هـ) والصواب الأول.
وقد ذكر سماع ابن القَيِّم منه: الصَّفَدِي.
7- عيسى الْمُطَعِّم: شرف الدين، عيسى بن عبدالرحمن بن معالي ابن أحمد بن إسماعيل بن عطاف بن مبارك، المقدسي، مُسْنِدُ الوقت، المطعِّم في الأشجار، ثم السمسار في العقار، كما قال الذهبي.
سمع الكثير من مشائخ عدة، منهم: الضياء المقدسي، وكريمة، وسمع (صحيح البخاري) بِفَوْتٍ من ابن الزبيدي. وقد كان أُميّاً عاميّاً، كما قال الذهبي رحمه الله.
أَطْعَمَ الغُصْنَ، وطَعَّمَه، إطعاماً: إذا وَصَلَ به غصناً من غير شجره، وقد أطعمته فَطَعِمَ، أي وصلته فقبِلَ الوَصْلَ. (لسان العرب، مادة: طعم).
يعني: باستثناء مواضع منه فاته سماعها.
توفي في ذي الحجة سنة (719هـ).
وقد ذكر سماع ابن القَيِّم منه أكثر الذين ترجموه.
8- البهاء بن عساكر: القاسم بن مُظَفَّر بن نجم الدين بن محمود ابن أحمد بن محمد بن الحسن بن هبة الله بن عساكر، بهاء الدين، أبو محمد، الدمشقي، المعبِّر، الطبيب.
مولده: في صفر سنة(629هـ).
أخذ عن كثير من المشايخ سماعاً وحضوراً، وأجاز له خلق كثيرون، وروى ما لا يُوصَف كثرةً.
وخرَّج له الحافظ علم الدين البرزالي مشيخة، وكذا غيره.
وكان حَسَنَ البِشْر، حلو المحاضرة، وكان قد اشتغل بالطبِّ، وكان يعالج الناس بغير أجرة، ثم لزم بيته بعدُ لإسماعِ الحديثِ، وتفرد بأشياء كثيرة. وَوَقَفَ على المحدثين أماكن، منها داره، وَقَفَهَا دار حديث. توفي - رحمه الله - في شعبان سنة (723هـ).
وقد نص على سماع ابن القَيِّم منه: الصَّفَدِي.
9- القاضي بدر الدين ابن جماعة: محمد بن إبراهيم بن سعد الله ابن جماعة بن حازم بن صخر بن عبد الله الكناني، الحموي الأصل، أبو عبد الله.
مولده: في ربيع الآخر سنة (639هـ) بحماة.
سمع الحديث، واشتغل بالعلم، وحصَّل علوماً متعددة، وتَقَدَّم وساد أقرانه، وصنف التصانيف الفائقة النافعة. وقد وَلِيَ القضاء مرات في: القدس، ثم مصر، ثم دمشق - مع الديانة، والصيانة، والورع، وكف الأذى - حتى كَبِرَ وَضَعُف وَأُضِرَّ، فاستقال فَأُقِيل.
توفي - رحمه الله - سنة (733هـ) بمصر.
وقد نص على سماع ابن القَيِّم منه: الصَّفَدِي.
10- الحافظ الذهبي: محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز بن عبد الله الذهبي، التركماني، ثم الدمشقي، أبو عبد الله، الحافظ، مؤرخ الإسلام، وشيخ المحدثين.
مولده: سنة (673هـ).
طلب الحديث وله ثماني عشرة سنة، فسمع الكثير، ورحل، وَعُني بهذا الشأن، وتعب فيه، وَخَدَمَهُ، إلى أن رسخت فيه قَدَمُهُ. وقد شَرِبَ الحافظُ ابن حجر ماء زمزم ليصل إلى مرتبته في الحفظ.
وشهرة هذا الإمام الجهبذ، والعلم النِحرير تُغْنِي عن الإطالة بذكر مناقبه.
وقد توفي - رحمه الله - سنة (748هـ).
أما عن سماع ابن القَيِّم منه، وتتلمذه عليه: فإنه لم يذكر ذلك أحدٌ ممن ترجموا لابن القَيِّم، ولكن وصف ابن القَيِّم الذهبي بأنه شيخه، وذلك في رسالته في الأحاديث الموضوعة - التي سيأتي الكلام عليها مفصلاً عند ذكر مؤلفات ابن القيم إن شاء الله - حيث قال: "سمعت شيخنا أبا عبد الله محمد بن عثمان…". وقال مرة في الرسالة نفسها: "وسمعت الحافظ أبا عبد الله محمد بن عثمان...".
وقد ذكره في مواضع أخرى من كتب له:فقال مرة في كتابه (جلاء الأفهام) - ناقلاً كلام الذهبي في حديث -: "قال محمد بن عثمان الحافظ: هذا وَضَعَه العُمَرِي". ثم قال: "وهو كما قال؛ فإن هذا الإسناد لا يَحْتَمِلُ هذا الحديث".
وقال مرة في كتابه (زاد المعاد) - متعقباً إيّاه في مسألة -:
"وممن غَلِطَ في هذا أيضاً: محمد بن عثمان الذهبي في كتابه (الضعفاء) فقال: مطرف بن مصعب المدني...". يعني: وأن الصواب فيه: مطرف أبو مصعب.
فهكذا نجد ابن القَيِّم - رحمه الله - في هاتين المرتين ينقل عن الذهبي: مرة مستفيداً منه، ومرة متعقباً إياه، بدون أن يصرح في أي من المرتين بأنه شيخه، أو أنه سمع منه.
ثم إن الشيخ بكر أبو زيد - حفظه الله - لَمَّا وقف على نص (رسالة الموضوعات) وما جاء فيها من تصريح ابن القَيِّم بأن الذهبي شيخه، استبعد ذلك قائلاً: "والذهبِيُّ من تلامذة ابن القَيِّم، ولم أر ابن القَيِّم في شيء من كتبه المطبوعة يذكر الذهبي وينقل عنه". ثم حكم - بناء على ذلك - بغرابة أسلوب هذه الرسالة على مسلك ابن القَيِّم في التأليف، وَتَوَقَّفَ بالتالي في الحكم بنسبتها لابن القَيِّم.
وأقول: إن كلام الشيخ بكر في نفي مشيخة الذهبي لابن القَيِّم فيه نظر؛ ويتضح ذلك بما يلي:
- أما قوله بأن الذهبي من تلامذة ابن القَيِّم: فإنه مما لا دليل عليه، وسيأتي التنبيه على ذلك عند الكلام على تلاميذ ابن القَيِّم، وبيان ضعف الدليل الذي اعتمده الشيخ في الحكم بذلك.
- وأما كونه لم ير ابن القَيِّم في شيء من كتبه المطبوعة يذكر الذهبي وينقل عنه: فقد تقدم نقل نصين من كتابين مختلفين، ينقل فيهما ابن القَيِّم عن الذهبي.
- فإذا ثبت لدينا عدم انتهاض ما استدل به الشيخ بكر - سلمه الله - على نفي كون الذهبي شيخاً لابن القَيِّم، فإن الواقع والقرائن يؤيدان الحكم بإثبات هذه المشيخة، ويؤكد هذا أمور:
أولاً: ذلك النص من ابن القَيِّم في رسالته في الأحاديث الموضوعة، والذي يقول فيه: "سمعت شيخنا"؛ فإنه صريح لا يحتمل تأويلاً، إلا أن يقال: هذا الكتاب لا تصح نسبته لابن القَيِّم، فالكلام ليس كلامه؟ ولا سبيل إلى القول بذلك؛ فإن الكتاب صحيح النسبة لابن القَيِّم بأدلة قوية، كما سيأتي.
وأما ما جاء في النصين الآخرين من نقله عن الذهبي دون تصريح بأنه شيخه: فإنه لا يلزم منه نفي كونه شيخه؛ إذ لا مانع من أن ينقل الإنسان عن شيخه دون وصفه بذلك، بل إن ذلك كثير في كلام الأئمة.
ثانياً: أن وجود ابن القَيِّم مع الذهبي في بلد واحد - وهو دمشق– ومعاصرة كل منهما للآخر، مع شهرة الذهبي وإمامته، وطول باعه في العلم، وحرص ابن القَيِّم على التحصيل على كبار الأئمة، كل ذلك يجعل القول بتتلمذ ابن القَيِّم على الذهبي غير بعيد، بل عدم سماعه منه وأخذه عنه هو البعيد الغريب.
ثالثاً: أن فارق السنِّ بينهما يدعم القول بمشيخة الذهبي لابن القَيِّم؛ فإن الذهبي - رحمه الله - ولد سنة (673هـ)، ومولد ابن القَيِّم سنة (691هـ)، وبذلك فإن الذهبي يكبره بثماني عشرة سنة، ففي السنة التي وُلِدَ فيها ابن القَيِّم - رحمه الله - شَرَعَ الذهبي في القراءة بالجمع الكبير على شيخين في آنٍ واحد، فما لبث "أن أصبح على معرفة جيدة بالقراءة وأصولها ومسائلها، وهو لم يزل فتىً لم يتعد العشرين من عمره".
ولبراعَةِ الذهبي وتميزه في ذلك: تَنَازَلَ له شَيْخُهُ شمس الدين الدمياطي عن حلقته بالجامع الأموي أوائل سنة (693هـ)2، كل ذلك وابن القَيِّم لم يزل بعد في الثانية من عمره، فهل يبعدُ - مع هذا السبق في السِّنِّ والتَّلقِّي - أن يكون الذهبي شيخاً لابن القَيِّم؟
رابعاً: ثم إنه ظهر لي - وأرجو أن أكون مخطئاً في ظني - أنه كانت هناك نفرةٌ بين ابن القَيِّم وشيخه الذهبي، ولعل ذلك يتضح من قول الذهبي في حق ابن القَيِّم: "... ولَكِنَّهُ مُعْجَبٌ برأيه جرئ على الأمور، غفر الله له"3. فهذه كلمة - ولا شك - تشير إلى عدم انسجام واتفاق، فربما ترتب على ذلك قلة الاتصال بينهما؟ ومن ثم عدم إكثار ابن القَيِّم عنه، بخلاف شيخه المزي مثلاً، كما سيأتي.
وعلى كلِّ حال، فما دام ابن القَيِّم - رحمه الله - قد صَرَّح بأن الذهبي شيخه، وذلك في كتاب ثابت النسبة إليه، فإنه لا مجال لنفي ذلك إلا بِبَيِّنَةٍ ودليل قويٍّ.
وبعدُ، فقد طال بنا الكلام - شيئاً ما - في إثبات تلمذة ابن القَيِّم للذهبي، والآن نعود مرة أخرى إلى ما كنا بصدده من سرد شيوخ ابن القَيِّم رحمه الله.
11- محمد بن أبي الفتح بن أبي سهل البَعْلَبَكِّيِّ، الحنبلي، شمس الدين، أبو عبد الله، الإمام، العلامة، المحدث.
مولده: سنة (645هـ).
تحول إلى دمشق فاشتغل، وأتقَنَ الفقه، وسمع الكثير من: ابن عبد الدائم والكرماني وغيرهما، وعني بالرواية والأجزاء، وله اعتناء بالرجال، جيد الخبرة بألفاظ الحديث. وأتقن العربية، ولع معرفة تامة بالنحو، وأفاد ودَرَّسَ.
وكان - رحمه الله - حَسَنَ الْخُلُق، عابداً، متواضعاً، مع القناعة والاقتصاد، وكثرة المحاسن.
مات بالقاهرة بعد دخولها بأيام في المحرم سنة (709هـ).
وقد ذكر سماع ابن القَيِّم منه: الصَّفَدِي.
12- ابن الشِّيْرَازِي: محمد بن محمد بن محمد بن هبة الله بن محمد ابن يحيى بن بُنْدار بن مَمِيل، شمس الدين، أبو نصر، الفارسي، الشِّيرازي الأصل، ثم الدمشقي، الْمِزِّي، المُسْنِد، الْمُعَمِّر.
مولده: سنة (629هـ).
سمع كثيراً، وأسمع، وأفاد، وتفرد في زمانه، وَرُحِلَ إليه. وكان - رحمه الله - عاقلاً، ساكناً، وقوراً، متواضعاً، خَيِّراً، وكان أُستاذاً في إذهاب المصاحف.
توفي - رحمه الله - ليلة عرفة سنة (723هـ).
وقد نص على سماع ابن القَيِّم منه: الصَّفَدِي، وابن حجر، والسيوطي.
13- المزي: يوسف بن عبدالرحمن بن يوسف، القُضَاعي، ثم الكَلْبِي، الدمشقي، الشافعي، أبو الحجاج، جمال الدين، الإمام، العلامة، الحافظ، محدث الشام.
مولده: بحلب سنة (654هـ) ونشأ بالْمِزَّة.
سمع: (المسند)، و(الكتب الستة)، و(معجم الطبراني)، و(الأجزاء الطبرزدية)، و(الكندية)، و(صحيح مسلم). وَرَحَل فسمع: بالحرمين، وحلب، وحماة، وبعلبك وغيرها.
وقد برع ومهر وتقدم في فنون كثيرة، ولاسيما في معرفة الرجال، فهو حامل لوائها، والقائم بأعبائها.
وكان - رحمه الله - ثقة، حجة، كثير العلم، حسن الأخلاق، كثير السكوت، قليل الكلام جداً، صادق اللهجة، مع التواضع والاقتصاد في المأكل والملبس. وقد ترافق هو وابن تَيْمِيَّة كثيراً في سماع الحديث.
توفي - رحمه الله - في صفر: سنة (742هـ)
ولم يذكره أحد ممن ترجم لابن القَيِّم ضمن شيوخه، ولكن ابن القَيِّم - رحمه الله - كثير النقل عنه في كتبه مع التصريح بأنه شيخه، وبخاصة فيما يتعلق بالرجال والأسانيد.
ويظهر عليه حبه الشديد له، واحترامه وتقديره إيَّاه، حتى كان يطلق عليه "شيخ الإسلام" كما كان يطلق ذلك على شيخه الأول: ابن تَيْمِيَّة.
يقول مرة ناقلاً عنه فائدة حول راوٍ: "وهكذا هو في (تهذيب الكمال) لشيخنا أبي الحجاج المزي".
وأحياناً لا يسميه، فيقول: "وقال شيخنا في التهذيب"4. أو: "وذكره شيخنا في التهذيب"5.
ويعتمد رأيه كثيراً في الترجيح عند الاختلاف، فتراه يقول: "قال شيخنا أبو الحجاج المزي: والصواب رواية...". وتارة يقول: "وكان شيخنا أبو الحجاج المزي يرجح هذا أيضاً".
وقد ينقل عنه في بعض المواضع مما سمعه منه، فيقول: "قال لي شيخنا أبو الحجاج الحافظ". ويقول أيضاً: "وسمعت أبا الحجاج الحافظ يقول...".
ويظهر واضحاً من هذه النقول: مدى حب ابن القَيِّم لشيخه المزي، واحترامه له، ونقل إفاداته وعلومه في كثير من كتبه.
ثانياً: شيوخه في العربية:
لقد برع ابن القَيِّم في علوم متعددة، وكان على رأسها: النحو والعربية، حتى وصفه غير واحد من مترجميه بـ "النحوي"، وأن له في العربية "اليد الطولى".
ولا عجب في ذلك؛ فقد أولى ابن القَيِّم - رحمه الله - ذلك الجانب عناية فائقة، وتلقاه على أكابر شيوخ عصره، ومن هؤلاء الشيوخ:
- محمد بن أبي الفتح البعلبكي الماضي ذكره.
قال الصَّفَدِي: "قرأ عليه (الْمُلَخَّص) لأبي البقاء، ثم قرأ (الْجُرْجَانِيَّة) ثم قرأ (ألفية ابن مالك)، وأكثر (الكافية الشافية)، وبعض (التسهيل").
ومن شيوخه في العربية أيضاً:
14- مجد الدين التونسي: أبو بكر بن القاسم، المرسي، ثم التونسي، نزيل دمشق، مجد الدين، شيخ القراءة والنحو.
مولده: سنة(656هـ).
سمع من الفخر علي، وجماعة، ويتصدر للقراءة زماناً، وكان من أذكياء وقته، مع الدين والنَّزَاهة والوقار.
توفي - رحمه الله - في ذي القعدة سنة (718هـ).
وقد ذكره ضمن شيوخ ابن القَيِّم جماعة، وذكر الصلاح الصَّفَدِي: أن ابن القَيِّم قرأ عليه قطعة من (المقرب)، ونقل الشيخ بكر أبو زيد عن الصَّفَدِي: أنه (الْمُغْرب).
ثالثاً: شيوخه في الفقه:
أما الفقه: فقد كان ابن القَيِّم - رحمه الله - مشتغلاً به "ويجيد تقريره" كما مضى من كلام الذهبي رحمه الله.
وقد أخذ الفقه عن جماعة من أَجِلَّة عصره، منهم:
15- شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة: تقي الدين، أبو العباس، أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام بن عبد الله بن محمد بن الخضر... بن تيمية، الحرَّاني، ثم الدمشقي، الإمام، العالم، والفقيه، الحافظ، المفتي، شيخ الإسلام الذي أثنى عليه الموافق والمخالف.
مولده: سنة (661هـ).
وشهرة الشيخ تغني عن الكلام عنه، وقد توفي - رحمه الله - سنة (728هـ) محبوساً بقلعة دمشق كما تقدم.
وقد سبقت الإشارة إلى العلاقة الوثيقة بين ابن القَيِّم وأستاذه ابن تَيْمِيَّة، فلقد توطدت العلاقة بين ابن القَيِّم وشيخه، حتى صار "من عيون أصحابه". بل كان "رئيس أصحاب ابن تَيْمِيَّة". حتى إنه لا يكاد يذكر ابن تَيْمِيَّة إلا ويذكر معه ابن القَيِّم رحمهما الله تعالى.
وقد نص على تفقه ابن القَيِّم بابن تَيْمِيَّة أكثر من ترجم له.
وابن القَيِّم - رحمه الله - دائم الذكر لشيخه، كثير النقل عنه في كتبه، مع الإشادة به، وإظهار الحب والتقدير له.
16- المجد الحرَّاني: إسماعيل بن محمد بن إسماعيل، مجد الدين، أبو محمود، الحرَّاني، الفراء، الحنبلي.
مولده بحران: سنة (645هـ)، ثم انتقل إلى دمشق سنة 670 أو 671هـ. سمع الحديث بدمشق من الجمال ابن الصيرفي وغيره، فسمع (الكتب الستة) و(المسند). وتفقه حتى برع في المذهب، وتَخَرَّج به عدة فقهاء وأئمة، ولم يُصَنِّف شيئاً.
وكان متواضعاً، كثير الصمت عما لا يعنيه، لا يغتاب بشراً، ولا يؤذي أحداً، ومن أكفِّ الناس عن الفتيا، فيه خير ورقَّةٌ.
توفي - رحمه الله - في جمادى الأولى سنة (729هـ).
17- شرف الدين بن تيمية: عبد الله بن عبد الحليم... بن تيمية، شرف الدين، أبو محمد، الحراني، الحنبلي، أخو شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة.
مولده: سنة (666هـ).
كان عارفاً بجمل نافعة من الحديث ورجاله، سمع (المسند)، (والكتب الستة) وغيرهما، وكان عارفاً بالسيرة وأيام الناس، مُحْكِماً للفقه والعربية.
وكان كثير المحاسن، كبير القدر، مقتصداً في مأكله وملبسه. وكان أخوه يكرمه ويعظمه.
توفي - رحمه الله - في جمادى الأولى سنة (727هـ).
وقد نص على تفقه ابن القَيِّم به: الصَّفَدِي، ونص ابن القَيِّم على أنه شيخه.
وممن أخذ الفقه عنهم أيضاً:
- محمد بن أبي الفتح البعلبكي المتقدم ذكره.
رابعاً: شيوخه في الفرائض:
أما شيوخه في الفرائض فهم:
18- والده: أبو بكر بن أيوب، قَيِّم الجوزية. وقد تقدم أنه كان له في الفرائض اليد الطولى1، ولذلك فقد أخذها عنه ابن القَيِّم أولاً، نص على ذلك: الصَّفَدِي، وابن حجر، والشوكاني.
ثم أخذها على:
- إسماعيل بن محمد الحراني الماضي ذكره.
ثم على:
- شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة.
خامساً: شيوخه في أصول الفقه.
وقد أخذ أصول الفقه عن جماعة من العلماء، منهم:
19- صفي الدين الهندي: محمد بن عبد الرحيم بن محمد، أبو عبد الله، الأرموي، الشافعي، العَلاَّمة، الأصولي.
مولده: سنة (644هـ) بالهند.
خرج من دِهْلي سنة 667هـ فحجَّ وجاور بمكة أشهراً، ثم دخل اليمن، ثم مصر، ثم سافر إلى الروم، ثم قدم دمشق سنة 685هـ، فاستوطنها، واشتغل بالتدريس، وصنف في الأصول وعلم الكلام.
وكان ذا برٍّ وصلة، وله حظ من صلاة وتعبد.
توفي - رحمه الله - في صفر سنة (715هـ) وقد استوفى سبعين سنة وأشهراً.
وقد ذكر أخذَ ابن القَيِّم الأصول عنه: الصَّفَدِي، وابن حجر، والسيوطي.
وأخذ الأصول - أيضاً - عن:
- شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة، فَقَرَأ عليه قطعةً من (المحصول)، وقطعة من (الإحكام في أصول الأحكام)، كما ذكر ذلك الصَّفَدِي.
وأخذ الأصول - أيضاً - عن:
- إسماعيل بن محمد الحراني المتقدم ذكره، فقرأ عليه أكثر
سادساً: شيوخه في التوحيد وأصول الدين:
قرأ في التوحيد على:
- شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة، قرأ عليه قطعة من (الأربعين) وقطعة من (المحصل). كما أفاد ذلك: الصَّفَدِي.
وقرأ أصول الدين - أيضاً - على:
- الشيخ صفي الدين الأرموي المتقدم، قرأ عليه أكثر الكتابين - الأربعين والمحصل - كما أفاده الصَّفَدِي.
سابعاً: شيوخ آخرون:
من هؤلاء الشيوخ:
20- ابن سَيِّد الناس: محمد بن محمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله ابن محمد بن يحيى... أبو الفتح، فتح الدين، ابن سيد الناس، الأندلسي الأصل، المصري، الإمام، الحافظ.
مولده: في سنة (671هـ) بالقاهرة.
سمع الكثير، وأخذ علم الحديث عن: والده، وابن جماعة، وتفقه على مذهب الإمام الشافعي، وبرع في علوم شتى، وفاق أقرانه، ولم يكن بمصر في مجموعه1 مثله: في حفظ الأسانيد، والمتون، والعلل، وغير ذلك.
توفي فجأة في شعبان سنة (734هـ).
ولم يذكره أحدٌ من مترجمي ابن القَيِّم ضمن شيوخه، لكن حَدَّث عنه ابن القَيِّم مرة، فقال - عند الكلام على سَرِيَّة الخبط -: "وكانت في رجب سنة ثمان، فيما أنبأنا به الحافظ أبو الفتح محمد بن سيد الناس في كتاب (عيون الأثر)3 له …".
وقد كان دخول ابن سيد الناس إلى دمشق سنة (690هـ) كما قال ابن كثير، ولم يكن ابن القَيِّم قد ولد بعد، والظاهر أنه لم يمكث في دمشق كثيراً. فلعل ابن القَيِّم يحدِّث بهذا الكتاب إجازة، أو يكون قد قرأه عليه في إحدى سفراته إلى القاهرة؟ فالله أعلم.
ومن هؤلاء الشيوخ - أيضاً - ما ذكره الشيخ بكر أبو زيد:
21- ابن الزَّمْلَكَاني: كمال الدين بن علي بن عبدالواحد، الأنصاري، الشافعي، شيخ الشافعية بالشام وغيرها.
مولده: سنة (666هـ).
طلب الحديث وقتاً، وقرأ بنفسه، وهو أحد المتقدمين في الفتوى والتدريس.
توفي - رحمه الله - سنة (727هـ).
ومنهم أيضاً:
22- ابن مفلح: محمد بن مفلح بن محمد بن مفرج، المقدسي، ثم الصالحي، الحنبلي، شمس الدين، أبوعبد الله، أحد الأئمة.
سمع من عيسى المطعم وغيره، وتَفَقَّه، وبرع، ودَرَّس، وأفتى، وناظر، وحدَّث، وأفاد.
وقال ابن القَيِّم لقاضي القضاة موفق الدين الحجاوي سنة 731هـ: "ما تحت قبة الفلك أعلم بمذهب الإمام أحمد من ابن مفلح". وكان أخبر الناس بمسائل ابن تَيْمِيَّة، حتى أن ابن القَيِّم كان يراجعه في مسائله.
توفي - رحمه الله - سنة (763هـ).
ولم أر النص على تلمذة ابن القَيِّم له وأخذه عنه، فهل بنى الشيخ بكر - حفظه الله - ذلك على مراجعة ابن القَيِّم له في اختيارات شيخ الإسلام؟ وإذا كان هذا هو مستنده، فهل يكون ذلك كافياً للحكم بتلمذته له؟
23- فاطمة بنت إبراهيم بن محمود بن جوهر، البطائحي، البعلبكي، أم محمد.
مولدها: سنة (625هـ).
وكانت امرأة صالحة، عابدة، محدِّثَة، مسندة، سمعت (صحيح البخاري) من ابن الزبيدي، وروته عنه مرات، وسمعت (صحيح مسلم) على أبي الثناء ابن الحصيري شيخ الحنفية، وهي آخر من روى عنه وفاة. وطال عمرها، وروت الكثير.
توفيت - رحمهما الله - في صفر سنة (711هـ) عن ست وثمانين سنة.
وقد ذكر جماعة سماع ابن القَيِّم منها، وبعضهم يسميها: "بنت البطائحي"، وهي المقصودة.
وبعد، فهذا ما أمكن الوقوف عليه من شيوخ ابن القَيِّم رحمه الله، الذين تتلمذ على أيديهم، واخذ العلم عنهم، وتَخَرَّج بهم.
ويمكن لنا عند النظر في هؤلاء الشيوخ أن نسجل بعض الملاحظات:
1- أن غالب هؤلاء الشيوخ - إن لم يكونوا جميعاً - أئمة جهابذة حفاظ، وعلماء أعلام، كانوا مقدمين في وقتهم في تلك الفنون التي تلقاها ابن القَيِّم - رحمه الله - عن كل واحد منهم.
2- أن هؤلاء الأئمة - شيوخ ابن القَيِّم - كانوا - أيضاً - على درجة كبيرة من: الزهد، والورع، والتواضع، وحسن الخلق، والاجتهاد في العبادة، إلى غير ذلك من الأخلاق الفاضلة والخلال الحميدة، كما مضى.
3- أن كل هؤلاء الشيوخ من أهل دمشق: مولداً ونشأة، أو انتقالاً واستيطاناً، وحتى من لم يستوطنها منهم، فقد جلس فيها فترة. وهذا يؤكد - كما سيأتي ذكره -: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - لم يرحل خارج بلده كثيراً لطلب العلم، وإنما حصَّل علومه كلها - أو أكثرها - على شيوخ بلده (دمشق)، وما ذلك إلا لأهميتها العلمية آنذاك، وتوافد أهل العلم إليها على ما سبق بيانه.
فإذا أخذنا هذه الأمور كلها بعين الاعتبار، أمكن لنا أن نتصور إلى أي مدى كان تأثير هؤلاء الشيوخ في علم ابن القَيِّم، وأخلاقه، وتكوين شخصيته تأثيراً إيجابياً.
ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها - جمال بن محمد السيد (1/ 145 - 172)