«أعلام الموقعين» من أهم الكتب التي ألِّفت في أصول الفقه وقواعده، وحكمة التشريع ومقاصده، والإفتاء وضوابطه، والقياس وأنواعه، والتقليد ومفاسده، والحيل ومضارّها، حتى قال السيد رشيد رضا: «لم يؤلِّف مثله أحد من المسلمين في حكمة التشريع ومسائل الاجتهاد والتقليد والفتوى وما يتعلق بذلك، كبيان الرأي الصحيح والفاسد، والقياس الصحيح والفاسد، ومسائل الحيل، وغير ذلك من الفوائد التي لا يستغني عن معرفتها عالم من علماء الإسلام».
وقد سبق استعراض المباحث الأساسية للكتاب وبيان ترتيبها وكيفية الانتقال من مبحث إلى آخر، وعرفنا بذلك أنه وإن لم يكن خاصًّا بأصول الفقه إلَّا أن معظم مباحثه تتعلق بالأصول، ولذا يُصنَّف الكتاب عادةً في المكتبة الإسلامية ضمن كتب الأصول، ولكنَّه ليس مرتّبًا مثل ترتيبها، ولا بحث المؤلف المسائل الأصولية على طريقة الأصوليين في كتبهم، بل تناولها بطريقة جديدة تتميز بكثرة الأمثلة الفقهية على هذه المسائل، وذِكر الأحاديث والآثار عن الصحابة والتابعين فيها، والإسهاب في المناقشة، وترجيح ما هو الحق والصواب بأدلة كثيرة مقنعة، وكل ذلك بأسلوب سهل مبسط وبيان مشرق جذّاب دون تعقيد أو غموض. ويمكن أن يرجع القارئ إلى كلامه في القياس، والاستصحاب، وعمل أهل المدينة، والتقليد، وسدّ الذرائع، والاحتجاج بقول الصحابي، وشمول النصوص للأحكام، وأنه ليس في الشريعة ما يخالف القياس، وحجية السنة ومنزلتها من الكتاب، والزيادة على النص، وأقسام الألفاظ بالنسبة إلى مقاصد المتكلمين ونياتهم، وتعليل الأحكام بالحكم والمصالح، … وغيرها، ثم يقارن بينه وبين ما في عامة كتب الأصول، ليدرك الفرق بينهما. وليس هنا مجال لتفصيل القول في ذلك، فإنه يحتاج إلى ذكر الأمثلة والشواهد والنصوص من هذا الكتاب وغيره من كتب الأصول.
ثم إنه أوسع كتاب يتحدث عن الفتوى والمفتين، ففيه ذِكر مكانة الفتوى وطبقات المفتين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، والكلام على أدوات الفتوى وشروطها، وبيان تحريم الفتوى بما يخالف النص وبالرأي المجرد، وأصول فتاوى الإمام أحمد، والكلام على درجات المفتين، وتفصيل القول في قاعدة تغيُّر الفتوى بتغيُّر الزمان والمكان والأحوال والنيات بذكر أمثلة كثيرة توضّح هذه القاعدة وتقطع الطريق على من يتلاعب بالشريعة ويغيِّر أحكامها مستندًا إلى هذه القاعدة. وفي آخر الكتاب ذكر المؤلف توجيهات ونصائح عديدة للمفتي، ومسائل وأحكامًا كثيرة تتعلق بالفتوى، وختمه بفتاوى النبي - صلى الله عليه وسلم - في مسائل الإيمان والعبادات، وشؤون الأسرة، والأطعمة والأشربة، والطب والرؤيا، والفال والطيرة، والأموال والبيوع والعتق، والحدود والجنايات والديات، وبيان الذنوب والتوبة منها، وفضائل الأعمال، وفضائل القرآن، ومناقب الصحابة، وفي التفسير والعلم، وفتاوى أخرى متفرقة.
وبهذه المباحث والفصول أصبح الكتاب فريدًا في بابه، متميزًا بين الكتب التي ألِّفت في آداب الفتيا، والتي تقتصر عادةً على بيان بعض الأحكام المتعلقة بها باختصار. وكان الكتاب عمدة لكل من جاء بعده وكتب في هذا الموضوع، وخاصة في العصر الحديث الذي كثرت فيه المؤلفات والدراسات في هذا الباب.
وهناك أمر آخر يتميز به الكتاب، وهو أن المؤلف بحث فيه كثيرًا من المسائل الفقهية الشائكة من أبواب مختلفة، وخاصة في المعاملات، تدل على نظر ثاقب وفكر صائب اجتهد فيها واعتمد على روح الشريعة الإسلامية وعلى حكمتها العادلة، فقال في بعض المسائل أقوالًا لم يقل بها إلّا هو وشيخه، وتوسّع في مسائل أخرى توسُّعًا يدلُّ على مرونة الشريعة وعلى مناسبتها للتطور والمدنية، فوصل بالنتيجة إلى تحليلات ونظريات شبيهة بالنظريات القانونية العصرية. ولا مجال هنا لإيضاح نظرياته وآرائه الفقهية، ونواحي التجديد فيها، والنهج العلمي الذي اتبعه، فهذا يحتاج إلى دراسة مستقلة. ومن أهم هذه المسائل: اعتماد القصد في التصرفات، وحرية التعاقد، ومنع الحيل في الأحكام، وإحياء أعمال الفضولي المحسن، والمحافظة على حقوق الغرماء، والتوسع في أصول البينات، وغيرها من المبادئ التي اعتبر المقاصد فيها أساسًا للحكم في تصرفات الناس ومعاملاتهم.
ومن أهم مباحث الكتاب مبحث التقليد، وهو مبحث قائم برأسه، ولعله كان كتابًا مفردًا كما أشار إليه في بعض مؤلفاته، ثم أدرجه في هذا الكتاب. وقد سبق إلى الكلام في هذا الموضوع ابن عبد البر في «جامع بيان العلم وفضله» وابن حزم في «الإحكام» وغيره، إلَّا أن ابن القيم توسَّع فيه وبحث فيه بحثًا مستفيضًا، وأطال في ذكر حجج المقلدين والمانعين من التقليد تحت عنوان «فصل في عقد مجلس مناظرة بين مقلد وبين صاحب حجة»، وبيَّن بطلان التقليد من وجوه كثيرة تزيد على ثمانين وجهًا. وقال في آخره: «وقد أطلنا الكلام في القياس والتقليد، وذكرنا مآخذهما وحجج أصحابهما وما لهم وما عليهم من المنقول والمعقول ما لا يجده الناظر في كتاب من كتب القوم من أولها إلى آخرها، ولا يظفر به في غير هذا الكتاب أبدًا، وذلك بحول الله وقوته ومعونته وفَتْحه، فلله الحمد والمنّة» (3/ 169، 170).
ويظهر أهمية هذا المبحث بكونه عمدة لكل من كتب فيه ممن جاء بعده، مثل: صالح الفلاني في «إيقاظ همم أولي الأبصار»، والشوكاني في «القول المفيد»، والنواب صديق حسن خان في «الدين الخالص» وغيره، والسيد رشيد رضا في «محاورات المصلح والمقلد»، و «تفسير المنار»، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي في «أضواء البيان»، وغيرهم ممن ألَّف في هذا الموضوع في الهند والبلاد العربية. ومن جهة ثانية كان هناك اهتمام بالردّ عليه من بعض العلماء، مثل الشيخ حبيب أحمد الكيرانوي في كتابه «الدين القيم» الذي دافع فيه عن وجوب التقليد، وناقش ابن القيم فيما دعا إليه من وجوب اتباع الكتاب والسنة وترك التعصب المذهبي والجمود الفقهي!!
وهناك جانب آخر من جوانب أهمية الكتاب، وهو أنه احتوى على مجموعة من القواعد الفقهية والضوابط الفرعية، قام المؤلف بتحريرها وتخريجها من أبواب مختلفة، وأسهم في تأصيل كثير منها. وقد قام أحد الباحثين ــ وهو الأستاذ عبد المجيد جمعة الجزائري ــ بجمعها ودراستها في كتاب مستقلّ بعنوان «القواعد الفقهية المستخرجة من كتاب اعلام الموقعين»، وهو مطبوع معروف.
وأخيرًا فإن المؤلف اعتمد في الكتاب على مصادر قديمة ومراجع نادرة لم تصل إلينا، واقتبس منها نصوصًا كثيرة تفيد الباحثين عن تلك الكتب ومؤلفيها، وقد عقَّب عليها أحيانًا بما يزيد الموضوع جلاءً وبيانًا، ويوضّح رأي المؤلف فيه. وسيأتي ذكر هذه المصادر عندما نتحدث عن موارد الكتاب.
إعلام الموقعين عن رب العالمين (المقدمة/ 56 - 60 ط عطاءات العلم)