انقسام الناس في نصوص الوحي خمسة أصناف

الفصل الثامن عشر: في انقسام الناس في نصوص الوحي إلى أصحاب تأويلٍ وأصحاب تخييلٍ وأصحاب تجهيلٍ وأصحاب تمثيلٍ وأصحاب سواء السبيل

هذه خمسة أصناف انقسم الناس إليها في هذا الباب بحسب اعتقادهم ما أُريدَ بالنصوص:

‌‌الصنف الأول: أصحاب التأويل، وهم أشد الأصناف اضطرابًا، إذ لم يثبت لهم قدمٌ في الفرق بين ما يُتأول وما لا يُتأول، ولا ضابط مطَّرِد منعكس يجب مراعاته ويمنع مخالفته؛ بخلاف سائر الفرق، فإنهم جَرَوْا على ضابطٍ واحدٍ، وإن كان فيهم من هو أشد خطأً من أصحاب التأويل كما سنذكره.

‌‌الصنف الثاني: أصحاب التخييل، وهم الذين اعتقدوا أن الرُّسل لم تُفصِحْ للخلق بالحقائق؛ إذ ليس في قُواهم إدراكها، وإنما خَيَّلَت لهم، وأبرزت المعقولَ في صورة المحسوس. قالوا: ولو دعتِ الرُّسلُ أُمَمَهم إلى الإقرار بربٍّ لا داخلَ العالم ولا خارجَه ولا مُحايِثًا له ولا مُبايِنًا له، ولا متصلًا به ولا منفصلًا عنه، ولا فوقه ولا تحته ولا عن يمينه ولا عن يساره. لنفرت عقولُهم من ذلك، ولم تصدِّق بإمكان وجود هذا الموجود فضلًا عن وجوب وجوده. وكذلك لو أخبروهم بحقيقة كلامه، وأنه فيضٌ فاضَ من المبدأ الأول على العقل الفعَّال، ثم فاضَ من ذلك العقل على النفس الناطقة الزكية المستعدة؛ لم يفهموا ذلك. ولو أخبروهم عن المعاد الرُّوحاني بما هو عليه لم يفهموه، فقرَّبوا لهم الحقائقَ المعقولة في إبرازها في الصور المحسوسة، وضربوا لهم الأمثال بقيام الأجساد من القبور في يوم العرض والنشور، ومصيرها إلى جنةٍ فيها أكلٌ وشربٌ ولحمٌ وخمرٌ وجوارٍ حِسانٌ، أو نارٍ فيها أنواع العذاب، تفهيمًا للذة الرُّوحانية بهذه الصورة، والألم الرُّوحاني بهذه الصورة.

وهكذا فعلوا في وجود الربِّ وصفاته وأفعاله، ضربوا لهم الأمثال بموجودٍ عظيمٍ جدًّا أكبر من كل موجودٍ، وله سريرٌ عظيمٌ وهو مستوٍ فوق سريره، يسمع ويبصر ويتكلم، ويأمر وينهى، ويرضى ويغضب، ويأتي ويجيء وينزل، وله يدانِ ووجهٌ، ويفعل بمشيئته وإرادته، وإذا تكلم العبادُ سمع كلامَهم، وإذا تحركوا رأى حركاتِهم، وإذا هجسَ في قلب أحدٍ منهم هاجسٌ عَلِمَه، وأنه ينزل كل ليلة إليهم إلى سمائهم هذه فيقول: «مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، وَمَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ». إلى غير ذلك ممَّا نطقت به الكتبُ الإلهية.

قالوا: ولا يحلُّ لأحدٍ أن يتأول ذلك على خلاف ظاهره للجمهور؛ لأنه يُفسِد ما وُضِعت له الشرائع والكتب الإلهية. وأمَّا الخاصة فهم يعلمون أن هذه أمثالٌ مضروبةٌ لأمور عقلية تَعجِزُ عن إدراكها عقولُ الجمهور، فتأويلها جناية على الشريعة والحكمة، وإقرارها إقرارٌ للشريعة والحكمة. قالوا: وعقول الجمهور بالنسبة إلى هذه الحقائق أضعفُ من عقول الصبيان بالنسبة إلى ما يدركه عقلاءُ الرجال وأهل الحِكمة منهم. والحكيم إذا أراد أن يخوِّف الصغير أو يبسط أملَه خوَّفه ورجَّاه بما يناسب فَهمَه وطبعَه.

وحقيقة الأمر عند هذه الطائفة: أن الذي أخبرت به الرُّسلُ عن الله وصفاته وأفعاله وعن اليوم الآخر لا حقيقةَ له تُطابِق ما أخبروا به، ولكنه أمثالٌ وتخييلٌ وتفهيمٌ بضرب الأمثال. وقد ساعدهم أربابُ التأويل على هذا المقصد في باب معرفة الله وأسمائه وصفاته، وصرَّحوا في ذلك بمعنى ما صرَّح به هؤلاء في باب المَعاد وحشْر الأجساد، بل نقلوا كلماتهم بعينها إلى نصوص الاستواء والفَوْقية ونصوص الصِّفات الخبرية. لكن هؤلاء أوجبوا أو سوَّغوا تأويلها بما يُخرِجها عن حقائقها وظواهرها، وظنوا أن الرُّسل قصدت ذلك من المخاطَبين تعريضًا لهم إلى الثواب الجزيل ببذل الجهد في تأويلها واستخراج معانٍ تليق بها وحملها عليها؛ وأولئك حرَّموا التأويل، ورأوه عائدًا على ما قصدته الأنبياءُ بالإبطال. والطائفتان متفقتان على انتفاء حقائقها المفهومة منها في نفس الأمر.

و‌‌الصنف الثالث: أصحاب التجهيل، الذين قالوا: نصوص الصِّفات ألفاظٌ لا يُعقَل معانيها، ولا يُدرى ما أراد اللهُ ورسوله منها، ولكن نقرؤُها ألفاظًا لا معانِيَ لها، ونعلم أن لها تأويلًا لا يعلمه إلَّا الله، وهي عندنا بمنزلة: {كهيعص} [مريم: 1] و {حم عسق} [الشورى: 1] و {المص} [الأعراف: 1]. فلو ورد علينا منها ما ورد لم نعتقد فيه تمثيلًا ولا تشبيهًا، ولم نعرف معناه، ونُنكِر على مَن تأوَّله، ونَكِل علمه إلى الله.

وظن هؤلاء أن هذه طريقةُ السلف، وأنهم لم يكونوا يعرفون حقائق الأسماء والصفات، ولا يفهمون معنى قوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 74] وقوله: {وَاَلْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ} [الزمر: 64]، وقوله: {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى} [طه: 4]، وأمثال ذلك من نصوص الصفات. وبنَوْا هذا المذهب على أصلين:

أحدهما: أن هذه النصوص من المتشابِه.

والثاني: أن للمتشابه تأويلًا لا يعلمه إلَّا الله.

فنتج مِن هذين الأصلين استجهالُ السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وسائر الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وأنهم كانوا يقرؤون: {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى} [طه: 4] و {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 66]، ويَرْوُون: «يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا»، ولا يعرفون معنى ذلك ولا ما أُريدَ به؛ ولازمُ قولهم أن الرسول كان يتكلم بذلك ولا يعلم معناه، ثم تناقضوا أقبحَ تناقُضٍ، فقالوا: تُجرَى على ظواهرها، وتأويلُها بما يخالف الظواهر باطلٌ، ومع ذلك فلها تأويلٌ لا يعلمه إلَّا الله. فكيف يُثبِتون لها تأويلًا، ويقولون: تجرى على ظواهرها، ويقولون: الظاهر منها غير مرادٍ، والربُّ منفرد بعلم تأويلها. وهل في التناقض أقبحُ من هذا؟!

وهؤلاء غلطوا في المتشابه، وفي جعل هذه النصوص من المتشابه، وفي كَوْن المتشابه لا يعلم معناه إلَّا الله، فأخطؤوا في المقدِّمات الثلاث. واضطرهم إلى هذا التخلصُ من تأويلات المبطِلين وتحريفات المعطِّلين، وسدُّوا على نفوسهم الباب، وقالوا: لا نرضى بالخطأ، ولا وصولَ لنا إلى الصواب.

فهؤلاء تركوا التدبُّر المأمور به والتذكر والعقل لمعاني النصوص، الذي هو أساس الإيمان وعمود اليقين، وأعرضوا عنه بقلوبهم، وتعبَّدوا بالألفاظ المجردة التي أُنزلت في ذلك، وظنوا أنها أُنزلت للتلاوة والتعبُّد بها دون تعقُّل معانيها وتدبُّرها والتفكر فيها. فأولئك جعلوها عُرضة للتأويل والتحريف، كما جعلها أصحاب التخييل أمثالًا لا حقيقة لها.

وقابلهم الصنف الرابع، وهم أصحاب التشبيه والتمثيل، ففهموا منها مثل ما للمخلوقين، وظنوا أنْ لا حقيقةَ لها سوى ذلك، وقالوا: مُحال أن يخاطبنا اللهُ سبحانه بما لا نعقله، ثم يقول: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة: 72] {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة: 217] {لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص: 28]، ونظائر ذلك. وهؤلاء هم المشبِّهة.

فهذه الفِرَق لا تزال تُبدِّع بعضُهم بعضًا وتضلِّله وتجهِّله، وقد تصادمت كما ترى، فَهُمْ كزُمرة من العميان تلاقوا فتصادموا، كما قال أعمى البصر والبصيرة منهم:

وَنَظِيرِي فِي الْعِلْمِ مِثْلِيَ أَعْمَى 

فَتَرَانَا فِي حِنْدِسٍ نَتَصَادَمْ

وهدى الله أصحابَ سواء السبيل للطريقة المُثلى، فلم يتلوثوا بشيءٍ من أوضار هذه الفرق وأدناسها، وأثبتوا لله حقائق الأسماء والصفات، ونفَوْا عنها مماثلة المخلوقات، فكان مذهبهم مذهبًا بين مذهبين وهُدًى بين ضلالتين، خرج من بين مذاهب المعطِّلين والمخيِّلين والمجهِّلين والمشبِّهين، كما خرج اللبن من بين فرثٍ ودمٍ لبنًا خالصًا سائغًا للشاربين.

وقالوا: نَصِفُ اللهَ بما وصف به نفسَه وبما وصفه به رسولُه، من غير تحريفٍ ولا تعطيلٍ، ومن غير تشبيهٍ ولا تمثيلٍ، بل طريقتنا إثباتُ حقائق الأسماء والصفات، ونفْيُ مشابهة المخلوقات، فلا نعطِّل ولا نؤوِّل ولا نمثِّل ولا نجهِّل، ولا نقول: ليس لله يدانِ ولا وجهٌ ولا سمعٌ ولا بصر ولا حياة ولا قدرة ولا استواءٌ على عرشه. ولا نقول: له يدانِ كأيدي المخلوقين، ووجه كوجوههم، وسمعٌ وبصر وحياة وقدرة واستواء كأسماعهم وأبصارهم وقدرتهم واستوائهم. بل نقول: له ذاتٌ حقيقةً ليست كالذوات، وله صفاتٌ حقيقةً لا مجازًا ليست كصفات المخلوقين. وكذلك قولنا في وجهه تبارك وتعالى ويديه وسمعِه وبصرِه وكلامه واستوائه، ولا يمنعنا ذلك أن نفهم المراد من تلك الصِّفات وحقائقها، كما لم يمنع ذلك مَن أثبت لله شيئًا من صفات الكمال مِن فَهْمِ معنى الصفة وحقيقتها، فإن مَن أثبتَ له سبحانه السمع والبصر أثبتهما حقيقةً وفَهِمَ معناهما، فهكذا سائر صفاته المقدسة يجب أن تجري هذا المجرى، وإن كان لا سبيلَ لنا إلى معرفة كُنْهها وكيفيتها؛ فإن الله سبحانه لم يكلِّف عباده بذلك، ولا أراده منهم، ولم يجعل لهم إليه سبيلًا. بل كثيرٌ من مخلوقاته أو أكثرها لم يجعل لهم سبيلًا إلى معرفة كنهه وكيفيته، وهذه أرواحهم ـ التي هي أدنى إليهم من كل دانٍ ـ قد حجَبَ عنهم معرفة كنهها وكيفيتها، وما جعَلَ لهم السبيل إلى معرفتها والتمييز بينها وبين أرواح البهائم.

وقد أخبرنا سبحانه عن تفاصيل يوم القيامة وما في الجنة والنار، فقامت حقائقُ ذلك في قلوب أهل الإيمان، وشاهدته عقولُهم، ولم يعرفوا كيفيته وكُنْهه. فلا يشك المسلمون أن في الجنة أنهارًا من خمرٍ، وأنهارًا من عسلٍ، وأنهارًا من لبنٍ، ولكن لا يعرفون كُنْهَ ذلك ومادته وكيفيته؛ إذ كانوا لا يعرفون في الدنيا الخمر إلَّا ما اعتُصِرَ من الأعناب، والعسل إلَّا ما قذفت به النحلُ في بيوتها، واللبن إلَّا ما خرج من الضروع، والحرير إلَّا ما خرج من فم دود القزِّ، وقد فهموا معانيَ ذلك في الجنة من غير أن يكون مماثِلًا لما في الدنيا، كما قال ابن عباسٍ: «ليس في الدنيا ممَّا في الآخرةِ إلَّا الأسماءُ».

ولم يمنعهم عدم النظير في الدُّنيا مِن فَهْمِ ما أُخبروا به من ذلك، فهكذا الأسماء والصفات لم يمنعهم انتفاء نظيرها في الدنيا ومثالها مِن فَهْم حقائقها ومعانيها، بل قام بقلوبهم معرفة حقائقها وانتفاء التمثيل والتشبيه عنها. وهذا هو المثل الأعلى الذي أثبته سبحانه لنفسه في ثلاثة مواضع من القرآن:

أحدها: قوله: {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ اُلسَّوْءِ وَلِلَّهِ اِلْمَثَلُ اُلْأَعْلَى وَهْوَ اَلْعَزِيزُ اُلْحَكِيمُ} [النحل: 60].

الثاني: قوله: {وَهْوَ اَلَّذِي يَبْدَأُ اُلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهْوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ اُلْمَثَلُ اُلْأَعْلَى فِي اِلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضِ وَهْوَ اَلْعَزِيزُ اُلْحَكِيمُ} [الروم: 26].

الثالث: قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهْوَ اَلسَّمِيعُ اُلْبَصِيرُ} [الشورى: 9].

فنفى سبحانه المماثلةَ عن هذا المثل الأعلى، وهو ما في قلوب أهل سماواته وأرضه من معرفته والإقرار بربوبيته وأسمائه وصفاته وذاته. فهذا المثل الأعلى هو الذي آمَنَ به المؤمنون، وأَنِسَ به العارفون، وقامت شواهدُه في قلوبهم بالتعريفات الفطرية المكملة بالكتب الإلهية، المقبولة بالبراهين العقلية، فاتفق على الشهادة بثبوته العقلُ والسمعُ والفطرة. فإذا قال المثبت: يا الله، قام بقلبه ربًّا قيُّومًا قائمًا بنفسه، مستويًا على عرشه، مُكلَّمًا مُتكلِّمًا سامعًا رائيًا قديرًا مريدًا فعَّالًا لما يشاء، يسمع دعاء الداعين، ويقضي حوائجَ السائلين، ويُفرِّج عن المكروبين، تُرضيه الطاعات، وتُغضبه المعاصي، تَعرُجُ الملائكةُ بالأمر إليه، وتنزل بالأمر من عنده.

وإذا شئتَ زيادةَ تعريفٍ بهذا المثل الأعلى فقدِّر قُوى جميع المخلوقات اجتمعت لواحدٍ منهم، ثم كان جميعهم على قوة ذلك الواحد، فإذا نسبتَ قوته إلى قوة الربِّ تبارك وتعالى لم تجد لها نسبة وإيَّاها البتةَ، كما لا تجد نسبة بين قوة البعوضة وقوة الأسد. فإذا قدرتَ علوم الخلائق اجتمعت لرجلٍ واحدٍ، ثم قدرتَ جميعهم بهذه المثابة كانت علومهم بالنسبة إلى عِلمه تعالى كنقرة عصفورٍ من بحرٍ. وإذا قدرتَ حِكمة جميع المخلوقين على هذا التقدير لم يكن لها نسبة إلى حِكمته. وكذلك إذا قدَّرتَ كل جمالٍ في الوجود اجتمع لشخصٍ واحدٍ، ثم كان الخَلْق كلهم بذلك الجمال كان نسبته إلى جمال الربِّ تعالى وجلاله دون نسبة السِّراج الضعيف إلى جرم الشمس.

وقد نبَّهنا الله سبحانه على هذا المعنى بقوله: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي اِلْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَاَلْبَحْرَ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اُللَّهِ إِنَّ اَللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان: 26]. فقدِّرِ البحر المحيط بالعالَم مِدادًا ووراءه سبعة أبحر تحيط به كلها مِدادٌ تُكتب به كلماتُ الله، نفدت البحارُ، وفنيت الأقلامُ ـ التي لو قدرت جميع أشجار الأرض من حين خُلِقت إلى آخِر الدنيا ـ ولم تنفد كلمات الله.

وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أَنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ فِي الْكُرْسِيِّ كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ بِأَرْضٍ فَلَاةٍ، وَالْكُرْسِيَّ فِي الْعَرْشِ كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ فِي أَرْضٍ فَلَاةٍ، وَالْعَرْشُ لَا يُقَدِّرُ قَدْرَهُ إِلَّا اللَّهُ، وَهُوَ سُبْحَانُهُ فَوْقَ عَرْشِهِ يَرَى مَا عِبَادُهُ عَلَيْهِ».

فهذا هو الذي قام بقلوب المؤمنين المصدِّقين العارفين به سبحانه من المثل الأعلى، فعرفوه به، وعبدوه به، وسألوه به فأحبوه وخافوه ورجَوْه، وتوكلوا عليه، وأنابوا إليه، واطمأنوا بذِكره، وأَنِسُوا بحبه بواسطة هذا التعريف. فلم يصعب عليهم بعد ذلك فَهمُ استوائه على عرشه، وسائرِ ما وصف به نفسَه من صفات كماله؛ إذ قد أحاط علمهم بأنه لا نظيرَ لذلك ولا مثلَ له، ولم يخطر بقلوبهم مماثلتُه لشيءٍ من المخلوقات.

وقد أعلمهم سبحانه على لسان رسوله «أَنَّهُ يَقْبِضُ سَمَاوَاتِهِ بِيَدِهِ وَالْأَرْضَ بِالْيَدِ الْأُخْرَى، ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ». «وَأَنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرَضِينَ السَّبْعَ فِي كَفِّهِ تَعَالَى كَخَرْدَلَةٍ فِي كَفِّ أَحَدِكُمْ». «وَأَنَّهُ يَضَعُ السَّمَاوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْجِبَالَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ الخَلْقِ عَلَى إِصْبَعٍ». فأيُّ أيدٍ للخلق وأي إصبع تُشبه هذه اليدَ وهذه الإصبعَ حتى يكون إثباتها تشبيهًا وتمثيلًا.

فقاتَلَ اللهُ أصحابَ التحريف والتأويل، وأصحابَ التخييل، وأصحاب التجهيل، وأصحاب التشبيه والتمثيل. ماذا حُرِمُوه من الحقائق الإيمانية والمعارف الإلهية، وماذا تعوضوا به من زُبالة الأذهان ونُخالة الأفكار! فما أشبَهَهم بمن كان غذاؤهم المَنَّ والسَّلْوى بلا تعبٍ ولا كُلْفةٍ، فآثَروا عليه الفُومَ والعدس والبصل، وقد جرت عادةُ الله سبحانه أن يُذِلَّ مَن آثَرَ الأدنى على الأعلى، ويجعله عبرةً للعقلاء.

فأوَّلُ هذا الصنف إبليسُ ترَكَ السجود لآدم كِبرًا؛ فابتلاه الله بالقيادة لفُسَّاق ذريته. وعُبَّادُ الأصنام لم يُقروا بنبيٍّ من البشر، ورَضُوا بآلهةٍ من الحجر. والجهميةُ نزَّهوا الله عن عرشه لئلَّا يحويه مكانٌ، ثم جعلوه في الآبار والأنجاس وفي كل مكانٍ. وهكذا طوائف الباطل لم يَرضَوْا بنصوص الوحي، فابتُلوا بزُبالة أذهان المتحيرين وورثة الصابئين وأفراخ الفلاسفة الملحدين، و {مَن يَهْدِ اِللَّهُ فَهْوَ اَلْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا} [الكهف: 17].


الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة - ط عطاءات العلم (1/ 210)

 

الفصل الثامن عشر: في انقسام الناس في نصوص الوحي إلى أصحاب تأويلٍ وأصحاب تخييلٍ وأصحاب تجهيلٍ وأصحاب تمثيلٍ وأصحاب سواء السبيل

هذه خمسة أصناف انقسم الناس إليها في هذا الباب بحسب اعتقادهم ما أُريدَ بالنصوص:

‌‌الصنف الأول: أصحاب التأويل، وهم أشد الأصناف اضطرابًا، إذ لم يثبت لهم قدمٌ في الفرق بين ما يُتأول وما لا يُتأول، ولا ضابط مطَّرِد منعكس يجب مراعاته ويمنع مخالفته؛ بخلاف سائر الفرق، فإنهم جَرَوْا على ضابطٍ واحدٍ، وإن كان فيهم من هو أشد خطأً من أصحاب التأويل كما سنذكره.

‌‌الصنف الثاني: أصحاب التخييل، وهم الذين اعتقدوا أن الرُّسل لم تُفصِحْ للخلق بالحقائق؛ إذ ليس في قُواهم إدراكها، وإنما خَيَّلَت لهم، وأبرزت المعقولَ في صورة المحسوس. قالوا: ولو دعتِ الرُّسلُ أُمَمَهم إلى الإقرار بربٍّ لا داخلَ العالم ولا خارجَه ولا مُحايِثًا له ولا مُبايِنًا له، ولا متصلًا به ولا منفصلًا عنه، ولا فوقه ولا تحته ولا عن يمينه ولا عن يساره. لنفرت عقولُهم من ذلك، ولم تصدِّق بإمكان وجود هذا الموجود فضلًا عن وجوب وجوده. وكذلك لو أخبروهم بحقيقة كلامه، وأنه فيضٌ فاضَ من المبدأ الأول على العقل الفعَّال، ثم فاضَ من ذلك العقل على النفس الناطقة الزكية المستعدة؛ لم يفهموا ذلك. ولو أخبروهم عن المعاد الرُّوحاني بما هو عليه لم يفهموه، فقرَّبوا لهم الحقائقَ المعقولة في إبرازها في الصور المحسوسة، وضربوا لهم الأمثال بقيام الأجساد من القبور في يوم العرض والنشور، ومصيرها إلى جنةٍ فيها أكلٌ وشربٌ ولحمٌ وخمرٌ وجوارٍ حِسانٌ، أو نارٍ فيها أنواع العذاب، تفهيمًا للذة الرُّوحانية بهذه الصورة، والألم الرُّوحاني بهذه الصورة.

وهكذا فعلوا في وجود الربِّ وصفاته وأفعاله، ضربوا لهم الأمثال بموجودٍ عظيمٍ جدًّا أكبر من كل موجودٍ، وله سريرٌ عظيمٌ وهو مستوٍ فوق سريره، يسمع ويبصر ويتكلم، ويأمر وينهى، ويرضى ويغضب، ويأتي ويجيء وينزل، وله يدانِ ووجهٌ، ويفعل بمشيئته وإرادته، وإذا تكلم العبادُ سمع كلامَهم، وإذا تحركوا رأى حركاتِهم، وإذا هجسَ في قلب أحدٍ منهم هاجسٌ عَلِمَه، وأنه ينزل كل ليلة إليهم إلى سمائهم هذه فيقول: «مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، وَمَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ». إلى غير ذلك ممَّا نطقت به الكتبُ الإلهية.

قالوا: ولا يحلُّ لأحدٍ أن يتأول ذلك على خلاف ظاهره للجمهور؛ لأنه يُفسِد ما وُضِعت له الشرائع والكتب الإلهية. وأمَّا الخاصة فهم يعلمون أن هذه أمثالٌ مضروبةٌ لأمور عقلية تَعجِزُ عن إدراكها عقولُ الجمهور، فتأويلها جناية على الشريعة والحكمة، وإقرارها إقرارٌ للشريعة والحكمة. قالوا: وعقول الجمهور بالنسبة إلى هذه الحقائق أضعفُ من عقول الصبيان بالنسبة إلى ما يدركه عقلاءُ الرجال وأهل الحِكمة منهم. والحكيم إذا أراد أن يخوِّف الصغير أو يبسط أملَه خوَّفه ورجَّاه بما يناسب فَهمَه وطبعَه.

وحقيقة الأمر عند هذه الطائفة: أن الذي أخبرت به الرُّسلُ عن الله وصفاته وأفعاله وعن اليوم الآخر لا حقيقةَ له تُطابِق ما أخبروا به، ولكنه أمثالٌ وتخييلٌ وتفهيمٌ بضرب الأمثال. وقد ساعدهم أربابُ التأويل على هذا المقصد في باب معرفة الله وأسمائه وصفاته، وصرَّحوا في ذلك بمعنى ما صرَّح به هؤلاء في باب المَعاد وحشْر الأجساد، بل نقلوا كلماتهم بعينها إلى نصوص الاستواء والفَوْقية ونصوص الصِّفات الخبرية. لكن هؤلاء أوجبوا أو سوَّغوا تأويلها بما يُخرِجها عن حقائقها وظواهرها، وظنوا أن الرُّسل قصدت ذلك من المخاطَبين تعريضًا لهم إلى الثواب الجزيل ببذل الجهد في تأويلها واستخراج معانٍ تليق بها وحملها عليها؛ وأولئك حرَّموا التأويل، ورأوه عائدًا على ما قصدته الأنبياءُ بالإبطال. والطائفتان متفقتان على انتفاء حقائقها المفهومة منها في نفس الأمر.

و‌‌الصنف الثالث: أصحاب التجهيل، الذين قالوا: نصوص الصِّفات ألفاظٌ لا يُعقَل معانيها، ولا يُدرى ما أراد اللهُ ورسوله منها، ولكن نقرؤُها ألفاظًا لا معانِيَ لها، ونعلم أن لها تأويلًا لا يعلمه إلَّا الله، وهي عندنا بمنزلة: {كهيعص} [مريم: 1] و {حم عسق} [الشورى: 1] و {المص} [الأعراف: 1]. فلو ورد علينا منها ما ورد لم نعتقد فيه تمثيلًا ولا تشبيهًا، ولم نعرف معناه، ونُنكِر على مَن تأوَّله، ونَكِل علمه إلى الله.

وظن هؤلاء أن هذه طريقةُ السلف، وأنهم لم يكونوا يعرفون حقائق الأسماء والصفات، ولا يفهمون معنى قوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 74] وقوله: {وَاَلْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ} [الزمر: 64]، وقوله: {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى} [طه: 4]، وأمثال ذلك من نصوص الصفات. وبنَوْا هذا المذهب على أصلين:

أحدهما: أن هذه النصوص من المتشابِه.

والثاني: أن للمتشابه تأويلًا لا يعلمه إلَّا الله.

فنتج مِن هذين الأصلين استجهالُ السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وسائر الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وأنهم كانوا يقرؤون: {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى} [طه: 4] و {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 66]، ويَرْوُون: «يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا»، ولا يعرفون معنى ذلك ولا ما أُريدَ به؛ ولازمُ قولهم أن الرسول كان يتكلم بذلك ولا يعلم معناه، ثم تناقضوا أقبحَ تناقُضٍ، فقالوا: تُجرَى على ظواهرها، وتأويلُها بما يخالف الظواهر باطلٌ، ومع ذلك فلها تأويلٌ لا يعلمه إلَّا الله. فكيف يُثبِتون لها تأويلًا، ويقولون: تجرى على ظواهرها، ويقولون: الظاهر منها غير مرادٍ، والربُّ منفرد بعلم تأويلها. وهل في التناقض أقبحُ من هذا؟!

وهؤلاء غلطوا في المتشابه، وفي جعل هذه النصوص من المتشابه، وفي كَوْن المتشابه لا يعلم معناه إلَّا الله، فأخطؤوا في المقدِّمات الثلاث. واضطرهم إلى هذا التخلصُ من تأويلات المبطِلين وتحريفات المعطِّلين، وسدُّوا على نفوسهم الباب، وقالوا: لا نرضى بالخطأ، ولا وصولَ لنا إلى الصواب.

فهؤلاء تركوا التدبُّر المأمور به والتذكر والعقل لمعاني النصوص، الذي هو أساس الإيمان وعمود اليقين، وأعرضوا عنه بقلوبهم، وتعبَّدوا بالألفاظ المجردة التي أُنزلت في ذلك، وظنوا أنها أُنزلت للتلاوة والتعبُّد بها دون تعقُّل معانيها وتدبُّرها والتفكر فيها. فأولئك جعلوها عُرضة للتأويل والتحريف، كما جعلها أصحاب التخييل أمثالًا لا حقيقة لها.

وقابلهم الصنف الرابع، وهم أصحاب التشبيه والتمثيل، ففهموا منها مثل ما للمخلوقين، وظنوا أنْ لا حقيقةَ لها سوى ذلك، وقالوا: مُحال أن يخاطبنا اللهُ سبحانه بما لا نعقله، ثم يقول: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة: 72] {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة: 217] {لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص: 28]، ونظائر ذلك. وهؤلاء هم المشبِّهة.

فهذه الفِرَق لا تزال تُبدِّع بعضُهم بعضًا وتضلِّله وتجهِّله، وقد تصادمت كما ترى، فَهُمْ كزُمرة من العميان تلاقوا فتصادموا، كما قال أعمى البصر والبصيرة منهم:

وَنَظِيرِي فِي الْعِلْمِ مِثْلِيَ أَعْمَى 

فَتَرَانَا فِي حِنْدِسٍ نَتَصَادَمْ

وهدى الله أصحابَ سواء السبيل للطريقة المُثلى، فلم يتلوثوا بشيءٍ من أوضار هذه الفرق وأدناسها، وأثبتوا لله حقائق الأسماء والصفات، ونفَوْا عنها مماثلة المخلوقات، فكان مذهبهم مذهبًا بين مذهبين وهُدًى بين ضلالتين، خرج من بين مذاهب المعطِّلين والمخيِّلين والمجهِّلين والمشبِّهين، كما خرج اللبن من بين فرثٍ ودمٍ لبنًا خالصًا سائغًا للشاربين.

وقالوا: نَصِفُ اللهَ بما وصف به نفسَه وبما وصفه به رسولُه، من غير تحريفٍ ولا تعطيلٍ، ومن غير تشبيهٍ ولا تمثيلٍ، بل طريقتنا إثباتُ حقائق الأسماء والصفات، ونفْيُ مشابهة المخلوقات، فلا نعطِّل ولا نؤوِّل ولا نمثِّل ولا نجهِّل، ولا نقول: ليس لله يدانِ ولا وجهٌ ولا سمعٌ ولا بصر ولا حياة ولا قدرة ولا استواءٌ على عرشه. ولا نقول: له يدانِ كأيدي المخلوقين، ووجه كوجوههم، وسمعٌ وبصر وحياة وقدرة واستواء كأسماعهم وأبصارهم وقدرتهم واستوائهم. بل نقول: له ذاتٌ حقيقةً ليست كالذوات، وله صفاتٌ حقيقةً لا مجازًا ليست كصفات المخلوقين. وكذلك قولنا في وجهه تبارك وتعالى ويديه وسمعِه وبصرِه وكلامه واستوائه، ولا يمنعنا ذلك أن نفهم المراد من تلك الصِّفات وحقائقها، كما لم يمنع ذلك مَن أثبت لله شيئًا من صفات الكمال مِن فَهْمِ معنى الصفة وحقيقتها، فإن مَن أثبتَ له سبحانه السمع والبصر أثبتهما حقيقةً وفَهِمَ معناهما، فهكذا سائر صفاته المقدسة يجب أن تجري هذا المجرى، وإن كان لا سبيلَ لنا إلى معرفة كُنْهها وكيفيتها؛ فإن الله سبحانه لم يكلِّف عباده بذلك، ولا أراده منهم، ولم يجعل لهم إليه سبيلًا. بل كثيرٌ من مخلوقاته أو أكثرها لم يجعل لهم سبيلًا إلى معرفة كنهه وكيفيته، وهذه أرواحهم ـ التي هي أدنى إليهم من كل دانٍ ـ قد حجَبَ عنهم معرفة كنهها وكيفيتها، وما جعَلَ لهم السبيل إلى معرفتها والتمييز بينها وبين أرواح البهائم.

وقد أخبرنا سبحانه عن تفاصيل يوم القيامة وما في الجنة والنار، فقامت حقائقُ ذلك في قلوب أهل الإيمان، وشاهدته عقولُهم، ولم يعرفوا كيفيته وكُنْهه. فلا يشك المسلمون أن في الجنة أنهارًا من خمرٍ، وأنهارًا من عسلٍ، وأنهارًا من لبنٍ، ولكن لا يعرفون كُنْهَ ذلك ومادته وكيفيته؛ إذ كانوا لا يعرفون في الدنيا الخمر إلَّا ما اعتُصِرَ من الأعناب، والعسل إلَّا ما قذفت به النحلُ في بيوتها، واللبن إلَّا ما خرج من الضروع، والحرير إلَّا ما خرج من فم دود القزِّ، وقد فهموا معانيَ ذلك في الجنة من غير أن يكون مماثِلًا لما في الدنيا، كما قال ابن عباسٍ: «ليس في الدنيا ممَّا في الآخرةِ إلَّا الأسماءُ».

ولم يمنعهم عدم النظير في الدُّنيا مِن فَهْمِ ما أُخبروا به من ذلك، فهكذا الأسماء والصفات لم يمنعهم انتفاء نظيرها في الدنيا ومثالها مِن فَهْم حقائقها ومعانيها، بل قام بقلوبهم معرفة حقائقها وانتفاء التمثيل والتشبيه عنها. وهذا هو المثل الأعلى الذي أثبته سبحانه لنفسه في ثلاثة مواضع من القرآن:

أحدها: قوله: {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ اُلسَّوْءِ وَلِلَّهِ اِلْمَثَلُ اُلْأَعْلَى وَهْوَ اَلْعَزِيزُ اُلْحَكِيمُ} [النحل: 60].

الثاني: قوله: {وَهْوَ اَلَّذِي يَبْدَأُ اُلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهْوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ اُلْمَثَلُ اُلْأَعْلَى فِي اِلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضِ وَهْوَ اَلْعَزِيزُ اُلْحَكِيمُ} [الروم: 26].

الثالث: قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهْوَ اَلسَّمِيعُ اُلْبَصِيرُ} [الشورى: 9].

فنفى سبحانه المماثلةَ عن هذا المثل الأعلى، وهو ما في قلوب أهل سماواته وأرضه من معرفته والإقرار بربوبيته وأسمائه وصفاته وذاته. فهذا المثل الأعلى هو الذي آمَنَ به المؤمنون، وأَنِسَ به العارفون، وقامت شواهدُه في قلوبهم بالتعريفات الفطرية المكملة بالكتب الإلهية، المقبولة بالبراهين العقلية، فاتفق على الشهادة بثبوته العقلُ والسمعُ والفطرة. فإذا قال المثبت: يا الله، قام بقلبه ربًّا قيُّومًا قائمًا بنفسه، مستويًا على عرشه، مُكلَّمًا مُتكلِّمًا سامعًا رائيًا قديرًا مريدًا فعَّالًا لما يشاء، يسمع دعاء الداعين، ويقضي حوائجَ السائلين، ويُفرِّج عن المكروبين، تُرضيه الطاعات، وتُغضبه المعاصي، تَعرُجُ الملائكةُ بالأمر إليه، وتنزل بالأمر من عنده.

وإذا شئتَ زيادةَ تعريفٍ بهذا المثل الأعلى فقدِّر قُوى جميع المخلوقات اجتمعت لواحدٍ منهم، ثم كان جميعهم على قوة ذلك الواحد، فإذا نسبتَ قوته إلى قوة الربِّ تبارك وتعالى لم تجد لها نسبة وإيَّاها البتةَ، كما لا تجد نسبة بين قوة البعوضة وقوة الأسد. فإذا قدرتَ علوم الخلائق اجتمعت لرجلٍ واحدٍ، ثم قدرتَ جميعهم بهذه المثابة كانت علومهم بالنسبة إلى عِلمه تعالى كنقرة عصفورٍ من بحرٍ. وإذا قدرتَ حِكمة جميع المخلوقين على هذا التقدير لم يكن لها نسبة إلى حِكمته. وكذلك إذا قدَّرتَ كل جمالٍ في الوجود اجتمع لشخصٍ واحدٍ، ثم كان الخَلْق كلهم بذلك الجمال كان نسبته إلى جمال الربِّ تعالى وجلاله دون نسبة السِّراج الضعيف إلى جرم الشمس.

وقد نبَّهنا الله سبحانه على هذا المعنى بقوله: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي اِلْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَاَلْبَحْرَ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اُللَّهِ إِنَّ اَللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان: 26]. فقدِّرِ البحر المحيط بالعالَم مِدادًا ووراءه سبعة أبحر تحيط به كلها مِدادٌ تُكتب به كلماتُ الله، نفدت البحارُ، وفنيت الأقلامُ ـ التي لو قدرت جميع أشجار الأرض من حين خُلِقت إلى آخِر الدنيا ـ ولم تنفد كلمات الله.

وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أَنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ فِي الْكُرْسِيِّ كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ بِأَرْضٍ فَلَاةٍ، وَالْكُرْسِيَّ فِي الْعَرْشِ كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ فِي أَرْضٍ فَلَاةٍ، وَالْعَرْشُ لَا يُقَدِّرُ قَدْرَهُ إِلَّا اللَّهُ، وَهُوَ سُبْحَانُهُ فَوْقَ عَرْشِهِ يَرَى مَا عِبَادُهُ عَلَيْهِ».

فهذا هو الذي قام بقلوب المؤمنين المصدِّقين العارفين به سبحانه من المثل الأعلى، فعرفوه به، وعبدوه به، وسألوه به فأحبوه وخافوه ورجَوْه، وتوكلوا عليه، وأنابوا إليه، واطمأنوا بذِكره، وأَنِسُوا بحبه بواسطة هذا التعريف. فلم يصعب عليهم بعد ذلك فَهمُ استوائه على عرشه، وسائرِ ما وصف به نفسَه من صفات كماله؛ إذ قد أحاط علمهم بأنه لا نظيرَ لذلك ولا مثلَ له، ولم يخطر بقلوبهم مماثلتُه لشيءٍ من المخلوقات.

وقد أعلمهم سبحانه على لسان رسوله «أَنَّهُ يَقْبِضُ سَمَاوَاتِهِ بِيَدِهِ وَالْأَرْضَ بِالْيَدِ الْأُخْرَى، ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ». «وَأَنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرَضِينَ السَّبْعَ فِي كَفِّهِ تَعَالَى كَخَرْدَلَةٍ فِي كَفِّ أَحَدِكُمْ». «وَأَنَّهُ يَضَعُ السَّمَاوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْجِبَالَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ الخَلْقِ عَلَى إِصْبَعٍ». فأيُّ أيدٍ للخلق وأي إصبع تُشبه هذه اليدَ وهذه الإصبعَ حتى يكون إثباتها تشبيهًا وتمثيلًا.

فقاتَلَ اللهُ أصحابَ التحريف والتأويل، وأصحابَ التخييل، وأصحاب التجهيل، وأصحاب التشبيه والتمثيل. ماذا حُرِمُوه من الحقائق الإيمانية والمعارف الإلهية، وماذا تعوضوا به من زُبالة الأذهان ونُخالة الأفكار! فما أشبَهَهم بمن كان غذاؤهم المَنَّ والسَّلْوى بلا تعبٍ ولا كُلْفةٍ، فآثَروا عليه الفُومَ والعدس والبصل، وقد جرت عادةُ الله سبحانه أن يُذِلَّ مَن آثَرَ الأدنى على الأعلى، ويجعله عبرةً للعقلاء.

فأوَّلُ هذا الصنف إبليسُ ترَكَ السجود لآدم كِبرًا؛ فابتلاه الله بالقيادة لفُسَّاق ذريته. وعُبَّادُ الأصنام لم يُقروا بنبيٍّ من البشر، ورَضُوا بآلهةٍ من الحجر. والجهميةُ نزَّهوا الله عن عرشه لئلَّا يحويه مكانٌ، ثم جعلوه في الآبار والأنجاس وفي كل مكانٍ. وهكذا طوائف الباطل لم يَرضَوْا بنصوص الوحي، فابتُلوا بزُبالة أذهان المتحيرين وورثة الصابئين وأفراخ الفلاسفة الملحدين، و {مَن يَهْدِ اِللَّهُ فَهْوَ اَلْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا} [الكهف: 17].


الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة - ط عطاءات العلم (1/ 210)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله