الفصل التاسع عشر في الأسباب التي تسهل على النفوس الجاهلة قبول التأويل مع مخالفته للبيان الذي علَّمه الله الإنسان وفَطَره على قبوله
التأويل يجري مَجرى مخالفة الطبيعة الإنسانية والفطرة التي فَطَر عليها العبد، فإنه ردُّ الفهم من جريانه مع الأمر المعتاد المألوف إلى الأمر الذي لم يُعهَد ولم يُؤلف. وما كان هذا سبيلَه فإن الطباع السليمة لا تتقاضاه بل تنفر منه وتأباه، فلذلك وضع له أربابُه أصولًا ومهَّدوا له أسبابًا تدعو إلى قبوله، وهي أنواع:
السبب الأول: أن يأتي به صاحبه مموَّهًا مُزخرَف الألفاظ مُلفَّق المعاني، مكسوًّا حُلَّةَ الفصاحة والعبارة الرشيقة، فتسرع العقولُ الضعيفة إلى قبوله واستحسانه، وتبادر إلى اعتقاده وتقليده. ويكون حاله في ذلك حال من يعرض سلعةً مموَّهةً مغشوشةً على من لا بصيرةَ له بباطنها وحقيقتها، فيُحسِّنها في عينه، ويُحبِّبها إلى نفسه. وهذا الذي يعتمده كلُّ مَن أراد ترويج باطلٍ؛ فإنه لا يتم له ذلك إلَّا بتمويهه وزخرفته وإلقائه إلى جاهلٍ بحقيقته.
قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ اَلْإِنسِ وَاَلْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ اَلْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 113]، فذكر سبحانه أنهم يستعينون على مخالفة أمر الأنبياء بما يُزخرفه بعضُهم لبعضٍ من القول، فيغترُّ به الأَغْمارُ وضعفاء العقول، فذكر السببَ الفاعل والقابل. ثم ذكر سبحانه انفعال هذه النفوس الجاهلة عنه بصَغْوِها وميلها إليه ورضاها به؛ لِمَا كُسِيَ من الزُّخرف الذي يغرُّ السامعَ. فلمَّا أصغت إليه ورَضِيَتْه اقترفت ما تدعو إليه من الباطل قولًا وعملًا. فتأمَّلْ هذه الآيات وما تحتها من هذا المعنى العظيم القدْر الذي فيه بيان أصول الباطل، والتنبيه على مواقع الحذر منها وعدم الاغترار بها.
وإذا تأملتَ مقالات أهل الباطل رأيتَهم قد كسَوْها من العبارات المُستحسنة، وتخيروا لها من الألفاظ الرائقة ما يُسرِع إلى قَبوله كل مَن ليس له بصيرةٌ نافذةٌ، وأكثر الخلق كذلك، حتى إن الفُجَّار ليُسمُّون أعظم أنواع الفجور بأسماء لا ينبو عنها السمع، ويميل إليها الطبع، فيُسمُّون أم الخبائث: أم الأفراح، ويُسمون اللقمة الملعونة: لُقيمة الذِّكر والفكر التي تُثير العزم الساكن إلى أشرف الأماكن، ويُسمُّون مجالس الفجور والفسوق: مجالس الطيبة. حتى إن بعضهم لمَّا عُذل عن شيءٍ من ذلك قال لعاذله: «ترك المعاصي والتخوف منها إساءةُ ظنٍّ برحمة الله، وجُرأة على سعة عفوه ومغفرته». فانظر ماذا تفعل هذه الكلمة في قلبٍ ممتلئٍ بالشهوات ضعيف العلم والبصيرة.
السبب الثاني: أن يخرج المعنى الذي يريد إبطاله بالتأويل في صورةٍ مستهجَنةٍ، تنفر عنها القلوب، وتنبو عنها الأسماع، فيتخير له من الألفاظ أكرهَها وأبعدها وصولًا إلى القلوب، وأشدَّها نفرةً عنها، فيتوهم السامع أن معناها هو الذي دلت عليه تلك الألفاظ. فيُسمِّي التديُّن: ثَقَالةً، وعدمَ الانبساط إلى السفهاء والفساق والبطالين: سُوءَ خُلق، والأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر والغضب لله والحمية لدينه: فتنةً وشرًّا وفضولًا.
وكذلك أهل البدع والضلال من جميع الطوائف تُعظِّم ما يُنفِّرون به عن الحق ويدعون به إلى الباطل، فيُسمُّون إثبات صفات الكمال لله: تجسيمًا وتشبيهًا وتمثيلًا، ويُسمون إثبات الوجه واليدين له: تركيبًا، ويسمون إثبات استوائه على عرشه وعلوِّه على خَلْقه فوق سماواته: تحيُّزًا وتجسيمًا، ويسمون العرش: حيزًا وجِهةً، ويُسمُّون الصِّفات: أعْراضًا، والأفعال: حوادثَ، والوجه واليدين: أبعاضًا، والحِكَم والغايات التي يفعل لأجلها: أغراضًا. فلمَّا وضعوا لهذه المعاني الصحيحة الثابتة تلك الألفاظ المستنكَرة الشنيعة تمَّ لهم مِن نفيها وتعطيلها ما أرادوه، فقالوا للأغمار والأغفال اعلموا أن ربكم منزَّهٌ عن الأعراض والأغراض والأبعاض والجهات والتركيب والتجسيم والتشبيه. فلم يشكَّ أحدٌ ـ لله في قلبه وقارٌ وعظمةٌ ـ في تنزيه الربِّ تعالى عن ذلك.
وقد اصطلحوا على تسمية سَمْعه وبصره وعِلمه وقدرته وإرادته وحياته: أعراضًا، وعلى تسمية وجهه الكريم ويديه المبسوطتين: أبعاضًا، وعلى تسمية استوائه على عرشه وعلوه على خَلقه وأنه فوق عباده: تحيزًا، وعلى تسمية نزوله إلى سماء الدنيا وتكلُّمه بقدرته ومشيئتِه إذا شاءَ وغضبِه بعد رضاه ورضاه بعد غضبه: حوادث، وعلى تسمية الغاية التي يفعل ويتكلَّم لأجلها: غرضًا. واستقر ذلك في قلوب المتلقِّين عنهم، فلمَّا صرحوا لهم بنفي ذلك بقي السامع متحيرًا أعظمَ حيرةٍ بين نفي هذه الحقائق ـ التي أثبتها الله لنفسه وأثبتها له جميع رسله وسلف الأمة بعدهم ـ وبين إثباتها، وقد قام معه شاهد نفيها بما تلقاه عنهم.
فمن الناس مَن فرَّ إلى التخييل، ومنهم من فرَّ إلى التعطيل، ومنهم من فرَّ إلى التجهيل، ومنهم من فرَّ إلى التمثيل. ومنهم مَن فرَّ إلى الله ورسوله، وكشَفَ زيف هذه الألفاظ وبيَّنَ زخرفها وزَغَلها، وأنها ألفاظٌ مُموَّهةٌ بمنزلة طعام طيب الرائحة في إناء حسن اللون والشكل، ولكن الطعام مسمومٌ، فقالوا ما قاله إمامُ السُّنَّة باتفاق أهل السُّنَّة أحمد بن حنبل: «لا نُزيل عن الله صفةً من صفاته لأجل شناعة المشنِّعين».
ولمَّا أراد المتأولون المعطِّلون تمام هذا الغرض اخترعوا لأهل السُّنَّة الألقاب القبيحة، فسموهم: حَشْوية، ونوابت، ونواصب، ومُجبِرة، ومجسِّمة، ومشبِّهة، ونحو ذلك.
فتولَّد مِن بين تسميتهم لصفات الربِّ تعالى وأفعاله ووجهه ويديه وحكمته بتلك الأسماء، وتلقيب من أثبتها له بهذه الألقاب: لعنةُ أهل الإثبات والسُّنَّة وتبديعهم وتضليلهم وتكفيرهم وعقوبتهم، ولَقُوا منهم ما لقي الأنبياء وأتباعهم من أعدائهم. وهذا الأمر لا يزال في الأرض إلى أن يرثها الله ومَن عليها.
السبب الثالث: أن يعزو المتأوِّل تأويله وبدعته إلى جليل القدْر نبيه الذِّكر من العقلاء، أو مِن آل البيت النَّبويِّ، أو مَن حلَّ له في الأُمة ثناءٌ جميلٌ ولسان صدقٍ؛ ليُحليه بذلك في قلوب الأغمار والجُهَّال. فإنه من شأن الناس تعظيم كلام مَن يَعظُم قدْرُه في نفوسهم، وأن يتلقوه بالقبول والميل إليه، وكلما كان ذلك القائل أعظمَ في نفوسهم كان قبولهم لكلامه أتمَّ، حتى إنهم لَيقدمونه على كلام الله ورسوله، ويقولون: هو أعلم بالله ورسوله منَّا.
وبهذه الطريق توصَّل الرافضة والباطنية والإسماعيلية والنُّصَيْرية إلى تنفيق باطلهم وتأويلاتهم، حتى أضافوها إلى أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـ لمَّا علموا أن المسلمين متفقون على محبتهم وتعظيمهم وموالاتهم وإجلالهم ـ فانتموا إليهم وأظهروا من محبتهم وموالاتهم، واللَّهَج بذِكرهم وذِكر مناقبهم، ما خيَّل إلى السامع أنهم أولياؤهم وأَوْلى الناس بهم، ثم نفَّقوا باطلهم وإفكَهم بنسبته إليهم.
فلا إله إلَّا الله، كم مِن زندقةٍ وإلحادٍ وبدعةٍ وضلالةٍ قد نَفَقَت في الوجود بنسبتها إليهم، وهم بَرَاء منها براءة الأنبياء من التجهم والتعطيل، وبراءةَ المسيح من عبادة الصليب والتثليث، وبراءةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من البدع والضلالات.
وإذا تأملتَ هذا السبب رأيتَه هو الغالبَ على أكثر النفوس، وليس معهم سوى إحسان الظن بالقائل، بلا برهانٍ من الله، ولا حُجةٍ قادتهم إلى ذلك. وهذا ميراث بالتعصيب من الذين عارضوا دِين الرُّسل بما كان عليه الآباء والأسلاف، فإنهم لحُسن ظنهم بهم وتعظيمهم لهم آثروا ما كانوا عليه على ما جاءتهم به الرُّسل، وكانوا أعظمَ في صدورهم من أن يخالفوهم ويشهدوا عليهم بالكفر والضلال، وأنهم كانوا على الباطل. وهذا شأن كل مقلِّدٍ لمن يعظِّمه فيما خالف فيه الحقَّ إلى يوم القيامة.
السبب الرابع: أن يكون ذلك التأويل قد قَبِله ورضيه مُبرِّزٌ في صناعةٍ من الصناعات أو علمٍ من العلوم الدقيقة أو الجليلة، فيعلو له بما برز به ذِكرٌ في الناس، ويشتهر له به صيتٌ. فإذا سمع الغُمْرُ الجاهلُ بقبوله لذلك التأويل وتلك البدعة واختياره له أحسنَ الظنَّ به وارتضاه مذهبًا لنفسه، ورضي مَن قَبِله إمامًا له، وقال: إنه لم يكن ليختار ـ مع جودة قريحته وذكائه وصحة ذهنه ومهارته بصناعته وتبريزه فيها على بني جنسه ـ إلَّا الأصوب والأفضل من الاعتقادات، والأرشد والأمثل من التأويلات، وأين يقع اختياري مِن اختياره، فرضيت لنفسي ما رَضِيَه لنفسه، فإن عقله وذهنه وقريحته إنما تدله على الصواب، كما دلته على ما خَفِيَ عن غيره من صناعته وعلمه.
وهذه الآفة قد هلك بها أُممٌ لا يحصيهم إلَّا الله، رأوا الفلاسفة قد برَّزوا في العلوم الرياضية والطبية، واستنبطوا بعقولهم وجودة قرائحهم وصحة أفكارهم ما عجز أكثر الناس عن تعلمه، فضلًا عن استنباطه، فقالوا: للعلوم الإلهية والمعارف الرَّبانية أسوة بذلك، فحالُهم فيها مع الناس كحالهم في هذه العلوم سواء.
فلا إله إلَّا الله، كم أهلكت هذه البليَّة من أُمةٍ، وكم خرَّبت من دارٍ، وكم أزالت من نعمةٍ، وجلبت من نقمةٍ، وجرَّأت كثيرًا من النفوس على تكذيب الرُّسل واستجهالهم! وما عرف أصحابُ هذه الشُّبهة أن الله سبحانه قد يعطي أجهلَ الناس به وبأسمائه وصفاته وشرعه من الحِذْق في العلوم الرياضية والصنايع العجيبة ما يعجِزُ عنه عقول أعلم الناس ومعارفهم، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِدُنْيَاكُمْ».
وصدَقَ صلوات الله وسلامه عليه؛ فإن العلوم الرياضية والهندسية وعلم الأرتماطيقي والموسيقى والجغرافيا وإيرن ـ وهو علم جر الأثقال ووزن المياه وحفر الأنهار وعمارة الحصون ـ وعلم الفلاحة، وعلم الحُمَّيات وأجناسها ومعرفة الأبوال وألوانها وصفائها وكَدَرِها وما يدل عليه، وعلم الشِّعر وبُحوره وعِلله وزِحافه، وعلم الفنيطة، ونحو ذلك من العلوم، هم أعلم بها، وأحذق فيها.
وأمَّا العلم بالله وملائكته وكُتبه ورسله واليوم الآخر وتفاصيل ذلك فإلى الرُّسل، قال الله تعالى: {وَعْدَ اَللَّهِ لَا يُخْلِفُ اُللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ اَلْحَيَاةِ اِلدُّنْيا وَهُمْ عَنِ اِلْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 5 - 6]. قال بعض السلف: «يبلغ مِن علم أحدهم بالدنيا أنه ينقر الدرهم بظُفُره فيعلم وزنَه، ولا علم له بشيءٍ من دينه». وقال تعالى في علوم هؤلاء واغترارهم بها: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسْلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ اَلْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} [غافر: 82].
وقد فاوَتَ الله سبحانه بين عباده فيما تناله عقولهم وأذهانهم أعظمَ تفاوُت، والعقل يُعطي صاحبه فائدته في النوع الذي يلزمه به ويشغله به ويَقصُره عليه ما لا يعطيه في غيره، وإن كان غيره أسهلَ منه بكثيرٍ، كما يعطيه هِمَّته وقريحته في الصناعة التي هو معنيٌّ بها ومقصور العناية عليها ما لا يعطيه في صناعةٍ غيرها. وكثيرًا ما تجد الرجل قد برَّز في اللطيف من أبواب العلم والنظر، وتخلَّف في الجليل منهما، وأصاب الأغمض الأدق منها، وأخطأ الأجل الأوضح. هذا أمرٌ واقع تحت العيان، فكيف وعلوم الأنبياء ومعارفهم من وراء طَوْر العقل. والعقلُ وإن لم يستقلَّ بإدراكها فإنه لا يحيلها، بل إذا وردت عليه أقرَّ بصحتها، وبادَرَ إلى قبولها، وأذعنَ بالانقياد إليها، وعلم أن نسبة العلوم التي نالها الناس بأفكارهم إليها دون نسبة علوم الصبيان ومعارفهم إلى علوم هؤلاء بما لا يُدرك.
السبب الخامس: الإغراب على النفوس بما لم تكن عارفةً به من المعاني الغريبة التي إذا ظفر الذِّهن بإدراكها نالَه لذةٌ من جنس لذة الظفَر بالصيد الوحشي الذي لم يكن يطمع فيه. وهذا شأن النفوس، فإنها مُوكَلة بكل غريبٍ تستحسنه وتُؤثِره وتنافس فيه، حتى إذا كثر ورخص وناله المثري والمقلُّ زهدت فيه وأعرضت عنه، مع كونه أنفعَ لها وخيرًا لها، ولكن لرخصه وكثرة الشركاء فيه تَزْهد فيه وتطلب ما تتميز به عن غيرها للَّذة التفرد والاختصاص.
ثم اختاروا لتلك المعاني الغريبة ألفاظًا أغرب منها وألقَوْها في مسامع الناس، وقالوا: إن المعارف العقلية والعلوم اليقينية تحتها؛ فتحركت النفوس لطلب فَهْم تلك الألفاظ الغريبة وإدراك تلك المعاني. واتفقَ أن صادفت قلوبًا خالية من حقائق الإيمان وما بعث اللهُ به رسولَه، فتمكَّنت منها، فعزَّ على أطباء الأديان استنقاذها منها وقد تحكمت فيها، كما قيل:
تَاللهِ مَا أَسَرَ الْهَوَى مِنْ وَامِقٍ … إِلَّا وَعَزَّ عَلَى الْوَرَى اسْتِنْقَاذُهُ
وبمكان الاستغراب وقبول النفس لكل غريبٍ لهَجَ الناسُ بالأخبار الغريبة وعجائب المخلوقات والألغاز والأحاجي والصور الغريبة، وإن كانت المألوفةُ أعجبَ منها وأحسن وأتمَّ خِلقةً.
السبب السادس: تقديم مقدمات قبل التأويل تكون كالأطناب والأوتاد لفسطاطه:
فمنها: ذمُّ أصحاب الظواهر وعيبهم والإزراء بهم، وأنهم قومٌ جُهالٌ لا عقول لهم، وإنما هم أصحاب ظواهر سمعية، وينقلون من مثالبهم وبَلَهِهم ما بعضه صدقٌ وأكثره كذبٌ، كما يُحكى أن بعضهم سُئل عن قوله: {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى} [طه: 4] هل هو حقيقة أو مجاز؟ قال: لا حقيقة ولا مجاز. فقال له: جزاك الله عن ظاهريتك خيرًا. وأمثال هذا. ويحكون عنهم إنكار أدلة العقول، والبحث والنظر وجدال أهل الباطل، والنفوس طالبة للنظر والبحث والتعقل.
ومنها: قولهم: إن الخطاب بالمجاز والاستعارة أعذبُ وأوفق وألطف. وقد قال بعض أئمة النحاة: أكثر اللغة مجاز. فإذا كان أكثر اللغة مجازًا سهل على النفوس أنواع التأويلات، فقُلْ ما شئتَ، وأوِّلْ ما شئتَ وانزِلْ عن الحقيقة، ولا يضرك أي مجازٍ ركبتَه.
ومنها: قولهم: إن أدلة القرآن والسُّنَّة أدلةٌ لفظيةٌ، وهي لا تفيد علمًا ولا يقينًا، والعلم إنما يستفاد من أدلة المعقول وقواعد المنطق.
ومنها: قولهم: إذا تعارَضَ العقلُ والنقل قدِّم العقل على النقل.
فهذه المقدمات ونحوها هي أساس التأويل، فإذا انضمت هذه الأسباب بعضها إلى بعضٍ وتقارَنَت، فيا محنة القرآن والسُّنَّة، وقد سلكا في قلوبٍ قد تمكنت منها هذه الأسباب، فهنالك التأويل والتحريف والتبديل والإضمار والإجمال.
الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة - ط عطاءات العلم (1/ 211 - 222)