قصة ذو البِجادَين رضي الله عنه

 

كان ذو البِجادَين يتيمًا في الصِّغَرِ، فكَفَلَهُ عمُّه، فنازعتْه نفسُه إلى اتباع الرسولِ، فهَمَّ بالنُّهوضِ؛ فإذا بقيةُ المرض مانعةٌ، فقعد ينتظرُ العمَّ، فلما تكاملتْ صحَّتُهُ؛ نَفِدَ الصبرُ، فناداه ضميرُ الوجدِ:

إلى كمْ حَبْسُها تَشْكو المَضِيقا … أثِرْها رُبَّما وَجَدَتْ طريقَا

فقال: يا عمُّ! طال انتظاري لإسلامِكَ، وما أرى منكَ نشاطًا!! فقال: والله؛ لئنْ أسلمتَ لأنتزِعَنَّ كلَّ ما أعطيتُكَ. فصاح لسانُ الشوقِ: نظرةٌ من محمدٍ أحبُّ إليَّ من الدُّنيا وما فيها.

ولَوْ قيلَ لِلْمَجْنونِ ليلى ووَصْلَها … تريدُ أمِ الدُّنْيا وما في طواياها

لَقال تُرابٌ من غُبارِ نعالِها … ألذُّ إلى نَفْسي وأشْفى لِبَلْواها

فلمَّا تجرَّدَ للسير إلى الرسول؛ جرَّدَهُ عمُّه من الثياب، فناولتْهُ الأمُّ بِجادًا، فقطعَهُ لسفرِ الوصل نصفين؛ اتَّزرَ بأحدِهِما وارتدى بالآخر، فلما نَادى صائحُ الجهاد؛ قنِعَ أن يكون في ساقةِ الأحباب، والمحبُّ لا يرى طولَ الطريق؛ لأنَّ المقصودَ يُعينُهُ.

ألا بَلَّغَ اللَّهُ الحِمى مَنْ يُريدُهُ … وبَلَّغَ أكْنافَ الحِمى مَنْ يُريدُها

فلما قضى نَحْبَهُ نزل الرسولُ يُمهِّدُ له لَحْدَهُ، وجعل يقولُ: "اللهمَّ! إنِّي أمْسَيتُ عنهُ راضيًا؛ فارْضَ عنْهُ". فصاحَ ابنُ مسعودٍ: يا ليتني كنتُ صاحبَ القبرِ.


الفوائد - ط عطاءات العلم (1/ 59 - 60)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله