التوسط المحمود بين التنطُّع والتفريط

وقد ظهر بهذا أنَّ التعمُّق والتنطُّع والتَّشديد الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخالف لهَدْيه وهَدْي أصحابه، وما كانوا عليه. وأنَّ موافقته فيما فعله هو وخلفاؤه من بعده هو محض المتابعة، وإنْ أباها مَنْ أباها، وجهلها مَنْ جهلها.

فالتعمُّق والتَّنطُّع: مخالفة ما جاء به، وتجاوزه، والغلوُّ فيه.

ويقابِلُهُ: إضاعته، والتَّفريط فيه، والتَّقصير عنه. وهما خطأٌ وضلالةٌ، وانحرافٌ عن الصَّراط المستقيم والمنهج القويم. ودين الله بين الغالي فيه والجافي عنه.

وقد قال علي بن أبي طالبٍ: «خير النَّاس النَّمط الأوسط؛ الذي يرجع إليهم الغالي، ويلحق بهم التَّالي». ذكره ابن المبارك عن محمد ابن طلحة عن عليٍّ. وقال ابن عائشة: «ما أمر الله عباده بأمرٍ إلَّا وللشَّيطان فيه نزغتان؛ فإمَّا إلى غلوٍّ، وإمَّا إلى تقصير».

وقال بعض السَّلف: «دينُ الله بين الغالي فيه والجافي عنه».

وقد مَدَح تعالى أهل التَّوسُّط بين الطَّرَفين المنْحَرِفَيْن في غير موضعٍ من كتابه، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان/67]. وقال تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء/29]. وقال: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} [الإسراء/26].

فمَنْعُ ذي القُرْبى والمسكين وابن السَّبيل حقَّهُم انحرافٌ في جانب الإمساك، والتَّبذيرُ انحرافٌ في جانب البَذْل، ورضا الله فيما بينهما؛ ولهذا كانت هذه الأمَّة أوسط الأُمم، وقبلتها أوسط القِبَل بين القِبْلَتَيْن المنحَرِفَتَيْن، والوسط دائمًا محميٌّ بالأطراف، فالخَلَل إليها أسرع كما قال الشَّاعر:

كانت هي الوسط المحْمِي فاكتَنَفَتْ … بها الحوادث حتَّى أصبحَتْ طَرَفَا

فقد اتَّفق شرع الرَّب تعالى وقدره على أنَّ خيار الأمور أوساطها.


الصلاة - ط عطاءات العلم (1/ 393 - 396)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله