التفاضل بين: عشر ذي الحجة والعشر الأواخر من رمضان

ومن ‌ذلك: ‌تفضيل ‌شهر ‌رمضان ‌على ‌سائر ‌الشهور، ‌وتفضيل ‌عشره ‌الأخير ‌على ‌سائر ‌الليالي، ‌وتفضيل ‌ليلة ‌القدر ‌فيه ‌على ‌ألف ‌شهر.

فإن قلت: فأي العشرين أفضل: عشر ذي الحجة، أم العشر الأخير من رمضان؟ وأي الليلتين أفضل: ليلة القدر، أو ليلة الإسراء؟

قلت: أما السؤال الأول، فالصواب فيه أن يقال: ليالي العشر الأخير من رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة، وأيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام عشر رمضان؛ وبهذا التفصيل يزول الاشتباه. ويدل عليه أن ليالي العشر من رمضان إنما فضلت باعتبار ليلة القدر وهي من الليالي، وعشر ذي الحجة إنما فضل باعتبار أيامه، إذ فيه يوم النحر ويوم عرفة ويوم التروية.

وأما السؤال الثاني، فقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه عن رجل قال: ليلة الإسراء أفضل من ليلة القدر، وقال آخر: بل ليلة القدر أفضل، فأيهما المصيب؟

فأجاب: الحمد لله. أما القائل: إن ليلة الإسراء أفضل من ليلة القدر، إن أراد بذلك أن الليلة التي أسري فيها بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ونظائرها من كل عام أفضل لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - من ليلة القدر بحيث يكون قيامها والدعاء فيها أفضل منه في ليلة القدر؛ فهذا باطل لم يقله أحد من المسلمين، وهو معلوم الفساد بالاضطرار من دين الإسلام. هذا إذا كانت ليلة الإسراء تعرف عينها، فكيف ولم يقم دليل معلوم لا على شهرها، ولا عشرها، ولا عينها؛ بل النقول في ذلك منقطعة ليس فيها ما يقطع به. ولا يشرع للمسلمين تخصيص الليلة التي يظن أنها ليلة الإسراء بقيام ولا غيره، بخلاف ليلة القدر فإنه قد ثبت في "الصحيحين" عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه". وفي "الصحيحين" عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان". وقد أخبر الله سبحانه أنها خير من ألف شهر، وأنه أنزل فيها القرآن.

وإن أراد أن الليلة المعينة التي أسري فيها بالنبي - صلى الله عليه وسلم - حصل له فيها ما لم يحصل له في غيرها، من غير أن يشرع تخصيصها بقيام ولا عبادة؛ فهذا صحيح. وليس إذا أعطى الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - فضله في مكان أو زمان يجب أن يكون ذلك المكان والزمان أفضل من جميع الأمكنة والأزمنة. هذا إذا قدر أنه قام دليل على أن إنعام الله تعالى على نبيه ليلة الإسراء كان أعظم من إنعامه عليه بإنزال القرآن ليلة القدر وغير ذلك من النعم التي أنعم عليه.

والكلام في مثل هذا يحتاج إلى علم بحقائق الأمور، ومقادير النعم التي لا تعرف إلا بوحي، ولا يجوز لأحد أن يتكلم فيها بلا علم. ولا يعرف عن أحد من المسلمين أنه جعل لليلة الإسراء فضيلة على غيرها، لا سيما على ليلة القدر، ولا كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان يقصدون تخصيص ليلة الإسراء بأمر من الأمور ولا يذكرونها، ولهذا لا يعرف أي ليلة كانت. وإن كان الإسراء من أعظم فضائله - صلى الله عليه وسلم -، ومع هذا فلم يشرع تخصيص ذلك الزمان ولا ذلك المكان بعبادة شرعية. بل غار حراء الذي ابتدئ فيه بنزول الوحي وكان يتحراه قبل النبوة لم يقصده هو ولا أحد من أصحابه بعد النبوة مدة مقامه بمكة، ولا خص اليوم الذي أنزل فيه الوحي بعبادة ولا غيرها، ولا خص المكان الذي ابتدئ فيه بالوحي ولا الزمان بشيء. ومن خص الأمكنة والأزمنة من عنده بعبادات لأجل هذا وأمثاله كان من جنس أهل الكتاب الذين جعلوا لزمان أحوال المسيح مواسم وعبادات، كيوم الميلاد، ويوم التعميد، وغير ذلك من أحواله. وقد رأى عمر بن الخطاب جماعة ينتابون مكانا يصلون فيه، فقال: ما هذا؟ فقالوا: مكان صلى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد؟! إنما هلك من كان قبلكم بهذا، فمن أدركته فيه الصلاة فليصل، وإلا فليمض.

وقد قال بعض الناس: إن ليلة الإسراء في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل من ليلة القدر، وليلة القدر بالنسبة إلى الأمة أفضل من ليلة الإسراء، فهذه الليلة في حق الأمة أفضل لهم، وليلة الإسراء في حق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفضل له.


زاد المعاد في هدي خير العباد - ط عطاءات العلم (1/ 35 - 39)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله