وكذلك ما احتج به سبحانه على النصارى مُبطلا لدعوى إلهية المسيح كقوله: (لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ) [الأنبياء17] فأخبر أن هذا الذي أضافه من نسبة الولد إلى الله من مشركي العرب والنصارى غير سائغ في العقول إذا تأمله المتأمل، ولو أراد الله أن يفعل هذا لكان يصطفي لنفسه ويجعل هذا الولد المتخذ من الجوهر الأعلى السماوي الموصوف بالخلوص والنقاء من عوارض البشر المجبول على الثبات والبقاء، لا من جوهر هذا العالم الفاني الدائر الكثير الأوساخ والأدناس والأقذار، ولما كان هذا الحجاج كما ترى في هذه القوة والجلالة أتبعه بقوله: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ) [الأنبياء18] ونظير هذا قوله: (لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ) [الزمر4] وقال سبحانه: (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) [المائدة75] وقد تضمنت هذه الحجة دليلين ببطلان إلهية المسيح وأُمّه:
أحدهما: حاجتهما إلى الطعام والشراب وضعف بنيتهما عن القيام بنفسهما، بل هي محتاجة فيما يقيمها إلى الغذاء والشراب، والمحتاج إلى غيره لا يكون إلها؛ إذ من لوازم الإله أن يكون غنيا.
الثاني: أن الذي يأكل الطعام يكون منه ما يكون من الإنسان من الفضلات القذرة التي يستحي الإنسان من نفسه وغيره حال انفصالها عنه؛ بل يستحي من التصريح بذكرها.
ولهذا -والله أعلم- كنّى سبحانه عنها بلازمها من أكل الطعام الذي ينتقل الذهن منه إلى ما يلزمه من هذه الفضلة؛ فكيف يليق بالرب سبحانه أن يتخذ صاحبة وولدا من هذا الجنس، ولو كان يليق به ذلك أو يمكن لكان الأولى به أن يكون من جنسٍ لا يأكل ولا يشرب ولا يكون منه الفضلات المستقذرة التي يُستحى منها ويرغب عن ذكرها.
فانظر ما تضمنه هذا الكلام الوجيز البليغ المشتمل على هذا المعنى العظيم الجليل الذي لا يجد سامعه مغمزا له ولا مطعنا فيه ولا تشكيكا ولا سؤالا يورده عليه، بل يأخذ بقلبه وسمعه.
الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة (2/ 481 - 483)