كان صلى الله عليه وسلم يصلِّي العيدين في المصلَّى، وهو المصلَّى الذي على باب المدينة الشرقي، يوضع فيه محمِلُ الحاجِّ. ولم يصلِّ العيد بمسجده إلا مرةً واحدةً، أصابهم مطر فصلَّى بهم العيد في المسجد، إن ثبت الحديث، وهو في سنن أبي داود وابن ماجه. وهديه كان فعلها في المصلَّى دائمًا.
وكان يلبس للخروج إليهما أجمل ثيابه، فكان له حُلَّة يلبسها للعيدين والجمعة. ومرةً كان يلبس بُردين أخضرين، ومرةً بردًا أحمر.
وليس هذا أحمر مُصْمَتًا كما يظنُّه بعض الناس، فإنه لو كان كذلك لم يكن بردًا، وإنما فيه خطوط حمر كالبرود اليمنية، فسمي أحمر باعتبار ما فيه من ذلك. وقد صحَّ عنه من غير معارض النهيُ عن لبس المعصفَر والأحمر. وأمر عبد الله بن عمرو لما رأى عليه ثوبين أحمرين أن يحرقهما. فلم يكن ليكره الأحمر هذه الكراهة الشديدة، ثم يلبسه. والذي يقوم عليه الدليل تحريم لباس الأحمر أو كراهته كراهةً شديدةً.
وكان يأكل قبل خروجه في عيد الفطر تمراتٍ، ويأكلهن وترًا. وأما في عيد الأضحى فكان لا يطعم حتى يرجع من المصلَّى، فيأكل من أضحيته.
وكان يغتسل للعيد إن صحَّ الحديث فيه. وفيه حديثان ضعيفان:
حديث ابن عباس من رواية جُبارة بن مغلِّس، وحديث الفاكه بن سعد من رواية يوسف بن خالد السَّمْتي. ولكن ثبت عن ابن عمر مع شدَّة اتباعه للسنَّة أنه كان يغتسل يوم العيد قبل الخروج.
وكان صلى الله عليه وسلم يخرج ماشيًا، والعَنَزة(*) تُحمَل بين يديه. فإذا وصل إلى المصلَّى نُصِبت بين يديه ليصلِّي إليها، فإنَّ المصلَّى كان إذ ذاك فضاءً لم يكن فيه بناء ولا حائط، وكانت الحَرْبة سُترته.
وكان يؤخِّر صلاة عيد الفطر، ويعجِّل الأضحى. وكان ابن عمر مع شدَّة اتباعه للسُّنَّة لا يخرج حتى تطلع الشمس، ويكبِّر من بيته إلى المصلَّى.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا انتهى إلى المصلَّى أخذ في الصلاة، من غير أذان ولا إقامة، ولا قول: الصلاة جامعة. فالسُّنَّة أن لا يُفعَل شيء من ذلك.
ولم يكن هو ولا أصحابه يصلُّون إذا انتهوا إلى المصلَّى شيئًا قبل الصلاة ولا بعدها.
وكان يبدأ بالصلاة قبل الخطبة، فيصلِّي ركعتين. يكبِّر في الأولى سبع تكبيرات متوالية بتكبيرة الافتتاح، بين كلِّ تكبيرتين سكتةٌ يسيرةٌ. ولم يُحفَظ عنه ذكرٌ معيَّن بين التكبيرات، ولكن ذُكِر عن ابن مسعود أنه قال: يحمد الله، ويثني عليه، ويصلِّي على النبي صلى الله عليه وسلم. ذكره الخلال. وكان ابن عمر مع تحرِّيه للاتباع يرفع يديه مع كلِّ تكبيرة.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا أتمَّ التكبيرَ أخذ في القراءة. فقرأ فاتحة الكتاب، ثم قرأ بعدها (ق والقرآن المجيد) في إحدى الركعتين، وفي الأخرى (اقتربت الساعة وانشق القمر). وربما قرأ فيهما بـ (سبح اسم ربك الأعلى) و (هل أتاك حديث الغاشية). صحَّ عنه هذا وهذا، ولم يصحَّ عنه غير ذلك.
فإذا فرغ من القراءة كبَّر وركَع. ثم إذا أكمل الركعة وقام من السجود كبَّر خمسًا متواليةً. فإذا أكمل التكبير أخذ في القراءة، فيكون التكبير أول ما يبدأ به في الركعتين، والقراءة تلي الركوعَ.
وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه والى بين القراءتين، فكبَّر أولًا، ثم قرأ وركع. فلما قام في الثانية قرأ، وجعل التكبير بعد القراءة. ولكن لا يثبت هذا عنه، فإنه من رواية محمد بن معاوية النيسابوري، قال البيهقي: رماه غير واحد بالكذب.
وقد روى الترمذي من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جدِّه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كبَّر في العيدين في الأولى سبعًا قبل القراءة وفي الآخرة خمسًا قبل القراءة. قال الترمذي: سألت محمدًا ــ يعني البخاريَّ ــ عن هذا الحديث، فقال: ليس في هذا الباب شيء أصحُّ من هذا، وبه أقول. قال: وحديث عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه في هذا الباب هو صحيح أيضًا.
قلت: يريد به حديثه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كبَّر في عيد ثنتي عشرة تكبيرةً: سبعًا في الأولى وخمسًا في الآخرة، ولم يصلِّ قبلها ولا بعدها. قال أحمد: أنا أذهب إلى هذا.
قلت: وكثير بن عبد الله بن عمرو هذا ضَرَب أحمد على حديثه في «المسند»، وقال: لا يساوي حديثه شيئًا. والترمذي تارةً يصحِّح حديثه وتارةً يحسِّنه. وقد صرَّح البخاري بأنه أصحُّ شيء في الباب مع حكمه بصحة حديث عمرو بن شعيب، وأخبر أنه يذهب إليه. فالله أعلم.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا أكمل الصلاة انصرف، فقامَ مقابلَ الناس، والناسُ جلوسٌ على صفوفهم، فيعظهم ويوصيهم ويأمرهم. وإن كان يريد أن يقطع بعثًا قطعه، أو يأمر بشيء أمَر به. ولم يكن هنالك منبر يرقى عليه، ولم يكن يُخرَج منبرُ المدينة، وإنما كان يخطبهم قائمًا على الأرض. قال جابر بن عبد الله: «شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة يوم العيد، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بلا أذان ولا إقامة. ثم قام متوكِّئًا على بلال، فأمر بتقوى الله، وحثَّ على طاعته، ووعظ الناسَ، وذكَّرهم. ثم مضى حتى أتى النساءَ، فوعَظَهن وذكَّرهن». متفق عليه.
وقال أبو سعيد الخُدريُّ: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج يومَ الفطر والأضحى إلى المصلَّى، فأوَّلُ ما يبدأ به الصلاةُ. ثم ينصرف، فيقوم مقابلَ الناس، والناسُ جلوسٌ على صفوفهم» الحديث. رواه مسلم.
وقد ذكر أبو سعيد الخُدريُّ أنه صلى الله عليه وسلم كان يخرج يوم العيد، فيصلِّي بالناس ركعتين، ثم يسلِّم، فيقف على راحلته، فيستقبل الناسَ وهم جلوس، فيقول: «تصدَّقوا»، فأكثرُ مَن يتصدَّق النساءُ بالقرط والخاتم والشيء. فإن كانت له حاجةٌ يريد أن يبعث بعثًا يذكُره لهم، وإلَّا انصرف.
وقد كان يقع لي أنّ هذا وهم، فإنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم إنما كان يخرج إلى العيد ماشيًا، والعنَزةُ بين يديه، وإنما خطب على راحلته يومَ النَّحر بمنًى، إلى أن رأيت بقيَّ بن مخلد الحافظ قد ذكر هذا الحديث في «مسنده» عن أبي بكر بن أبي شيبة، ثنا عبد الله بن نمير، ثنا داود بن قيس، ثنا عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح، عن أبي سعيد الخُدري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج يوم العيد ويوم الفطر، فيصلِّي بالناس تينك الركعتين، ثم يسلِّم، فيستقبل الناس فيقول: «تصدَّقوا»، فكان أكثرَ من يتصدَّق النِّساءُ. فذكر الحديث.
ثم قال: ثنا أبو بكر بن خلاد، ثنا أبو عامر، ثنا داود، عن عياض، عن أبي سعيد: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج في يوم الفطر، فيصلِّي بالناس، فيبدأ بالركعتين ثم يستقبلهم وهم جلوس، فيقول: «تصدَّقوا»، فذكر مثله. وهذا إسناد ابن ماجه إلا أنه رواه عن أبي كريب، عن أبي أسامة، عن داود. فلعله: «ثم يقوم على رجليه» كما قال جابر: «قام متوكِّئًا على بلال»، فتصحَّفت على الكاتب بـ «راحلته»، فالله أعلم.
فإن قيل: فقد أخرجا في «الصحيحين» عن ابن عباس قال: «شهدت صلاة الفطر مع نبي الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكلُّهم يصلِّيها قبل الخطبة، ثم يخطب. قال: فنزل نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم، كأنِّي أنظر إليه حين يُجلِس الرِّجالَ بيده، ثم أقبل يشقُّهم حتى جاء النِّساءَ، ومعه بلال، فقال: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} [الممتحنة: 12]، فتلا الآية حتى فرغ منها» الحديث. وفي «الصحيحين» أيضًا عن جابر «أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قام، فبدأ بالصلاة، ثم خطب الناسَ بعدُ. فلما فرغ نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم نزَل، فأتى النساءَ فذكَّرهن» الحديث. وهذا يدل على أنه كان يخطب على منبر أو راحلته، ولعله كان قد بني له منبر من لَبِن وطين أو نحوه؟
قيل: لا ريب في صحَّة هذين الحديثين، ولا ريب أنَّ المنبر لم يكن يُخرَج من المسجد. وأولُ من أخرجه مروان بن الحكم، فأُنكِرَ عليه. وأمَّا منبر اللَّبِن والطين فأوَّلُ من بناه كَثير بن الصَّلْت في إمارة مروان على المدينة كما هو في «الصحيحين». فلعله صلى الله عليه وسلم كان يقوم في المصلَّى على مكان مرتفع، أو دُكَّان ــ وهي التي تُسمَّى المِصْطَبَّة ــ ثم ينحدر منه إلى النساء، فيقف عليهن، ويخطبهن، فيعظهن ويذكِّرهن. والله أعلم.
وكان يفتتح خطبه كلَّها بالحمد لله. ولم يُحفَظ عنه في حديث واحد أنه افتتح خطبتي العيدين بالتكبير، وإنما روى ابن ماجه في «سننه» عن سعد مؤذِّن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر التكبير بين أضعاف الخطبة، يكثر التكبير في خطبة العيدين. وهذا لا يدل على أنه كان يفتتحها به.
وقد اختلف الناس في افتتاح خطبة العيد والاستسقاء، فقيل: تُفتتحان بالتكبير. وقيل: تفتتح خطبة الاستسقاء بالاستغفار. وقيل: تفتتحان بالحمد. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهو الصواب فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كلُّ أمر ذي بال لا يُبدأ فيه بحمد الله فهو أجذَم». وكان يفتتح خطبه كلَّها بالحمد.
ورخَّص صلى الله عليه وسلم لمن شهد العيد أن يجلس للخطبة وأن يذهب ورخَّص لهم إذا وقع العيدُ يوم الجمعة أن يجتزئوا بصلاة العيد عن حضور الجمعة.
وكان صلى الله عليه وسلم يخالف الطريق يوم العيد، فيذهب في طريق ويرجع في أخرى، فقيل: ليسلِّم على أهل الطريقين، وقيل: لينال بركته الفريقان، وقيل: ليقضي حاجةَ من له حاجة منهما، وقيل: ليُظهِر شعائرَ الإسلام في سائر الفِجاج والطرق. وقيل: ليغيظ المنافقين برؤيتهم عزَّةَ الإسلام وأهله وقيامَ شعائره. وقيل: لتكثر شهادة البقاع له، فإنَّ الذاهب إلى المسجد أو المصلَّى إحدى خطوتيه ترفع درجةً، والأخرى تحُطُّ خطيئةً، حتَّى يرجع إلى منزله. وقيل ــ وهو الأصح ــ: إنَّه لذلك كلِّه ولغيره من الحِكم التي لا يخلو فعلُه عنها.
وروي عنه أنه كان يكبِّر من صلاة الفجر يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق: «الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد».
زاد المعاد في هدي خير العباد (1/ 425 - 433)
(*)العَنَزة: عصا قدر نصف الرمح أو أكبر لها ساق مثل ساق الرمح.