فنقول وبالله التَّوفيق: الإيجاز والتَّخفيف المأمور به، والتَّطويل المنهي عنه لا يمكن أنْ يُرْجَع فيه إلى عادة طائفةٍ، وأهل بلدٍ، وأهل مذهبٍ، ولا إلى شهوة المأمومين ورضاهم، ولا إلى اجتهاد الأئمَّة الذين يصلُّون بالناس، ورأيهم في ذلك؛ فإنَّ ذلك لا ينضبط، وتضطرب فيه الآراء والإرادات أعظم اضطراب، ويفسد وضع الصَّلاة، ويصير مقدارها تبعًا لشهوة النَّاس.
ومثل هذا لا تأتي به شريعةٌ؛ بل المرجع في ذلك والتَّحاكم إلى ما كان يفعله من شَرَع الصَّلاة للأمَّة، وجاءهم بها من عند الله، وعلَّمهم حقوقها، وحدودها، وهيئاتها، وأركانها. وكان يصلِّي وراءَه الصغير، والكبير، والضعيف، وذو الحاجة، ولم يكن بالمدينة إمامٌ غيره، صلوات الله وسلامه عليه.
فالذي كان يفعله صلوات الله وسلامه عليه هو الذي كان يأمر به؛ فإنَّه كان إذا أمر بأمرٍ كان أوَّل الناس وأولاهم أخذًا به، وإذا نهى عن شيءٍ كان أحقَّ الناس وأولاهم بتركه؛ ولهذا قال شعيبٌ صلوات الله وسلامه عليه: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود/88].
وقد سُئِل بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته عن صلاته؛ فأجابوا من سألهم بصلاته التي كان يصلِّيها حتى قَبَضَه الله.
كما روى قَزَعة قال: رأيتُ أبا سعيدٍ الخدري وهو مكثورٌ عليه، فلمَّا تفرَّق الناس عنه قلتُ: إنِّي لا أسألك عمَّا يسألك هؤلاء عنه؟ أسألك عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: مالَكَ في ذلك من خيرٍ؟ فأعادها عليه، فقال: «كانت صلاة الظهر تُقَام، فينطلق أحدنا إلى البقيع، فيقضي حاجته، ثُمَّ يأتي أهلَه، فيتوضَّأ، ثم يرجع إلى المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الرَّكعة الأولى؛ ممَّا يطوِّلها». رواه مسلم في «الصَّحيح».
وهذا يدلُّ على أنَّ الذي أنكره أبوسعيد، وأنس، وعمران بن حصين، والبراء بن عازب= إنَّما هو حذف الصَّلاة، والاختصار فيها، والاقتصار على بعض ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله.
ولهذا لمَّا صلَّى بهم أنسٌ قال: «إنِّي لا آلو أنْ أصلِّي بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم». قال ثابتٌ: «فكان أنسٌ يصنع شيئًا لا أراكم تصنعونه، كان إذا انتصب قائمًا يقوم حتى يقول القائل: قد أوْهَمَ، وإذا جلس بين السَّجدتين مَكَث حتى يقول القائل: قد أوْهَمَ».
الصلاة لابن القيم (ص: 331 - 334)